الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير

                                                          [ ص: 2549 ] بين الله سبحانه وتعالى قدرته القاهرة، وأنه الملجأ في الكرب، ومع ذلك كانوا يخوضون، ويعبثون، والله يأمر نبيه بأن يعرض عنهم ولكنهم يستمرون في استهزائهم بالمتقين إذ كانوا ضعفاء فيسخرون منهم، وبذلك اتخذوا دينهم الذي كان يجب عليهم أن يعتنقوه لعبا، وذلك من غرورهم بالحياة، وظنهم أن الحياة الدنيا هي الباقية، أو لا حياة بعدها; ولذا قال تعالى بعد أن أمر نبيه بالإعراض عن مجالسهم قال آمرا له: وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا

                                                          "ذر" بمعنى اترك، وقال علماء النحو: إن "ذر" و: "دع" لا ماضي لهما، ولكن لهما مضارع وأمر، ولكن وجدنا في أساس البلاغة للزمخشري أن ماضيها حي يستعمل، فقد جاء فيه إذا قيل للقوم: ذروا هذا، قالوا: وذرناه.

                                                          والمعنى: أعرض عن الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، والدين المضاف إليهم هو عبادة الأوثان التي عبدوها كأنهم اتخذوها لعبا ولهوا، واللعب هو الفعل الذي ليس مقصد يقره أهل العقل، واللهو ما يتلهى به، ويشغل به عن الأمر الجاد المنتج المثمر، الذي يكون له غرض مقصود مطلوب، فهؤلاء في اتخاذهم الأوثان التي يصنعونها ولا تنفع ولا تضر آلهة تعبد كأنهم يلعبون إذ يعملون عملا لا يقره أهل [ ص: 2550 ] العقل والإدراك، ويلهون لأنه عبث يعبثون به، ولا غاية له عند أهل الفكر والمنطق، ولا على أن يفسر الدين بما هم عليه من عبادة الأوثان.

                                                          ويرد على ذلك التفسير أن هذا ليس جديرا بأن يسمى دينا، ولو كان مضافا إليهم.

                                                          ورأى بعض المفسرين أن المراد من دينهم الإسلام; لأنه الدين الذي جاء إليهم، وهم مخاطبون به، ومكلفون أن يتبعوه، فهو دينهم الذي جاء به رسول منهم، وهو الذي ارتضاه لهم أن يكون دينا، وقد اتخذوا ذلك الدين لعبا ولهوا؛ إذ لم يفهموا ما هم عليه، ومعنى اتخاذه لعبا ولهوا أنهم سخروا بمن اتبعه، وتهكموا على أهله، وأخذوا يخوضون فيه لعبا في مجالسهم، ولهوا عن الحق، يزكي ذلك قوله تعالى: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وقال تعالى: وقد نـزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا

                                                          وإن هذا اللعب وذلك اللهو وتعابثهم بالمؤمنين سببه هو غرورهم بالحياة الدنيا، وفهمهم لها أنها غاية الوجود ونهايته، ولذلك قال تعالى عاطفا على قوله تعالى: اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا أي: خدعتهم هذه الحياة، وما اتخذوه فيها من مباهج غير ملتفتين للحياة الآخرة، ولا مؤمنين بها، ولا بالبعث والنشور، وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون

                                                          خدعوا بالحياة الدنيا، فكان منهم ما كان من العبث بالحقائق الدينية والسخرية بأهلها، ولذا أمر الله تعالى نبيه - وإن ذلك فيه معنى التهديد لهم - بأن يتركهم في غيهم حتى يفاجئوا بمآلهم، ولكن مع ذلك أمر الله تعالى نبيه [ ص: 2551 ] رحمة بهم، أن يذكرهم دائما رحمة لمن يهتدي، ويطلب الحق، ويشغل به نفسه، فقال تعالى: وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت

                                                          الضمير في "به" قال أكثر المفسرين: أنه يعود على القرآن، والقرآن في حضور كل ذهن فكأنه مذكور يعود الضمير عليه، وأميل إلى أن الضمير الذي يعود إلى الدين الذي هم مكلفون أن يأخذوا به، ويتبعوا هديه، وإن الله تعالى مع أمره نبيه أن يتركهم فلا يلتفت إلى هزلهم وعبثهم واستهزائهم بالمؤمنين، أمره بأن يستمر في تذكيرهم بالدين تبليغا لرسالته التي أنزلت عليه، ولا يأخذنه الأذى الذي ينزلونه به وبمن معه، فذلك هو ما يصيب دعاة الحق، ولكن يجب مع الإعراض عن لعبهم ولهوهم أن يستمر في دعوته ومثله معهم كمثل المربي الكامل الذي لا يهمه عبث تلاميذه، يعرض عنه، ولكن يستمر في هدايته لهم.

