الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          وأما من أصبح جنبا عامدا أو ناسيا - ما لم يتعمد التمادي ضحى كذلك حتى يترك [ ص: 352 ] الصلاة عامدا ذاكرا لها : - فإن السلف اختلفوا في هذا ؟ فرأى بعضهم أنه يبطل صومه بترك الغسل قبل الفجر ؟ وقال الحنفيون ، والمالكيون ; والشافعيون : صومه تام وإن تعمد أن لا يغتسل من الجنابة شهر رمضان كله ؟ قال أبو محمد : أما هذا القول فظاهر الفساد ، لما ذكرنا قبل من أن تعمد المعصية يبطل الصوم ، ولا معصية أعظم من تعمد ترك الصلاة حتى يخرج وقتها ؟ وذهبت طائفة من السلف إلى ما ذكرنا قبل - : كما روينا من طريق شعيب بن أبي حمزة عن الزهري أخبرني عبد الله بن عبد الله بن عمر : " أنه احتلم ليلة في رمضان ثم نام فلم ينتبه حتى أصبح ، قال : فلقيت أبا هريرة فاستفتيته ؟ فقال : أفطر ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالفطر إذا أصبح الرجل جنبا قال : فجئت إلى أبي فأخبرته بما أفتاني به أبو هريرة ، فقال : أقسم بالله لئن أفطرت لأوجعن متنك ، صم ، فإن بدا لك أن تصوم يوما آخر فافعل .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة سمعت عبد الله بن عمرو القارئ قال { : سمعت أبا هريرة يقول : لا ورب هذا البيت ، ما أنا قلت : من أدركه الصبح وهو جنب فلا يصم ، محمد - ورب الكعبة - قاله } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وقد عاب من لا دين له ولا علم له هذا الخبر بأن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام روى عن أبي هريرة أنه قال له في هذا الخبر : إن أسامة بن زيد حدثه به ، وإن الفضل بن عباس حدثه به ؟ قال أبو محمد : وهذه قوة زائدة للخبر ، أن يكون أسامة والفضل روياه عن النبي صلى الله عليه وسلم وما ندري إلى ما أشار به هذا الجاهل ؟ وما يخرج من هذا الاعتراض إلا نسبة أبي هريرة للكذب ، والمعترض بذلك أحق بالكذب منه ؟ وكذلك عارض قوم - لا يحصلون ما يقولون - هذا الخبر بأن أمي المؤمنين روتا { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك النهار } . [ ص: 353 ] قال أبو محمد : وليس يعارض هذا الخبر ما رواه أبو هريرة لأن رواية أبي هريرة هي الزائدة .

                                                                                                                                                                                          والعجب ممن يرد روايتهما رضي الله عنهما في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم برأيه - : ثم يجعل روايتهما هاهنا حجة على السنة الثابتة لا سيما مع صحة الرواية { عن عائشة رضي الله عنها : أنها قالت : ما أدرك الفجر قط رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا [ ص: 354 ] وهو نائم } فهلا حملوا هذا على غلبة النوم ، لا على تعمد ترك الغسل ؟ واحتج أيضا قوم بما رويناه من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن هشام الدستوائي عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال : رجع أبو هريرة عن فتياه في الرجل يصبح جنبا . قال علي : ولا حجة في رجوعه ، لأنه رأي منه ; إنما الحجة في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد افترض علينا اتباع روايتهم ، ولم نؤمر باتباع الرأي ممن رآه منهم .

                                                                                                                                                                                          والعجب ممن يحتج بهذا من المالكيين وهم قد ثبتوا على ما روي عن عمر رضي الله عنه من تحريم المتزوجة في العدة على الذي دخل بها في الأبد .

                                                                                                                                                                                          وقد صح رجوع عمر عن ذلك إلى أنه مباح له ابتداء زواجها ؟ وممن قال بهذا من السلف كما روينا من طريق ابن جريج عن عطاء : أنه لما اختلف عليه أبو هريرة ، وعائشة في هذا قال عطاء : يبدل يوما ويتم يومه ذلك .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أنه قال : من أدركه الصبح جنبا وهو متعمد أبدل الصيام ; ومن أتاه غير متعمد فلا يبدله ؟ فهذا عروة ابن أخت عائشة رضي الله عنها قد ترك قولها لرواية أبي هريرة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر قال : سألت إبراهيم النخعي عن الرجل يصبح جنبا ؟ فقال : أما رمضان فيتم صومه ويصوم يوما مكانه ; وأما التطوع فلا ؟ ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي ثنا ابن إسحاق هو عبد الله قال : سألت سالما عن رجل أصبح جنبا في رمضان ؟ قال : يتم يومه ويقضي يوما مكانه . [ ص: 355 ]

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الله بن طاوس عن أبيه قال : من أصبح جنبا في شهر رمضان فاستيقظ ولم يغتسل حتى يصبح فإنه يتم ذلك ويصوم يوما مكانه ; فإن لم يستيقظ فلا بدل عليه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع عن الربيع عن الحسن البصري فيمن أصبح جنبا في رمضان : يقضيه في الفرض . ومن طريق ابن أبي شيبة عن عائذ بن حبيب عن هشام بن عروة في الذي يصبح جنبا في رمضان قال : عليه القضاء .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : لو لم يكن إلا ما ذكرنا لكان الواجب القول بخبر أبي هريرة ، لكن منع من ذلك صحة نسخه ؟ وبرهان ذلك قول الله تعالى : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } .

                                                                                                                                                                                          حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا أحمد بن دحيم ثنا إبراهيم بن حماد ثنا إسماعيل بن إسحاق ثنا عبد الواحد ثنا حماد بن سلمة ثنا عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } كان أحدهم إذا نام لم تحل له النساء ، ولم يحل له أن يأكل شيئا إلى القابلة ، ورخص الله لكم .

                                                                                                                                                                                          حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرني هلال بن العلاء بن هلال الرقي ثنا حسين بن عياش - ثقة من أهل باجدا - : ثنا زهير بن معاوية ثنا أبو إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب : أن أحدهم كان إذا نام قبل أن يتعشى لم يحل له أن يأكل شيئا ولا يشرب ليلته ويومه من الغد حتى تغرب الشمس ، حتى نزلت { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فصح أن هذه الآية ناسخة لكل حال تقدمت الصوم ، وخبر أبي هريرة موافق لبعض الأحوال المنسوخة ، وإذ صح أن هذه الآية ناسخة لما تقدم فحكمها [ ص: 356 ] باق لا يجوز نسخه وفيها إباحة الوطء إلى تبين الفجر ; فإذ هو مباح بيقين ، فلا شك في أن الغسل لا يكون إلا بعد الفجر ، ولا شك في أن الفجر يدركه وهو جنب ، فبهذا وجب ترك حديث أبي هريرة ، لا بما سواه - وبالله تعالى التوفيق

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية