الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد قال الله تعالى : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وأما قوله الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر .

وكقوله صلى الله عليه وسلم : شارب الخمر كعابد الوثن وأبدا المشبه به ينبغي أن يكون أعلى رتبة فكذلك قوله صلى الله عليه وسلم الصبر نصف الإيمان لا يدل على أن الشكر مثله وهو كقوله عليه السلام الصوم نصف الصبر فإن كل ما ينقسم قسمين يسمى أحدهما نصفا ، وإن كان بينهما تفاوت كما يقال : الإيمان هو العلم والعمل فالعمل هو نصف الإيمان فلا يدل ذلك على أن العمل يساوي العلم وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء دخولا الجنة سليمان بن داود لمكان ملكه ، وآخر أصحابي دخولا الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه وفي خبر آخر يدخل سليمان بعد الأنبياء بأربعين خريفا وفي الخبر : أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر ، فإنه مصراع واحد ، وأول من يدخله أهل البلاء ، إمامهم أيوب عليه السلام وكل ما ورد في فضائل الفقر يدل على فضيلة الصبر لأن الصبر حال ، الفقير والشكر حال الغني فهذا هو المقام الذي يقنع العوام ويكفيهم في الوعظ اللائق والتعريف لما فيه صلاح دينهم

المقام الثاني هو البيان الذي نقصد به تعريف أهل العلم والاستبصار بحقائق الأمور بطريق الكشف والإيضاح فنقول فيه : كل أمرين مبهمين : لا تمكن الموازنة بينهما مع الإبهام ما لم يكشف عن حقيقة كل واحد منهما وكل مكشوف يشتمل على أقسام لا تمكن الموازنة بين الجملة والجملة ، بل يجب أن تفرد الآحاد بالموازنة حتى يتبين الرجحان

والصبر والشكر أقسامهما وشعبهما كثيرة فلا يتبين لحكمهما في الرجحان والنقصان مع الإجمال ، فنقول : قد ذكرنا أن هذه المقامات تنتظم من أمور ثلاثة : علوم وأحوال وأعمال والشكر والصبر وسائر المقامات هي كذلك وهى الثلاثة إذا وزن البعض منها بالبعض لاح للناظرين في الظواهر أن العلوم تراد للأحوال ، والأحوال تراد للأعمال ، والأعمال هي الأفضل وأما أرباب البصائر فالأمر عندهم بالعكس من ذلك فإن الأعمال تراد للأحوال والأحوال تراد للعلوم فالأفضل العلوم ثم الأحوال ثم الأعمال لأن كل مراد لغيره فذلك الغير لا محالة أفضل منه ، وأما آحاد هذه الثلاثة فالأعمال قد تتساوى وقد تتفاوت إذا أضيف بعضها إلى بعض ، وكذا آحاد الأحوال إذا أضيف بعضها إلى بعض وكذا آحاد المعارف : وأفضل المعارف علوم المكاشفة وهي أرفع من علوم المعاملة ، بل علوم المعاملة دون المعاملة : لأنها تراد ، للمعاملة ، ففائدتها إصلاح العمل ، وإنما فضل العالم بالمعاملة على العابد إذا كان علمه مما يعم نفعه فيكون بالإضافة إلى عمل خاص أفضل وإلا فالعلم القاصر بالعمل ليس بأفضل من العمل القاصر فنقول : فائدة إصلاح العمل إصلاح حال القلب ، وفائدة إصلاح حال القلب أن ينكشف له جلال الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله ، فأرفع علوم المكاشفة معرفة الله سبحانه وهي الغاية التي تطلب لذاتها ، فإن السعادة تنال بها بل هي عين السعادة ، ولكن قد لا يشعر القلب في الدنيا بأنها عين السعادة ، وإنما يشعر بها في الآخرة فهي المعرفة الحرة التي لا قيد عليها فلا تتقيد بغيرها

وكل ما عداها من المعارف عبيد وخدم ، بالإضافة إليها فإنها إنما تراد لأجلها

ولما كانت مرادة لأجلها كان تفاوتها بحسب نفعها في الإفضاء إلى معرفة الله تعالى فإن بعض المعارف يفضي إلى بعض إما بواسطة أو بوسائط كثيرة ، فكلما كانت الوسائط بينه وبين معرفة الله تعالى أقل فهي أفضل وأما الأحوال فنعني بها أحوال القلب في تصفيته وتطهيره عن شوائب الدنيا ، وشواغل الخلق ، حتى إذا طهر وصفا اتضح له حقيقة الحق فإذا فضائل الأحوال بقدر تأثيرها في إصلاح القلب وتطهيره وإعداده : لأن تحصل له علوم المكاشفة وكما أن تصقيل المرآة يحتاج إلى أن يتقدم على تمامه أحوال للمرآة بعضها أقرب إلى الصقالة من بعض ، فكذلك أحوال القلب ، فالحالة القريبة أو المقربة من صفاء القلب هي أفضل مما دونها لا محالة بسبب القرب من المقصود وهكذا ترتيب الأعمال فإن تأثيرها في تأكيد صفاء القلب وجلب الأحوال إليه وكل عمل ، إما أن يجلب إليه حالة مانعة من المكاشفة ، موجبة لظلمة القلب ، جاذبة إلى زخارف الدنيا وإما أن يجلب إليه حالة مهيئة ، للمكاشفة ، موجبة لصفاء القلب وقطع علائق الدنيا عنه ،

واسم الأول المعصية ، واسم الثاني الطاعة .

التالي السابق


(وقد) يفضل الصبر على الشكر بوجه آخر، وهو أن الصبر حال البلاء، والشكر حال النعمة، والبلاء أفضل لأنه على النفس أشق (قال الله تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) ، والشاكر يؤتى أجره بحساب لأنه إنما هو تحقيق الوصف ونفي ما عداه، وقد رفع علي رضي الله عنه الصبر على أرفع مقامات اليقين، فقال في حديثه الطويل الذي وصف فيه شعب الإيمان: "والصبر على أربع دعائم: على الشوق، والإشفاق، والزهد، والتقريب. فمن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات"، فجعل هذه المقامات أركان الصبر؛ لأنها توجد عنه، ويحتاج إليه في جميعها، وجعل الزهد أحد أركانه .

(وأما قوله) صلى الله عليه وسلم: (الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر) رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة، وقد تقدم (فهو دليل على الفضيلة في الصبر؛ إذ ذكر ذلك في معرض المبالغة لرفع درجة الشكر، فألحقه بالصبر، فكان هذا منتهى درجته، ولولا أنه فهم من علو درجة الصبر لما كان إلحاق الشكر به مبالغة [ ص: 152 ] في الشكر، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم: الجمعة حج المساكين، وجهاد المرأة حسن التبعل) .

قال العراقي: رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده بالشطر الأول من حديث أبي موسى بسند ضعيف، والطبراني بالشطر الثاني من حديثه بسند ضعيف أيضا أن امرأة قالت: كتب الله الجهاد على الرجال، فما يعدل ذلك من أعمالهم من الطاعة؟ قال: طاعة أزواجهن. وفي رواية: ما جزاء غزوة المرأة؟ قال: طاعة الزوج. الحديث. اهـ .

قلت: وروى الشطر الأول أيضا ابن زنجويه في ترغيبه، والقضاعي في مسند الشهاب، وابن عساكر، وفي لفظ للآخرين: الفقراء، بدل المساكين، وروى الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس: جهاد المرأة حسن التبعل لزوجها، وجهاد الضعفاء الحج.

(وكقوله صلى الله عليه وسلم: شارب الخمر كعابد الوثن) . قال العراقي: رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ: مدمن الخمر، ورواه بلفظ: شارب الخمر، الحارث بن أبي أسامة من حديث عبد الله بن عمرو، وكلاهما ضعيف. وقال ابن عدي: إن حديث أبي هريرة أخطأ فيه محمد بن سليمان بن الأصبهاني اهـ. قلت: ورواه بلفظ المصنف البزار من حديث عبد الله بن عمرو، وفي سنده قطر بن خليفة صدوق، ووثقه أحمد وابن معين، ورواه بلفظ: مدمن، البخاري في تاريخه، وابن حبان من حديث أبي هريرة، ومن رواية محمد بن عبد الله عن أبيه. (وأبدا المشبه به أعلى رتبة) من المشبه وإلا لما حسن وجه التشبيه (فكذلك قوله) صلى الله عليه وسلم (الصبر نصف الإيمان) رواه أبو نعيم والخطيب والبيهقي من حديث ابن مسعود، وقد تقدم. (لا يدل على أن الشكر مثله وهو كقوله) صلى الله عليه وسلم: (الصوم نصف الصبر) رواه ابن ماجه والبيهقي من حديث أبي هريرة، وقد تقدم .

(فإن كل ما ينقسم بنصفين يسمى أحدهما نصفا، وإن كان بينهما تفاوت) في الدرجات (كما يقال: الإيمان هو العلم والعمل) وروى ابن النجار من حديث عبد الله بن أبي أوفى: الإيمان قول وعمل. وروى ابن ماجه والطبراني وهمام والبيهقي والخطيب وابن عساكر من حديث علي: الإيمان عقد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان. (فالعمل هو نصف الإيمان فلا يدل ذلك على أن العمل يساوي العلم) ، وقد اتفق أهل المعرفة على أن العلم أفضل من العمل.

ثم أشار المصنف إلى نوع آخر من الاستدلال على تفضيل الصبر بحال سيدنا سليمان عليه السلام، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وفي أثناء ذلك الإشعار بالرد على من يقول إنهما سيان، وبيان ذلك أنه قد تقدم قول من قال إن الصبر والشكر سيان، لا ترجيح لأحدهما على الآخر، وأنه استدل بحال أيوب وسليمان عليهما السلام حيث أثنى عليهما بثناء واحد، وفي هذا غفلة عن لطائف الأفهام، وذهاب عن حقيقة تدبر الكلام؛ إذ بين ثناء الله تعالى على أيوب عليه السلام في الفضل على ثنائه على سليمان عليه السلام ثلاثة عشر معنى، وشرك سليمان عليه السلام بعد ذلك في وصفين آخرين، وأفرد أيوب عليه السلام بفضل ثناء ثلاثة عشر أول ذلك قوله تعالى في مدحه: "واذكر"، فهذه كلمة مباهاة باهى بأيوب عليه السلام عند رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم وشرفه وفضله بقوله تعالى: واذكر يا محمد، فأمره بذكره والاقتداء به؛ كقوله تعالى: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، قيل: هم أهل الشدائد والبلاء منهم أيوب عليه السلام، قرضوا بالمقاريض، ونشروا بالمناشير، وكانوا سبعين نبيا، وقيل: هم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهؤلاء آباء الأنبياء وأفاضلهم، كقوله تعالى: واذكر في الكتاب إبراهيم ، وكقوله: واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار ،" يعني أصحاب القوة والتمكين، وأهل البصائر واليقين، ثم رفع أيوب إلى مقامهم فضمه إليهم، وجعله سلوة له صلى الله عليه وسلم ثم ذكره إياه وذكر به، ثم قال: عبدنا، فأضافه إليه إضافة تخصيص وتقريب، ولم يدخل بينه وبينه لام تعريف فيقول: عبدا لنا، فألحقه بنظرائه من أهل البلاء في قوله: واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وهم أهل البلاء الذين باهى بهم الأنبياء، وجعل من ذرياتهم الأصفياء، فأضاف أيوب إليهم في حسن الثناء، وفي لفظ التذكرة به في الثناء ثم قال: نادى ربه فأفرده بنفسه لنفسه، وانفرد له في الخطاب بوصفه، وقال: مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ، فوصفه بمواجهة التملق له ولطيف المناجاة فظهر له بوصف الرحمة فاستراح إليه فناداه [ ص: 153 ] فشكا إليه، واستغاث به، فأشبه مقامه مقام موسى ويونس عليهما السلام في قولهما تبت إليك ، وفي قول الآخر: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، وهذا خطاب المشاهدة، ونظر المواجهة .

ثم وصفه بالاستجابة له وأهله بكشف الضر عنه، وجعل كلامه سببا لتنفيذ قدرته، ومكانا لمجاري حكمته، ومفتاحا لفتح إجابته، ثم قال بعد ذلك كله: ووهبنا له أهله ، فزاد على سليمان عليه السلام في الوصف؛ إذ كان بين من وهب لأهله، وبين من وهب له أهله فضل في المدح؛ لأنه قال في وصف سليمان: ووهبنا لداود سليمان ، فأشبه فضل أيوب في ذلك على سليمان كفضل موسى على هارون عليهم السلام، لأنه قال في فضل موسى عليه السلام وتفضيله على هارون عليه السلام: ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ، وكذلك قال في مدح داوود: ووهبنا لداود سليمان ، فوهب لموسى أخاه، كما وهب لداوود ابنه .

وأشبه مقام أيوب في المباهاة والتذكرة به مقام داوود عليه السلام؛ لأنه قال أيضا في وصفه لنبيه صلى الله عليه وسلم: اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ، وكذلك قال في نعت أيوب: واذكر عبدنا أيوب ، فقد شبه أيوب بداوود وموسى عليهما السلام في المعنى، ورفعه إليهما في المقام، وهما في نفوسنا أفضل من سليمان عليه السلام، فأشبه أن يكون حال أيوب أعلى من حال سليمان عليهما السلام، وعلم الله المقدم، ولكن هذا ألقي في قلوبنا والله أعلم .

ثم قال بعد ذلك: رحمة منا ، فذكر نفسه ووصفه عند عبده تشريفا له وتعظيما ثم قال: وذكرى لأولي الألباب ، فجعله إماما للعقلاء، وقدوة لأهل الصبر والبلاء، وتذكرة وسلوة من الكروب للأصفياء، ثم قال عز وجل: إنا وجدناه صابرا ، فذكر نفسه سبحانه ذكرا ثانيا لعبده، ووصل اسمه باسمه حبا له، وقربا منه؛ لأن النون والألف في "وجدناه" اسمه تعالى، والهاء اسم عبده أيوب، ثم قال "صابرا" فوصفه بالصبر، فأظهر مكانه في القوة، ثم قال في آخر أوصافه: نعم العبد إنه أواب ، فهذا أول وصف سليمان وآخره هاهنا شركه في الثناء، وزاد أيوب بما تقدم من المدح والوصف الذي لا يقوم له شيء، وذلك من قوله تعالى: واذكر عبدنا أيوب إلى قوله "أواب"، وجعل في أول وصف سليمان بأنه وهبه لأبيه داوود فصار حسنة من حسنات داوود، واشتمل قوله نعم العبد إنه أواب على أول وصفه وأوسطه وهو آخر وصف أيوب عليهم السلام أجمعين .

(و) قد جاء (في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (آخر الأنبياء دخولا الجنة سليمان بن داوود) عليهما السلام (لمكان ملكه، وآخر أصحابي دخولا الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه) . هكذا أورده صاحب القوت، وبمعنى الشطر الأول حديث معاذ الآتي ذكره بعد بحديث. وروى البزار من حديث أنس: آخر من يدخل الجنة من أغنياء أمتي عبد الرحمن بن عوف، وفيه أغلب بن تميم ضعيف قاله العراقي. (وفي خبر آخر) ولفظ القوت وفي لفظ آخر (يدخل سليمان) بن داوود الجنة (بعد الأنبياء بأربعين خريفا) .

قال العراقي: رواه الديلمي في مسند الفردوس من رواية دينار عن أنس بن مالك، ودينار الحبشي أحد الكذابين على أنس، والحديث منكر، وروى الطبراني في الأوسط من حديث معاذ بن جبل: يدخل الأنبياء كلهم قبل داوود وسليمان الجنة بأربعين عاما. وقال: لم يروه إلا شعيب بن خالد وهو كوفي ثقة .

(وفي الخبر: أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر، فإنه مصراع واحد، وأول من يدخله أهل البلاء، إمامهم أيوب عليه السلام) . هكذا أورده صاحب القوت، وقال العراقي: لم أجد له أصلا، ولا في الأحاديث الواردة في مصاريع أبواب الجنة مفرقة. ثم قال صاحب القوت: وقد زاد أيوب على سليمان عليهما السلام بعموم هذه الآثار لأنه سيد أهل البلاء، وتذكرة وعبرة لأولي النهى، وإمام أهل الصبر والضر والابتلاء .

ثم أشار المصنف إلى تفصيل آخر في تفضيل الصبر فقال: (وكل ما ورد في فضائل الفقر يدل على فضيلة الصبر لأن الصبر حال الفقر، والشكر حال الغنى) فمن فضل الشكر على الصبر في المعنى فكأنه فضل الغنى على الفقر، وليس هذا مذهب أحد من القدماء، إنما هذه طريقة علماء الدنيا طرقوا لنفوسهم بذلك، وطرقوا للخلق إلى نفوسهم من ذلك؛ لأن من فضل الغنى على الفقر فقد فضل الرغبة على الزهد، والعز على الذل، والكبر على التواضع، وفي هذا تفضيل الراغبين والأغنياء على الزاهدين والفقراء، ويخرج ذلك إلى تفضيل أبناء الدنيا على أبناء [ ص: 154 ] الآخرة (فهذا هو المقام الذي يقنع العوام ويكفيهم في الوعظ اللائق بهم والتعريف لما فيه صلاح دينهم) ؛ إذ ليس فيه صرف عن ظواهر الكتاب والسنة .

(المقام الثاني وهو البيان الذي نقصد به تعريف أهل العلم والاستبصار بحقائق الأمور بطريق الكشف والإيضاح) والتبيين والإفصاح (فنقول فيه: كل أمرين مبهمين) أي: غير معلومي الحقائق (لا يمكن الموازنة بينهما مع) وجود (الإبهام) فيهما (ما لم يكشف عن حقيقة كل واحد منهما) فيرتفع الإبهام (وكل مكشوف) معلوم بحقيقته (يشتمل على أقسام) متنوعة (لا يمكن الموازنة بين الجملة والجملة، بل يجب أن تفرد الآحاد بالموازنة حتى يتبين الرجحان) وبه يتوصل إلى الموازنة بين الجملة والجملة (والصبر والشكر أقسامهما وشعبهما كثيرة) . كما تقدم ذكرها (فلا يتبين حكمهما في الرجحان والنقصان مع الإجمال، فنقول: قد ذكرنا) في كتاب التوبة (أن هذه المقامات) التسعة من مقامات اليقين (تنتظم من أمور ثلاثة: علوم وأحوال وأعمال) فالعلوم هي الأصول، والأحوال ما تنشأ عنها من المواجيد، والأعمال ما تنشئها المواجيد على القلوب والجوارح من الأعمال (والشكر والصبر وسائر المقامات) مما ذكر ومما سيذكر (هي كذلك) لابد في انتظامها إلى الأمور المذكورة. (وهذه الثلاثة إذا وزن البعض منها بالبعض لاح للناظرين إلى الظواهر أن العلوم تراد للأحوال، والأحوال تراد للأعمال، والأعمال هي الأفضل) فهذا نظر أرباب الظواهر (وأما أرباب البصائر فالأمر عندهم بالعكس من ذلك فإن الأعمال) عندهم (إنما تراد للأحوال والأحوال) إنما (تراد للعلوم فالأفضل العلوم) وهي المعارف في كل مقام (ثم الأحوال) الناشئة عن مواجيد تلك المعارف (ثم الأعمال) على هذا الترتيب (لأن كل مراد لغيره فذلك الغير لا محالة أفضل منه، وأما آحاد هذه الثلاثة فالأعمال قد تتساوى وقد تتفاوت إذا أضيف بعضها إلى بعض، وكذا آحاد الأحوال وآحاد المعارف) أي: إذا أضيف بعضها إلى بعض .

(وأفضل المعارف علوم المكاشفة وهي أرفع) رتبة (من علوم المعاملة، بل علوم المعاملة دون المعاملة) نفسها (فإنها) أي: تلك العلوم (تراد للمعاملة، ففائدتها إصلاح العمل، وإنما فضل العالم بالمعاملة على العابد إذا كان علمه مما يعم نفعه) على الكل (فيكون بالإضافة إلى عمل خاص أفضل وإلا فالعلم القاصر بالعمل ليس بأفضل من العمل القاصر) وإذا عرفت ذلك (فنقول: فائدة إصلاح العمل إصلاح حال القلب، وفائدة إصلاح حال القلب أن ينكشف له جلال الله تعالى) وعظمته (في ذاته وصفاته وأفعاله، فأرفع علوم المكاشفة معرفة الله سبحانه) في ذاته وصفاته وأفعاله (وهي الغاية التي تطلب لذاتها، فإن السعادة تنال بها) وهي القرب من جوار الله تعالى (بل هي عين السعادة، ولكن قد لا يشعر القلب في الدنيا بأنها عين السعادة، وإنما يشعر بها في الآخرة) عند معاينة الحقائق (فهي المعرفة الحرة التي لا قيد عليها فلا تتقيد بغيرها) وجعلها حرة نظرا إلى انفكاكها عن ربقة التقييد بالغير (وكل ما عداها من المعارف) بمنزلة (عبيد وخدم، بالإضافة إليها فإنها إنما تراد لأجلها) لا لذاتها (ولما كانت مرادة لأجلها كان تفاوتها بحسب نفعها في الإفضاء إلى معرفة الله تعالى فإن بعض المعارف يفضي إلى بعض [ ص: 155 ] إما بواسطة) واحدة (أو بوسائط كثيرة، فكلما كانت الوسائط بينه وبين معرفة الله تعالى أقل فهي أفضل) فهذه معرفة الموازنة في العلوم والمعارف .

(وأما الأحوال فنعني بها أحوال القلب في تصفيته وتطهيره من شوائب الدنيا، وشواغل الخلق، حتى إذا طهر وصفا) عنها (اتضح له حقيقة الحق) ، وهذا إنما ينشأ من مواجيد المعارف. (فإذا فضائل الأحوال بقدر تأثيرها في إصلاح القلب وتطهيره وإعداده) أي: تهيئته (لأن تحصل له علوم المكاشفة) التي هي المرادة لذاتها (وكما أن تصقيل المرآة) عن الكدورات (يحتاج إلى أن يتقدم على تمامه أحوال للمرآة بعضها أقرب إلى الصقالة من بعض، فكذلك أحوال القلب، فالحالة القريبة من صفاء القلب هي أفضل مما دونها لا محالة بسبب القرب من المقصود) فهذا معرفة الموازنة في الأحوال (وهكذا ترتيب الأعمال فإن تأثيرها في تأكد صفاء القلب) وطهارته من الأدناس (وجلب الأحوال إليه وكل عمل، فإما أن يجلب إليه حالة مانعة من المكاشفة، موجبة ظلمة القلب، جاذبة إلى زخارف الدنيا) وبهجاتها، (وإما أن يجلب) إليه (حالة مهيئة للمكاشفة، موجبة صفاء القلب وقطع علائق الدنيا عنه، واسم الأول المعصية، واسم الثاني الطاعة) .




الخدمات العلمية