الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : ولما دنا مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحبب إليه الخلوة في غار حراء ، فكان يؤتى بطعامه وشرابه فيأكل منه ، ويطعم المساكين ، حتى ظهرت علامات نبوته واختلف فيها ، فحكي عن الشعبي ، وداود بن عامر أن الله تعالى قرن إسرافيل بنبوة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة سنين ، يسمع حسه ولا يرى شخصه ، ويعلمه الشيء بعد الشيء ، ولا ينزل عليه القرآن ، فلما مضت ثلاثة سنين قرن لنبوته جبريل - عليه السلام - فنزل عليه القرآن .

                                                                                                                                            وروى عروة بن الزبير ، عن أبي ذر الغفاري قال سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أول نبوته فقال : " يا أبا ذر أتاني ملكان وأنا ببطحاء مكة ، فوقع أحدهما في الأرض ، والآخر بين السماء والأرض ، فقال أحدهما لصاحبه أهو هو ؟ قال : هو هو ، قال : فزنه برجل من أمته فوزنت برجل فرجحته ، ثم قال : زنه بعشرة ، فوزنت بعشرة فوزنتهم ، ثم قال : زنه بمائة ، فوزنني بمائة فرجحتهم ، ثم قال : زنه بألف فوزنني فرجحتهم ، فجعلوا ينتشرون علي من كفة الميزان قال : فقال : أحدهما للآخر : لو وزنته بأمته لرجحها ، ثم قال أحدهما لصاحبه : شق بطنه ، فشق بطني ، ثم قال : شق قلبه فشق قلبي ، فأخرج منه مغمز الشيطان ، وعلق الدم ، ثم قال : اغسل بطنه غسل الإناء ، واغسل قلبه غسل الملاءة ، ثم دعي بالسكينة كأنها وجه هرة ، فأدخلت قلبي ، ثم قال : خط بطنه ، فخاطا بطني وجعلا الخاتم بين كتفي فما هو إلا أن وليا عني ، فكأنما أعاين الأمر معاينة . فكان هذا مقدمة نبوته ، وهذا قول ثان .

                                                                                                                                            وقالت عائشة رضي الله عنها : أول ما ابتدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا الصادقة تجيء مثل فلق الصبح حتى نزل عليه جبريل .

                                                                                                                                            [ ص: 8 ] فروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين نزل عليه جبريل أنه قال : فغتني غتة وقال : اقرأ قلت وما أقرأ ؟ قال : فغتني ثانية ، وقال : اقرأ . قلت : وما أقرأ ؟ قال : اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى قوله : علم الإنسان ما لم يعلم [ العلق : 1 ، 2 ] .

                                                                                                                                            وهذا قول ثالث ، وليس في هذه الروايات الثلاث تعارض يمنع بعضها عن بعض ، والله أعلم بصحة ذلك في اجتماع وانفراد .

                                                                                                                                            ولما عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حراء ، ودخل على خديجة وحدثها ما كان ، وقال لها : إني أخاف أن يكون قد عرض لي ، فقالت : كلا ما كان ربك يفعل ذلك بك ، وأتت خديجة إلى " ورقة بن نوفل " وكان ابن عمها ، وخرج في طلب الدين وتنصر وقرأ التوراة ، والإنجيل ، وسمع ما في الكتب ، فأخبرته بما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : هذا هو الناموس الذي أنزل على موسى ، ولئن كنت صادقة فإن زوجك محمدا نبي هذه الأمة ، وليلقين من أمته شدة : فإنه ما بعث نبي إلا عودي ، ولئن عشت له لأؤمنن به ، ولأنصرنه نصرا مؤزرا .

                                                                                                                                            فكانت هذه الحال الثانية من أحوال نبوته ، ولم يؤمر فيها بإنذار ، ولا رسالة .

                                                                                                                                            ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عاد إلى منزله قال لخديجة : دثروني وصبوا علي ماء باردا ، فدثروه ، فنزل عليه جبريل - عليه السلام - وقال : يا محمد ، أنت رسول الله ، وأنا جبريل ، وأنزل عليه : ياأيها المدثر قم فأنذر إلى قوله : والرجز فاهجر [ المدثر ]

                                                                                                                                            فكانت هذه الحال الثالثة التي تمت بها نبوته ، وتحققت بها رسالته ، وكان ذلك في يوم الاثنين من شهر رمضان ، وهو ابن أربعين سنة في قول الأكثرين ، وفي قول فريق : ابن ثلاث وأربعين .

                                                                                                                                            قال هشام بن محمد : أول ما تلقاه جبريل ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له برسالة الله يوم الاثنين .

                                                                                                                                            وروى أبو قتادة عن عمر بن الخطاب قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الاثنين فقال : ذلك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه النبوة .

                                                                                                                                            واختلفوا في أي اثنين كان من شهر رمضان .

                                                                                                                                            فقال أبو قلابة : كان في الثاني عشر من شهر رمضان ، وقال أبو الخلد : كان في الرابع والعشرين منه .

                                                                                                                                            [ ص: 9 ] ثم أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة بما نزل عليه فقالت له : يا ابن عم ، هل تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي أتاك إذا جاءك ؟ قال : نعم . قالت : فأخبرني به إذا جاءك ، فجاء له جبريل ، فقال لها : يا خديجة هذا جبريل قد جاءني . قالت : قم فاجلس على فخذي اليسرى : فجلس عليها ، فقالت : هل تراه ؟ قال نعم . قالت : تحول إلى فخذي اليمنى ، فتحول إليها ، فقالت : هل تراه ؟ قال : نعم . قالت : فتحول في حجري ، فتحول في حجرها فقالت هل تراه ؟ قال : نعم . فتحسرت ، وألقت خمارها وهو جالس في حجرها ، فقالت هل تراه ؟ قال لا . فقالت : يا ابن عم اثبت ، وأبشر ، فوالله إنه لملك ، وما هو بشيطان ، وآمنت به ، فكانت أول من أسلم من جميع الناس .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية