الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم قال في ( المسألة الثانية ) من مسائل الدليل الثاني ( السنة ) ما نصه ، وفيه بيان ما وعد به :

                          " رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار ، والدليل على ذلك أمور ( أحدها ) : أن الكتاب مقطوع به والسنة مظنونة ، والقطع فيها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل ، بخلاف الكتاب فإنه مقطوع به في الجملة والتفصيل ، والمقطوع به مقدم على المظنون ; فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة .

                          ( والثاني ) : أن السنة إما بيان للكتاب ، أو زيادة على ذلك ، فإن كان بيانا كان ثانيا على المبين في الاعتبار ، إذ يلزم من سقوط المبين سقوط البيان ، ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبين ، وما شأنه هذا فهو أولى في التقدم ، وإن لم يكن بيانا فلا يعتبر إلا بعد ألا يوجد في الكتاب ، وذلك دليل على تقدم اعتبار الكتاب .

                          ( والثالث ) : ما دل على ذلك من الأخبار والآثار ; كحديث معاذ : " بم تحكم ؟ " قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي " الحديث ، وعن عمر بن الخطاب ، أنه كتب إلى شريح : إذا أتاك أمر فاقض [ ص: 133 ] بما في كتاب الله ، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلخ . وفي رواية : إذا وجدت شيئا في كتاب الله فاقض فيه ، ولا تلتفت إلى غيره . بين معنى هذا في رواية أخرى ، أنه قال له : انظر ما تبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا ، وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومثل هذا عن ابن مسعود : من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله ، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه - صلى الله عليه وسلم - الحديث .

                          وعن ابن عباس ، أنه كان إذا سئل عن شيء فإن كان في كتاب الله قال به ، فإن لم يكن في كتاب الله ، وكان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال به . وهو كثير في كلام السلف والعلماء ، وما فرق به الحنفية بين الفرض والواجب راجع إلى تقدم اعتبار الكتاب على اعتبار السنة ، فإن اعتبار الكتاب أقوى من اعتبار السنة ، وقد لا يخالف غيرهم في معنى تلك التفرقة " والمقطوع به في المسألة أن السنة ليست كالكتاب في مراتب الاعتبار " .

                          فإن قيل : هذا مخالف لما عليه المحققون ، أما أولا : فإن السنة عند العلماء قاضية على الكتاب ، وليس الكتاب بقاض على السنة ; لأن الكتاب يكون محتملا لأمرين فأكثر ، فتأتي السنة بتعيين أحدهما ، فيرجع إلى السنة ، ويترك مقتضى الكتاب ، وأيضا فقد يكون ظاهر الكتاب أمرا ، فتأتي السنة فتخرجه عن ظاهره ، وهذا دليل على تقديم السنة ، وحسبك أنها تقيد مطلقه ، وتخص عمومه ، وتحمله على غير ظاهره ، حسبما هو مذكور في الأصول ; فالقرآن آت بقطع يد كل سارق فخصت السنة من ذلك سارق النصاب المحرز ، وأتى بأخذ الزكاة من جميع الأموال ظاهرا ; فخصته السنة بأموال مخصوصة ، وقال تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم ( 4 : 24 ) فأخرجت من ذلك نكاح المرأة على عمتها أو خالتها . فكل هذا ترك لظواهر الكتاب ، وتقديم للسنة عليه ، ومثل ذلك لا يحصى كثرة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية