الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا ؛ أي: أعطوا من أنفسهم العهد على الإيمان؛ الذي معناه قبول جميع ما جاء به من وقع به الإيمان؛ لا تسألوا عن أشياء ؛ وذلك لأنهم إذا كانوا على خطر فيما يسرعون؛ وفيما به ينتفعون من المآكل؛ والمشارب؛ وغيرها من الأقوال؛ والأفعال؛ فهم مثله فيما عنه يسألون؛ سواء سألوا شرعه أو لا؛ لأنه ربما أجابهم من لا يضره شيء إلى ما فيه ضررهم مما سألوه؛ فإنهم لا يحسنون التفرقة بين الخبيث؛ والطيب؛ كما فعل بأهل السبت؛ حيث أبوا الجمعة؛ وسألوه؛ فاشتد اعتناقها حينئذ بقوله: إن الله يحكم ما يريد ؛ وبقوله: ما على الرسول إلا البلاغ ؛ فكان كأنه قيل: فما بلغكم إياه فخذوه بقبول وحسن انقياد؛ وما لا فلا تسألوا عنه؛ وسبب نزولها - كما في الصحيحين عن أنس - رضي اللـه عنه - أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أحفوه بالمسألة؛ فغضب؛ فصعد المنبر فقال: "لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم"؛ وشرع يكرر ذلك؛ وإذ جاء رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه؛ فقال: يا رسول الله؛ من أبي؟ قال: أبوك حذافة؛ ثم أنشأ عمر - رضي اللـه عنه - فقال: رضينا بالله ربا؛ وبالإسلام دينا؛ وبمحمد [ ص: 314 ] رسولا؛ نعوذ بالله من سوء الفتن؛ وفي آخره: فنزلت: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وللبخاري في التفسير؛ عن أنس أيضا؛ قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة ما سمعت مثلها قط؛ قال: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا؛ ولبكيتم كثيرا"؛ فغطى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوههم؛ لهم حنين؛ فقال رجل: من أبي؟ قال: "فلان"؛ فنزلت: لا تسألوا عن أشياء الآية؛ وللبخاري أيضا عن ابن عباس - رضي اللـه عنهما - قال: كان قوم يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استهزاء؛ فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء ؛ حتى فرغ من الآية كلها؛ ولابن ماجة مختصرا؛ وللحافظ أبي القاسم ابن عساكر في "الموافقات"؛ فيما أفاده المحب الطبري في مناقب العشرة؛ وأبي يعلى؛ في مسنده؛ مطولا عن أنس - رضي اللـه عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غضبان؛ ونحن نرى أن معه جبرائيل - عليه السلام - حتى صعد المنبر - وفي رواية: فخطب الناس - فقال: "سلوني؛ فوالله لا تسألوني عن شيء اليوم إلا أخبرتكم - وفي رواية: أنبأتكم - به"؛ فما رأيت يوما كان أكثر باكيا منه؛ فقال رجل: يا رسول الله - وفي رواية: فقام إليه رجل؛ فقال: يا رسول الله - إنا كنا [ ص: 315 ] حديث عهد بجاهلية؛ من أبي؟ قال: "أبوك حذافة" - لأبيه الذي كان يدعى له - وفي رواية: "أبوك حذافة الذي تدعى له" -؛ فقام إليه آخر فقال: يا رسول الله؛ أفي الجنة أنا أم في النار؟ فقال: "في النار"؛ فقام إليه آخر؛ فقال: يا رسول الله؛ أعلينا الحج كل عام؟ - وفي رواية: في كل عام - فقال: "لو قلت: نعم؛ لوجبت؛ ولو وجبت لم تقوموا بها؛ ولو لم تقوموا بها عذبتم"؛ فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: رضينا بالله ربا؛ وبالإسلام دينا؛ وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا - وفي رواية: رسولا - لا تفضحنا بسرائرنا - وفي رواية: فقام إليه عمر بن الخطاب - رضي اللـه عنه - فقال: يا رسول الله؛ إنا كنا حديث عهد بجاهلية؛ فلا تبد علينا سرائرنا؛ أتفضحنا بسرائرنا؟ اعف عنا عفا الله عنك؛ فسري عنه؛ ثم التفت إلى الحائط فذكر بمثل الجنة والنار؛ وللإمام أحمد؛ ومسلم؛ والنسائي؛ والدارقطني؛ والطبري؛ عن أبي هريرة - رضي اللـه عنه - قال: خطب - وفي رواية: خطبنا - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا أيها الناس؛ إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا"؛ فقال رجل - وفي رواية النسائي: "فقال الأقرع بن حابس التميمي -: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت؛ حتى قالها ثلاثا؛ فقال: "من السائل؟"؛ فقال: فلان؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده؛ لو قلت: نعم لوجبت؛ ثم إذا لا تسمعون؛ ولا تطيعون؛ ولكن حجة واحدة"؛ وفي رواية الدارقطني؛ والطبري: [ ص: 316 ] "ولو وجبت ما أطقتموها؛ ولو لم تطيقوها - وفي رواية الطبري: ولو تركتموه - لكفرتم"؛ فأنزل الله (تعالى): يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ؛ ثم قال: "ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم؛ فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم؛ وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه"؛ وفي رواية: "فاجتنبوه"؛ وهذا الحديث له ألفاظ كثيرة من طرق شتى؛ استوفيتها في كتابي "الاطلاع على حجة الوداع"؛ ولا تعارض بين هذه الأخبار؛ ولو تعذر ردها إلى شيء واحد؛ لما تقدم عند قوله (تعالى): لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ؛ من أن الأمر الواحد قد تعدد أسبابه؛ بل وكل ما ذكر من أسباب تلك؛ وما أشبهه؛ كقوله (تعالى): ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال ؛ الآية؛ يصلح أن يكون سببا لهذه؛ وروى الدارقطني؛ في آخر الرضاع؛ من سننه؛ عن أبي ثعلبة الخشني؛ وفي آخر الصيد؛ عن أبي الدرداء - رضي اللـه عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله (تعالى) فرض فرائض فلا تضيعوها؛ وحرم حرمات فلا تنتهكوها؛ وحد حدودا فلا تعتدوها؛ وسكت عن أشياء من غير نسيان؛ فلا تبحثوا عنها"؛ وقال أبو الدرداء: "فلا تكلفوها؛ رحمة من ربكم فاقبلوها"؛ وأخرج حديث أبي الدرداء أيضا الطبراني . [ ص: 317 ] ولما كان الإنسان قاصرا عن علم ما غاب؛ فكان زجره عن الكشف عما يسوؤه زجرا له عن كل ما يتوقع أن يسوءه؛ قال (تعالى): إن تبد ؛ أي: تظهر؛ لكم ؛ بإظهار عالم الغيب لها؛ تسؤكم ؛ ولما كان ربما وقع في وهم متعنت أن هذا الزجر إنما هو لقصد راحة المسؤول عن السؤال؛ خوفا من عواقبه - قال: وإن تسألوا عنها ؛ أي: تلك الأشياء التي تتوقع مساءتكم عند إبدائها؛ حين ينـزل القرآن ؛ أي: والملك حاضر؛ تبد لكم ؛ ولما كان ربما قال: فما له لا يبديها؛ سئل عنها أم لا؟ قال: عفا الله ؛ بما له من الغنى المطلق؛ والعظمة الباهرة؛ وجميع صفات الكمال؛ عنها ؛ أي: سترها؛ فلم يبدها لكم؛ رحمة منه لكم؛ وإراحة عما يسوؤكم؛ ويثقل عليكم في دين؛ أو دنيا; ولما كانت صفاته - سبحانه - أزلية؛ لا توقف لواحدة منها على غيرها؛ وضع الظاهر موضع المضمر؛ لئلا يختص بما قبله؛ فقال - نادبا من وقع منه ذنب إلى التوبة -: والله ؛ أي: الذي له؛ مع صفة الكمال؛ صفة الإكرام؛ غفور ؛ أزلا وأبدا؛ يمحو الزلات؛ عينا وأثرا؛ ويعقبها بالإكرام؛ على عادة الحكماء؛ حليم ؛ أي: لا يعجل على العاصي بالعقوبة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية