الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              وكذلك اختلفوا في المقاثي إذا بيعت بأصولها كما هو العادة غالبا . فقال قوم من المتأخرين : يجوز ذلك ؛ لأن بيع أصول الخضراوات ، كبيع الشجر ، وإذا باع الشجرة وعليها الثمر لم يبد صلاحه جاز فكذلك هذا ، وذكر أن هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي .

              [ ص: 180 ] وقال المتقدمون : لا يجوز بحال ، وهو معنى كلامه ومنصوصه . وهو إنما نهى عما يعتاده الناس ، وليست العادة جارية في البطيخ والقثاء والخيار أن يباع دون عروقه ، والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع عنده ، فإن المنصوص عنه في رواية الأثرم ، وإبراهيم بن الحارث في الشجر الذي عليه ثمر لم يبد صلاحه : أنه إن كان الأصل هو مقصوده الأعظم جاز ، وأما إن كان مقصوده الثمرة ، فاشترى الأصل معها حيلة : لم يجز ، وكذلك إذا اشترى أرضا وفيها زرع أو شجر مثمر لم يبد صلاحه ، فإن كانت الأرض هي المقصود : جاز دخول الثمر والزرع معها تبعا ، وإن كان المقصود هو الثمر والزرع ، فاشترى الأرض لذلك : لم يجز ، وإذا كان هذا قوله في ثمرة الشجر ، فمعلوم أن المقصود من المقاثي والمباطخ : إنما هو الخضراوات ، دون الأصول التي ليس لها إلا قيمة يسيرة بالنسبة إلى الخضر .

              وقد خرج ابن عقيل وغيره فيها وجهين :

              أحدهما : جواز بيع المغيبات ، بناء على إحدى الروايتين عنه في بيع ما لم يره . ولا شك أنه ظاهر ، فإن المنع إنما يكون على قولنا : لا يصح بيع ما لم يره ، فإذا صححنا بيع الغائب فهذا من الغائب .

              والثاني : أنه يجوز بيعها مطلقا ، كمذهب مالك إلحاقا لها بلب الجوز ، وهذا القول هو قياس أصول أحمد وغيره لوجهين :

              أحدهما : أن أهل الخبرة يستدلون برؤية ورق هذه المدفونات على حقيقتها ويعلمون ذلك أجود مما يعلمون العبد برؤية وجهه ، والمرجع في كل شيء إلى الصالحين من أهل الخبرة به ، وهم يقرون [ ص: 181 ] بأنهم يعرفون هذه الأشياء كما يعرف غيرها مما اتفق المسلمون على جواز بيعه وأوكد .

              الثاني : أن هذا مما تمس حاجة الناس إلى بيعه . فإنه إذا لم يبع حتى يقلع ، حصل على أصحابه ضرر عظيم ، فإنه قد يتعذر عليهم مباشرة القلع والاستنابة فيه ، وإن قلعوه جملة فسد بالقلع ، فبقاؤه في الأرض كبقاء الجوز واللوز ونحوهما في قشره الأخضر .

              وأحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوزون العرايا مع ما فيها من المزابنة لحاجة المشتري إلى أكل الرطب ، أو البائع إلى أكل الثمر ، فحاجة البائع هنا أوكد بكثير ، وسنقرر ذلك إن شاء الله .

              وكذلك قياس أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث : جواز بيع المقاثي باطنها وظاهرها ، وإن اشتمل ذلك على بيع معدوم ، إذا بدا صلاحها ، كما يجوز بالاتفاق إذا بدا صلاح بعض نخلة أو شجرة أن يباع جميع ثمرها ، وإن كان فيها ما لم يصلح بعد .

              وغاية ما اعتذروا به عن خروج هذا من القياس أن قالوا : إنه لا يمكن إفراد البيع لذلك من نخلة واحدة ؛ لأنه لو أفرد البسرة بالعقد اختلطت بغيرها في يوم واحد ؛ لأن البسرة تصفر في يومها ، وهذا بعينه موجود في المقثاة .

              وقد اعتذر بعض أصحاب الشافعي وأحمد عن بيع المعدوم تبعا بأن ما يحدث من الزيادة في الثمرة بعد العقد ليس بتابع للموجود ، وإنما يكون ذلك للمشتري ؛ لأنه موجود في ملكه .

              والجمهور من الطائفتين يعلمون فساد هذا العذر ؛ لأنه يجب [ ص: 182 ] على البائع سقي الثمرة ، ويستحق إبقاءها على الشجر بمطلق العقد ، ولو لم يستحق الزيادة بالعقد لما وجب على البائع ما به تؤخذ ، فإن الواجب على البائع بحكم البيع توفية المبيع الذي أوجبه العقد ، لا ما كان من موجبات الملك .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية