الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 368 ]

مسألة

في رجل فقير وعليه دين، هل لأخيه الغني دفع الزكاة إليه؟ [ ص: 370 ] مسألة

في رجل فقير وعليه دين، وله أخ لأبويه وهو غني، هل للغني دفع الزكاة لأخيه الفقير دون الأجانب؟ وهل يجوز له تعجيل الزكاة له سنة أو سنتين؟

جواب الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية

نعم، يجوز أن يدفع إليه من زكاته ما يستحقه مثله من الزكاة، وهو أولى من أجنبي ليس مثله في الحاجة، ويجوز تعجيل الزكاة. وذلك لأن نصوص الكتاب والسنة تتناول القريب والبعيد في الإعطاء من الزكاة، وامتاز إعطاء القريب بما فيه من الصلة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صدقتك على المسكين صدقة، وصدقتك على ذي الرحم صدقة وصلة" . والصدقة في الصلة أفضل من الصدقة المجردة.

والذين منعوا من إعطاء الزكاة له قالوا: نفقته واجبة على الأخ، فيكون مستغنيا بها، فلا يعطيه ما يقوم مقام النفقة الواجبة. وهذا القول ضعيف لوجوه:

أحدها: أنه قد لا تكون النفقة واجبة عليه، بأن لا يكون للمزكي فضل ينفقه على أخيه، وهذا حال كثير من الناس. فإذا حرم الصدقة مع النفقة كان هذا ضد مقصود الشارع. [ ص: 372 ]

الثاني: أن يقال: هب أن نفقته واجبة عليه، فإنما ذلك بشرط أن لا يكون قادرا على الكسب وأن يطالب بها، فإذا كان متمكنا من أخذ الزكاة واختار ذلك لم تجب النفقة في هذا الحال. كما لو اختار أخذ الزكاة من أجنبي، فإن النفقة لا تجب في هذا الحال إجماعا. وليس أن يمنع من الزكاة لأجل وجوب النفقة بأولى من أن يمنع من النفقة لأجل وجوب الزكاة، بل هذا أولى، لأن الصدقة مال أباحه الله له ولأمثاله، فإذا كان قادرا عليه لم يكن به حاجة إلى النفقة، والنفقة إنما وجبت عند العجز عن الاكتساب، وأخذ الزكاة من جملة وجوه الاكتساب.

وكما أن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي، فهو أيضا لا يستحق النفقة.

الوجه الثالث: لو وجبت نفقته على غيره، وامتنع ذلك الغير من إعطائها، كان له أخذ الزكاة بالاتفاق. فهذا القريب لو قدر امتناعه من الإنفاق لم يحرم على هذا أخذ زكاته. ولا يقال: الزكاة لم تسقط عن ذلك، بل غاية ما يقال: إنه عاص بترك النفقة.

الرابع: أن يقال: لا ريب أنه يجب إغناء هذا الفقير، فإما أن يغنيه قريبه من ماله وإما من الزكاة، فالواجب إما الإنفاق عينا وإما الزكاة عينا وإما أحدهما، وإيجاب الإنفاق عينا مع تمكن المحتاج من أخذ الزكاة ومع اختياره لذلك لا يقول به أحد، وأما إيجاب إعطاء الزكاة عينا مع اختيار رب المال أن يصل رحمه من ماله فلا يقول به أحد، فمتى اختار الفقير أخذ الزكاة فله ذلك، ومتى اختار الغني صلته من ماله فله ذلك إذا اختار الفقير، ولو أراد الفقير أن لا يقبل الصلة وقال: لا آخذ إلا من [ ص: 373 ] الزكاة فله ذلك. وإن أراد المطالبة بالنفقة وقال: لا أريد إلا النفقة دون الزكاة، فهذا فيه نظر ونزاع، وأما إذا اتفقا على الصلة جاز بالاتفاق، فكذلك إذا اتفقا على الإعطاء من الزكاة هو جائز أيضا. كما لو كان الغني يعطيه من صدقة موقوفة، أو من صدقة هو وكيل فيها أو ولي عليها.

فإن قيل: إذا أعطاه وقى بها ماله، وقد ذكر الإمام أحمد عن سفيان ابن عيينة قال: كان العلماء يقولون: لا يقي بها ماله، ولا يحابي بها قريبا، ولا يدفع بها مذمة.

قيل: هذا إنما يكون إذا كان القريب من عياله، فيعطيه ما يستغني به عن النفقة المعتادة، ففي مثل هذه الصورة لا يجزئه على الصحيح، وهو المنقول عن ابن عباس وغيره، أفتوا بأنه إذا كان من عياله لم يعطه ما يدفع به الإنفاق عليه. حتى لو كان متبرعا بالإنفاق على رجل لم يكن له أن يعطيه ما يقي به ماله، لأنه هنا دفع عن نفسه بالزكاة، فأخرجها لغرضه لا لله، والزكاة عليه أن يخرجها لله، وإن لم يكن هذا واجبا بالشرع، لكن العادات لازمة لأصحابها. والمحاباة أن يعطي القريب وهناك من هو أحق منه، وأما إذا استويا في الحاجة وأعطاه لم يكن هذا محاباة. وهذا بخلاف ما إذا لم تكن عادته الإنفاق على الأخ، فإن وجوب الإنفاق عليه مشروط بعدم قدرته على الأخذ من الزكاة واختيار ذلك، فمتى كان قادرا على الأخذ مريدا له لم يستحق في هذه الحال نفقة. كما لو حصل ذلك مع غنى أجنبي، فإنه إذا اختار الأخذ من زكاته لم يجب على أخيه في هذه الحال الإنفاق عليه. [ ص: 374 ]

الوجه الخامس: أن يقال: لو أعطى الزكاة للإمام، فأعطى الإمام أخاه من ذلك، جاز، وكذلك لو أعطاها لمن يقسمها بين المستحقين، فأعطاه أخاه، فكذلك إذا قسمها هو. وسبب ذلك أن الزكاة يجب صرفها إلى الله تعالى، الذي يثيب صاحبها، والفقراء يأخذونها من الله، لا يستحق أرباب الأموال عليهم معاوضة. فهو كما أعطى الإمام من بيت المال، وناظر الوقف من الوقف، وإذا كان كذلك فأخذه من زكاة قريبه وغيره سواء، كأخذه من مال ينظر عليه قريبه، سواء كان سلطانيا أو وقفا أو نذرا.

يدل على ذلك أن أبا طلحة لما قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني أرى أن تجعلها في الأقربين" . فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بجعلها في الأقربين بعد أن جعلها لله وخرج عنها. والله سبحانه أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية