الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم [ ص: 275 ] فقاتلوا أئمة الكفر فيه دلالة على أن أهل العهد متى خالفوا شيئا مما عوهدوا عليه ، وطعنوا في ديننا فقد نقضوا العهد ؛ وذلك لأن نكث الأيمان يكون بمخالفة بعض المحلوف عليه إذا كانت اليمين فيه على وجه النفي ، كقوله : { والله لا كلمت زيدا ولا عمرا ولا دخلت هذه الدار ولا هذه } أيهما فعل حنث ونكث يمينه ؛ ثم لما ضم إلى ذلك الطعن في الدين دل على أن أهل العهد من شروط بقاء عهدهم تركهم للطعن في ديننا ، وأن أهل الذمة ممنوعون من إظهار الطعن في دين المسلمين ، وهو يشهد لقول من يقول من الفقهاء إن من أظهر شتم النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة فقد نقض عهده ووجب قتله

وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فقال أصحابنا : { يعزر ولا يقتل } ، وهو قول الثوري وروى ابن القاسم عن مالك فيمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود ، والنصارى { قتل إلا أن يسلم } .

وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ومالك فيمن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا : هي ردة يستتاب فإن تاب نكل وإن لم يتب قتل قال : يضرب مائة ثم يترك حتى إذا هو برئ ضرب مائة ولم يذكر فرقا بين المسلم والذمي ، وقال الليث في المسلم يسب النبي صلى الله عليه وسلم : إنه لا يناظر ولا يستتاب ويقتل مكانه ، وكذلك اليهودي والنصراني . وقال الشافعي : { ويشترط على المصالحين من الكفار أن من ذكر كتاب الله أو محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا ينبغي أو زنى بمسلمة أو أصابها باسم نكاح أو فتن مسلما عن دينه أو قطع عليه طريقا أو أعان أهل الحرب بدلالة على المسلمين أو آوى عينا لهم فقد نقض عهده وأحل دمه وبرئت منه ذمة الله وذمة رسوله } . وظاهر الآية يدل على أن من أظهر سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل العهد فقد نقض عهده ؛ لأنه قال تعالى : وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر فجعل الطعن في ديننا بمنزلة نكث الأيمان إذ معلوم أنه لم يرد أن يجعل نكث الأيمان والطعن في الدين بمجموعهما شرطا في نقض العهد ؛ لأنهم لو نكثوا الأيمان بقتال المسلمين ، ولم يظهروا الطعن في الدين لكانوا ناقضين للعهد .

وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاونة قريش بني بكر على خزاعة ، وهم حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم نقضا للعهد ، وكانوا يفعلون ذلك سرا ، ولم يكن منهم إظهار طعن في الدين ؛ فثبت بذلك أن معنى الآية : وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر . فإذا ثبت ذلك كان من أظهر سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل العهد ناقضا للعهد ، إذ سب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكثر الطعن في الدين ، فهذا وجه يحتج به القائلون [ ص: 276 ] بما وصفنا . ومما يحتج به لذلك ما روى أبو يوسف عن حصين بن عبد الرحمن عن رجل عن أبي عمران أن رجلا قال له : إني سمعت راهبا سب النبي صلى الله عليه وسلم . فقال : لو سمعته لقتلته إنا لم نعطهم العهد على هذا . وهو إسناد ضعيف . وجائز أن يكون قد شرط عليهم أن لا يظهروا سب النبي صلى الله عليه وسلم . وقد روى سعيد عن قتادة عن أنس أن يهوديا مر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السام عليك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتدرون ما قال ؟ قالوا : نعم ، ثم رجع فقال مثل ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك . وروى الزهري عن عروة عن عائشة قالت : دخل رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : السام عليكم ، قالت : ففهمتها فقلت : ، وعليكم السام واللعنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله فقلت : يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : قلت عليكم .

ومعلوم أن مثله لو كان من مسلم لصار به مرتدا مستحقا للقتل ، ولم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وروى شعبة عن هشام بن يزيد عن أنس بن مالك : أن امرأة يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها ، فجيء بها فقالوا : ألا تقتلها ؟ قال : لا ، قال : فما زلت أعرفها في سهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا خلاف بين المسلمين أن من قصد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فهو ممن ينتحل الإسلام أنه مرتد يستحق القتل ، ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم مبيحة لدمها بما فعلت فكذلك إظهار سب النبي صلى الله عليه وسلم من الذمي مخالف لإظهار المسلم له .

وقوله : فقاتلوا أئمة الكفر روى ابن عباس ومجاهد أنهم رؤساء قريش ، وقال قتادة : أبو جهل ، وأمية بن خلف ، وعتبة بن ربيعة ، وسهيل بن عمرو ، وهم الذين هموا بإخراجه قال أبو بكر : ولم يختلف في أن سورة براءة نزلت بعد فتح مكة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها مع علي بن أبي طالب ليقرأها على الناس في سنة تسع ، وهي السنة التي حج فيها أبو بكر ، وقد كان أبو جهل ، وأمية بن خلف ، وعتبة بن ربيعة قد كانوا قتلوا يوم بدر ، ولم يكن بقي من رؤساء قريش أحد يظهر الكفر في وقت نزول براءة ، وهذا يدل على أن رواية من روى ذلك في رؤساء قريش ، وهم اللهم إلا أن يكون المراد قوما من قريش قد كانوا أظهروا الإسلام ، وهم الطلقاء ، من نحو أبي سفيان ، وأحزابه ممن لم ينق قلبه من الكفر ، فيكون مراد الآية هؤلاء دون أهل العهد من المشركين الذين لم يظهروا الإسلام ، وهم الذين كانوا هموا بإخراج الرسول من مكة ، وبدرهم بالقتال والحرب بعد الهجرة .

وجائز أن يكون مراده هؤلاء الذين ذكرنا ، وسائر رؤساء العرب الذين كانوا [ ص: 277 ] معاضدين لقريش على حرب النبي صلى الله عليه وسلم وقتال المسلمين ، فأمر الله تعالى بقتالهم وقتلهم إن هم نكثوا أيمانهم ، وطعنوا في دين المسلمين . وقوله تعالى : إنهم لا أيمان لهم معناه : لا أيمان لهم وافية موثوقا بها . ولم ينف به وجود الأيمان منهم لأنه قد قال بديا : وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وعطف على ذلك أيضا قوله : ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم فثبت أنه لم يرد بقوله : لا أيمان لهم نفي الأيمان أصلا ، وإنما أراد به نفي الوفاء بها . وهذا يدل على جواز إطلاق { لا } والمراد نفي الفضل دون نفي الأصل ، ولذلك نظائر موجودة في السنن ، وفي كلام الناس ، كقوله صلى الله عليه وسلم : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد و ليس بمؤمن من لا يأمن جاره بوائقه ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله ، ونحو ذلك ، فأطلق الإمامة في الكفر ؛ لأن الإمام هو المقتدى به المتبع في الخير والشر ، قال الله تعالى : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار وقال في الخير : وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا فالإمام في الخير هاد مهتد ، والإمام في الشر ضال مضل .

قد قيل : إن هذه الآية نزلت في اليهود الذين كانوا غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ونكثوا ما كانوا أعطوا من العهود والأيمان على أن لا يعينوا عليه أعداءه من المشركين ، وهموا بمعاونة المنافقين والكفار على إخراج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة ، وأخبر أنهم بدءوا بالغدر ، ونكث العهد ، وأمر بقتالهم بقوله : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم وجائز أن يكون جميع ذلك مرتبا على قوله : وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وجائز أن يكون قد كانوا نقضوا العهد بقوله : ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم

التالي السابق


الخدمات العلمية