                                                          وذكر بالدين كراهة أن تبسل نفس بما كسبت، والابتسال: معناه في اللغة الإسلام إلى الهلاك، وأن تؤخذ بسوء ما اختارت.

                                                          والمعنى الجلي: لا تشغل نفسك بلهوهم وعبثهم، ولا يمنعنك ذلك من أن تستمر في تذكيرهم، حتى لا يسلموا إلى الهلاك ويمنعوا من الخير، ويكون نصيبهم جهنم وبئس المصير، وإنك منذر، ولكل قوم هاد.

                                                          وإنه في هذه الحال لا منجاة لهم منها، فلا ينقذهم منها ولي يناصرهم، ولا شفيع يشفع لهم؛ إذ هي الهلاك الدائم والعذاب المستمر; ولذا قال تعالى: ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها وإذا أسلموا إلى الهلاك في جهنم لا يكون لهم من غير الله ولي يناصرهم أو يواليهم بمقتضى القرابة أو العصبة التي كانوا يتنادون بها، أو شفيع يشفع، ويترضى عنهم، وإن يقدموا ما يستطيعون من فداء لا يقبل منهم؛ فلا ولاية ولا شفاعة ولا فدية من عذاب أليم، فالعدل: هو الفداء الذي يعادل ما ارتكبوا، ويخرجون به من النار والعذاب، ومعنى: وإن تعدل وإن تقدم فداء; يكون عدلا، لا يؤخذ منهم.

                                                          [ ص: 2552 ] وقوله تعالى: من دون الله أي: من غيره، والتعبير بقوله "من دون" إشارة إلى أنه مهما يكن في نظرهم فهو دون الله، والله هو العلي المسيطر على كل شيء.

                                                          وقد بين بعد ذلك هذا العقاب الذي لا مناص منه، ولا منجاة ولا خلاص، فقال تعالت قدرته: أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون

                                                          والإشارة إلى الذين يخوضون في آيات الله تعالى، الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، وكانوا يسخرون من الذين آمنوا وهم يذكرون بالدين الذي بعث به رسوله إليهم، وقد كانوا بفعلهم هذا أبسلوا أي: أسلموا أنفسهم للهلاك والبوار، وأتوا إلى النار، ذلك بما كسبوا من عبث وكفر، وعتو، واستهانة، وعبر سبحانه بقوله: بما كسبوا للإشارة إلى أنهم قد فعلوا ذلك يريدون الكسب، فكان ذلك العذاب، فهم اشتروا العذاب والضلالة بالهدى، وهذا العذاب شديد يحيط بكل أجسامهم، النار في بطونهم وفي جلودهم، لهم شراب من حميم أي: ماء يغلي يدخل بطونهم، فيمزق أمعاءهم، وهو نار في جوفهم، ونار تكوي جلودهم كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ولهم بذلك عذاب أليم وذلك العذاب بما كانوا يكفرون أي: بسبب كفرهم المستمر الذي كان يتجدد، فكانوا يحدثون كل وقت من مظاهر ما أوجب استحقاقهم لهذا الألم; فمرة يسخرون من النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، ومرة يؤذون المستضعفين من المؤمنين، ومرة يقطعون عنهم الميرة، ويقاطعونهم وأهلهم، ومرة يؤذون النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأخرى يخوضون في آيات الله تعالى، ويتخذون الدين الذي بعث به رسول منهم لعبا ولهوا، فهو كفر مستمر متعدد الوجوه أساسه الجحود، والآيات قائمة.

                                                          [ ص: 2553 ] وإن ذلك كله الأصل فيه ضلال استهواهم، وهو عبادة أحجار لا تضر ولا تنفع، قد صنعوها بأيديهم ثم عبدوها بقلوبهم؛ ولذا قال الله تعالى:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية