الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وحكي أن قوما وقفوا بعابد وهو يبكي فقالوا : ما الذي يبكيك يرحمك الله ؟ قال : فرحة يجدها الخائفون في قلوبهم قالوا : وما هي ؟ قال : روعة النداء بالعرض على الله عز وجل .

وكان الخواص يبكي ويقول في مناجاته : قد كبرت وضعف جسمي عن خدمتك فأعتقني .

وقال صالح المري قدم علينا ابن السماك مرة فقال أرني شيئا من بعض عجائب عبادكم فذهبت به إلى رجل في بعض الأحياء في خص له فاستأذنا عليه فإذا رجل يعمل خوصا فقرأت عليه إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون فشهق الرجل شهقة وخر مغشيا عليه ، فخرجنا من عنده وتركناه على حاله وذهبنا إلى آخر فدخلنا عليه فقرأت هذه الآية فشهق شهقة وخر مغشيا عليه فذهبنا واستأذنا على ثالث فقال ادخلوا ، إن لم تشغلونا عن ربنا فقرأت ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد فشهق شهقة فبدا الدم من منخريه ، وجعل يتشحط في دمه حتى يبس ، فتركناه على حاله وخرجنا فأدرته على ستة أنفس كل نخرج من عنده ونتركه مغشيا عليه ، ثم أتيت به إلى السابع فاستأذنا فإذا امرأة من داخل الخص تقول ادخلوا ، فدخلنا فإذا شيخ فان جالس في مصلاه فسلمنا عليه فلم يشعر بسلامنا فقلت : بصوت عال ألا إن للخلق غدا مقاما ، فقال الشيخ بين يدي من ويحك ، ثم بقي مبهوتا فاتحا فاه شاخصا بصره يصيح بصوت له ضعيف أوه أوه حتى انقطع ذلك الصوت فقالت امرأته اخرجوا فإنكم لا تنتفعون به الساعة ، فلما كان بعد ذلك سألت عن القوم فإذا ثلاثة قد أفاقوا وثلاثة قد لحقوا بالله تعالى

وأما الشيخ فإنه مكث ثلاثة أيام على حالته مبهوتا متحيرا لا يؤدي ، فرضنا فلما كان بعد ثلاث عقل .

وكان يزيد بن الأسود يرى أنه من الأبدال وكان قد حلف أن لا يضحك أبدا ولا ينام مضطجعا ولا يأكل سمنا أبدا فما رئي ضاحكا ولا مضطجعا ولا أكل سمنا حتى مات رحمه الله .

وقال الحجاج لسعيد بن جبير بلغني أنك لم تضحك قط ؟ فقال : كيف أضحك وجهنم قد سعرت والأغلال قد نصبت والزبانية قد أعدت ؟ .

وقال رجل يا أبا سعيد كيف أصبحت ؟ قال بخير ، قال : كيف حالك ؟ فتبسم الحسن وقال تسألني عن حالي ما ظنك بناس ركبوا سفينة حتى توسطوا البحر فانكسرت سفينتهم فتعلق كل إنسان منهم بخشبة ، على أي حال يكون ؟ قال الرجل : على حال شديدة .

قال الحسن : حالي أشد من حالهم

ودخلت مولاة لعمر بن عبد العزيز عليه فسلمت عليه ، ثم قامت إلى مسجد في بيته فصلت فيه ركعتين وغلبتها عيناها فرقدت فاستبكت في منامها ثم انتبهت فقالت : يا أمير المؤمنين ، إني والله رأيت عجبا ، قال : وما ؟ ذلك قالت : رأيت النار وهي تزفر على أهلها ثم جيء بالصراط ووضع على متنها فقال : هيه قالت : : فجيءبعبد الملك بن مروان فحمل عليه فما مضى عليه إلا يسير حتى انكفأ به الصراط فهوى إلى جهنم فقال عمر هيه قالت : ثم جيء بالوليد بن عبد الملك فحمل عليه فما مضى عليه إلا يسيرا حتى انكفأ به الصراط فهوى إلى جهنم فقال عمر : هيه ، قالت : ثم جيء بسليمان بن عبد الملك فما مضى عليه إلا يسيرا حتى انكفأ به الصراط فهوى ، كذلك فقال عمر : هيه ، قالت : ثم جيء بك والله يا أمير المؤمنين فصاح عمر رحمة الله عليه صيحة خر مغشيا عليه ، فقامت إليه فجعلت تنادي في أذنه يا أمير المؤمنين ، إني رأيتك والله قد نجوت إني رأيتك والله قد نجوت قال : وهي تنادي وهو يصيح ويفحص برجليه .

ويحكى أن أويسا القرني رحمه الله كان يحضر عند القاص فيبكي من كلامه فإذا ذكر النار صرخ أويس ثم يقوم منطلقا فيتبعه الناس فيقولون : مجنون مجنون .

وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه إن المؤمن لا يسكن روعه حتى يترك جسر جهنم وراءه .

وكان طاوس يفرش له الفرش فيضطجع ويتقلى كما تتقلى الحبة في المقلى ثم يثب فيدرجه ويستقبل القبلة حتى الصباح ويقول طير ذكر جهنم نوم الخائفين .

وقال الحسن البصري رحمه الله يخرج من النار رجل بعد ألف عام يا ليتني كنت ذلك الرجل وإنما قال ذلك لخوفه من الخلود وسوء الخاتمة وروي أنه ما ضحك أربعين سنة قال وكنت إذا رأيته قاعدا كأنه أسير قد قدم لتضرب عنقه ، وإذا تكلم كأنه يعاين الآخرة فيخبر عن مشاهدتها فإذا سكت كأن النار تسعر بين عينيه .

وعوتب في شدة حزنه وخوفه فقال ما يؤمنني أن يكون الله تعالى قد اطلع في على بعض ما يكره فمقتني فقال اذهب فلا غفرت لك فأنا أعمل في غير معتمل

وعن ابن السماك قال : وعظت يوما في مجلس فقام شاب من القوم فقال يا أبا العباس ، لقد وعظت اليوم بكلمة ما كنا نبالي أن لا نسمع غيرها .

قلت : وما هي ؟ رحمك الله ، قال : قولك لقد قطع قلوب الخائفين طول الخلودين إما في الجنة أو في النار .

ثم غاب عني ففقدته في المجلس الآخر فلم أره فسألت عنه فأخبرت أنه مريض يعاد فأتيته أعوده فقلت : يا أخي ما الذي أرى بك ؟ فقال : يا أبا العباس ذلك من قولك لقد قطع قلوب الخائفين طول ، الخلودين إما في الجنة أو في النار ،

قال ثم مات رحمه الله فرأيته في المنام فقلت : يا أخي ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي ورحمني وأدخلني الجنة .

قلت : بماذا ؟ قال : بالكلمة .

فهذه مخاوف الأنبياء والأولياء والعلماء والصالحين ونحن أجدر بالخوف منهم لكن ليس الخوف بكثرة الذنوب بل بصفاء القلوب وكمال المعرفة وإلا فليس أمننا لقلة ذنوبنا وكثرة طاعاتنا بل قادتنا شهوتنا وغلبت علينا شقوتنا ، وصدتنا عن ملاحظة أحوالنا غفلتنا وقسوتنا فلا قرب الرحيل ينبهنا ولا كثرة الذنوب تحركنا ولا مشاهدة أحوال الخائفين تخوفنا ، ولا خطر الخاتمة يزعجنا فنسأل الله تعالى أن يتدارك بفضله وجوده أحوالنا فيصلحنا إن كان تحريك اللسان بمجرد السؤال دون الاستعداد ينفعنا .

ومن العجائب أنا إذا أردنا المال في الدنيا زرعنا وغرسنا واتجرنا وركبنا البحار والبراري وخاطرنا .

وإن أردنا طلب رتبة العلم فقهنا وتعبنا في حفظه وتكراره وسهرنا ونجتهد في طلب أرزاقنا ولا نثق بضمان الله لنا ولا نجلس في بيوتنا فنقول : اللهم ارزقنا ثم إذا طمعت أعيننا نحو الملك الدائم المقيم قنعنا بأن نقول بألسنتنا اللهم اغفر لنا وارحمنا ، والذي إليه رجاؤنا وبه اعتزازنا ينادينا ويقول : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ولا يغرنكم بالله الغرور يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ثم كل ذلك لا ينبهنا ولا يخرجنا عن أودية غرورنا وأمانينا فما هذه إلا محنة هائلة إن لم يتفضل الله علينا بتوبة نصوح يتداركنا بها ويجيرنا فنسأل الله تعالى أن يتوب علينا، بل نسأله أن يشوق إلى التوبة سرائر قلوبنا ، وأن لا يجعل حركة اللسان بسؤال التوبة غاية حظنا فنكون ممن يقول ولا يعمل ويسمع ولا يقبل إذا سمعنا الوعظ بكينا وإذا جاء وقت العمل بما سمعناه عصينا علامة للخذلان أعظم من هذا ، فنسأل الله تعالى أن يمن علينا بالتوفيق والرشد بمنه وفضله .

ولنقتصر من حكاية أحوال الخائفين على ما أوردناه فإن القليل من هذا يصادف القلب القابل فيكفي والكثير منه وإن أفيض على القلب الغافل فلا يغني .

ولقد صدق الراهب الذي حكى عنه عيسى بن مالك الخولاني وكان من خيار العباد أنه رآه على باب بيت المقدس واقفا كهيئة المحزون من شدة الوله ما يكاد يرقأ دمعه من كثرة البكاء فقال عيسى لما رأيته هالني منظره فقلت : أيها الراهب أوصني بوصية أحفظها عنك فقال يا أخي بماذا أوصيك إن استطعت أن تكون بمنزلة رجل قد احتوشته السباع والهوام فهو خائف حذر يخاف أن يغفل فتفترسه السباع ، أو يسهو فتنهشه الهوام ، فهو مذعور القلب وجل ، فهو في المخافة في ليله وإن أمن المغترون وفي الحزن نهاره وإن فرح البطالون ثم ولى وتركني فقلت لو زدتني شيئا عسى أن ينفعني فقال : الظمآن يجزيه من الماء أيسره وقد صدق فإن القلب الصافي يحركه أدنى مخافة والقلب الجامد تنبو عنه كل المواعظ وما ذكره من تقديره أنه احتوشته السباع والهوام فلا ينبغي أن يظن أنه تقدير بل هو تحقيق فإنك لو شاهدت بنور البصيرة باطنك لرأيته مشحونا بأصناف السباع وأنواع الهوام مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب والرياء وغيرها ، وهي التي لا تزال تفترسك وتنهشك إن غفلت عنها لحظة إلا أنك محجوب العين عن مشاهدتها فإذا انكشف الغطاء ووضعت في قبرك عاينتها وقد تمثلت لك بصورها وأشكالها الموافقة لمعانيها فترى بعينك العقارب والحيات وقد أحدقت بك في قبرك وإنما هي صفاتك الحاضرة الآن قد انكشفت لك صورها فإن أردت أن تقتلها وتقهرها وأنت قادر عليها قبل الموت فافعل وإلا فوطن نفسك على لدغها ونهشها لصميم قلبك فضلا عن ظاهر بشرتك والسلام .

التالي السابق


(وحكي أن قوما وقفوا بعابد) في صومعته (وهو يبكي فقالوا: ما الذي يبكيك يرحمك الله؟ قال: روعة يجدها الخائفون في قلوبهم قالوا: وما هي؟ قال: روعة النداء بالعرض على الله - عز وجل -) نقله صاحب القوت، (وكان) أبو إسحاق بن إبراهيم بن أحمد (الخواص) - رحمه الله تعالى - (يبكي ويقول في مناجاته: إلهي، قد كبرت) سنا، (وضعف جسمي عن خدمتك فأعتقني) فهذا منه يدل على شدة خوفه عن التقصير في الطاعات.

(وقال) أبو بشر (صالح) بن بشر (المري) - رحمه الله تعالى - (قدم علينا) البصرة (ابن السماك) محمد بن صبيح البغدادي القاص (مرة فقال) لي (أرني شيئا من بعض عجائب عبادكم فذهبت به إلى رجل في بعض الأحياء) وهو (في خص له) وهو بيت من قصب (فاستأذنا عليه) فأذن لنا (فإذا) هو (رجل يعمل خوصا) له (فقرأت) عليه قوله تعالى: ( إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون * في الحميم ثم في النار يسجرون فشهق الرجل شهقة) فإذا هو قد يبس (وخر مغشيا عليه، فخرجنا من عنده وتركناه على حاله وذهبنا إلى آخر) فاستأذنا عليه فأذن لنا (فقرأت) عليه (هذه الآية) المذكورة آنفا (فشهق شهقة وخر مغشيا عليه) فخرجنا من عنده وتركناه على حاله، (واستأذنا على ثالث فقال ادخلوا، إن لم تشغلونا عن ربنا) فدخلنا فإذا رجل جالس في مصلى له (فقرأت) عليه هذه الآية ( ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد فشهق شهقة يدر الدم من منخريه، وجعل يتشحط في دمه حتى يبس، فتركناه على حاله فخرجنا) من عنده (فأدرته على ستة أنفس كل) واحد منهم (نخرج من عنده ونتركه) على حاله (مغشيا عليه، ثم أتيت به إلى السابع فاستأذنا فإذا امرأة) له (من داخل الخص) أي: من ورائه كما هو نص الحلية (تقول) لنا: (ادخلوا، فدخلنا فإذا شيخ فان جالس في مصلاه فسلمنا عليه فلم يشعر بسلامنا) ولفظ الحلية: فلم يعقل سلامنا (فقلت: بصوت عال إن للخلق) غدا (مقاما، فقال الشيخ بين يدي ويحك، ثم بقي مبهوتا فاتحا فاه شاخصا بصره إلى السماء يصيح بصوت له ضعيف أوه أوه حتى انقطع ذلك الصوت فقالت امرأته اخرجوا) عنه، (فإنكم لا تنتفعون به الساعة، فلما كان بعد ذلك سألت القوم فإذا ثلاثة) منهم (قد أفاقوا) من غشيتهم فيما بعد (وثلاثة) منهم (قد لحقوا بالله - عز وجل - وأما الشيخ) وهو السابع (فإنه مكث ثلاثة أيام على حالته مبهوتا متحيرا لا يؤدي فرضا، فلما كان بعد ثلاث) ولفظ الحلية: بعد ثالثة (عقل) أي: رجع إلى عقله، رواه صاحب الحلية عن محمد بن أحمد بن عمر، حدثنا أبي، حدثنا عبد الله ابن محمد بن عبيد، حدثنا عبد الرحمن بن يحيى الدبيلي عن عثمان بن عثمان عن صالح المري، قال: قدم علينا ابن السماك مرة فقال فساقه سواء .

(وكان يزيد الأسود) هكذا في النسخ، والصواب: الأسود بن يزيد وهو ابن قيس النخعي الكوفي خال إبراهيم النخعي وابن أخي علقمة بن قيس الذي روى عن ابن مسعود [ ص: 258 ] وكان أسن من علقمة (يرى أنه من الأبدال) .

قال أحمد ويحيى: ثقة زاد أحمد من أهل الخير وقال ابن سعد ثقة وله أحاديث صالحة، وقال ميمون أبو حمزة سافر ثمانين حجة وعمرة لم يجمع بينهما، وسافر ابنه عبد الرحمن أيضا كذلك، وقال غيره: وكان عبد الرحمن بن الأسود يصلي كل يوم سبعمائة ركعة، وكانوا يقولون: إنه أقل أهل بيته اجتهادا قال: وكانوا يسمون آل الأسود من أهل الجنة .

(وكان قد حلف أنه لا يضحك أبدا ولا ينام مضطجعا ولا يأكل سمينا أبدا فما رئي ضاحكا ولا مضطجعا ولا أكل سمينا حتى مات - رحمه الله تعالى -) بالكوفة سنة خمس وسبعين روى له الجماعة .

(وقال الحجاج) بن يوسف الثقفي (لسعيد بن جبير) بن هشام الأسدي الوالبي مولاهم الكوفي التابعي الشهير حين أتي به إليه فسأله عن اسمه فقال سعيد بن جبير، قال أنت شقي بن كسير، قال بل أمي كانت أعلم باسمي منك قال: شقيت أنت وشقيت أمك، قال: الغيب يعلمه غيرك، في قصة طويلة في آخرها قال الحجاج: يا غلام، السيف والنطع، فلما ولى ضحك، فقال الحجاج: أليس قد (بلغني أنك لم تضحك قط؟ قال: كيف أضحك وجهنم قد سعرت والأغلال قد نصبت والزبانية قد أعدت؟) قال: فما أضحكك عند القتل؟ قال: من جراءتك على الله تعالى ومن حلم الله عنك. رواه المزي في التهذيب من طريق عون بن أبي شداد العبدي قال: بلغني أن الحجاج لما ذكر له سعيد، فساق القصة مطولة .

(وقال رجل للحسن) البصري - رحمه الله تعالى -: (يا أبا سعيد كيف أصبحت؟ قال بخير، قال: كيف حالك؟ فتبسم الحسن وقال تسألني عن حالي ما ظنك بناس ركبوا السفينة حتى توسطوا البحر فانكسرت) بهم (سفينتهم فتعلق كل إنسان منهم بخشبة، على أي حال يكون؟ قال الرجل: على حالة شديدة، قال الحسن: حالي أشد من حالهم) . نقله صاحب القوت .

(و) يروى أنه (دخلت مولاة لعمر بن عبد العزيز) الأموي (على عمر - رحمه الله تعالى - فسلمت عليه، ثم قامت إلى مسجد في بيته فصلت فيه ركعتين وغلبتها عيناها فرقدت فاستبكت في منامها) أي: انتبهت باكية مذعورة فسئلت عن ذلك (فقالت: يا أمير المؤمنين، إني والله رأيت عجبا، قال: وما ذاك؟ قالت: رأيت النار وهي تزفر على أهلها) أي: تلتهب وتصوت (ثم جيء بالصراط فوضع على متنها) أي: ظهرها (فقال: هيه) بالكسر كلمة استزادة (قالت: فجيء بعبد الملك بن مروان فحمل عليه فما مضى عليه إلا يسيرا حتى انكفأ به الصراط فهوى إلى جهنم) أي: سقط فيها (فقال) عمر (هيه) أي: زيدي (قالت: ثم جيء بالوليد بن عبد الملك فحمل عليه فما مضى عليه إلا يسيرا حتى انكفأ به الصراط فهوى فقال عمر: هيه، قالت: ثم جيء بسليمان بن عبد الملك فما مضى عليه إلا يسيرا حتى انكفأ به الصراط فهوى، فقال عمر: هيه، قالت: ثم جيء بك والله يا أمير المؤمنين فصاح عمر - رحمة الله عليه - صيحة خر) منها (مغشيا عليه، فقامت إليه فجعلت تنادي في أذنه يا أمير المؤمنين، إني رأيتك والله حتى نجوت إني رأيتك والله حتى نجوت قال: وهي تنادي وهو يصيح ويفحص برجليه) . أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(ويحكى أن أويسا) ابن عامر بن جزء بن مالك بن عمرو (القرني - رحمه الله تعالى - كان يحضر عند القاص) فيسمعه (فيبكي من كلامه فإذا ذكر النار صرخ أويس) من شدة خوفه (ثم يقوم منطلقا فيتبعه الناس فيقولون: مجنون مجنون) وما به جنون، وإنما هو الخوف من النار، وقد تقدم هذا وما يتعلق بأويس - رحمه الله تعالى - مطولا .

(وقال معاذ بن جبل) - رضي الله عنه -: (إن المؤمن لا تسكن روعته حتى يترك جسر جهنم وراءه) . نقله صاحب القوت. (وكان طاووس) بن كيسان اليماني التابعي (يفرش له الفراش فيضطجع ويتقلى ما تتقلى الحية في المقلى) . [ ص: 259 ] كناية عن كثرة التقلب والاضطراب (ثم يثب) عنه قائما (فيدرجه) أي: يطويه (ويستقبل القبلة) راكعا ساجدا تاليا (حتى الصباح ويقول طير ذكر جهنم نوم الخائفين) عن أعينهم (وقال الحسن) البصري - رحمه الله تعالى - (يخرج من النار رجل بعد ألف عام ويا ليتني كنت ذلك الرجل) ، يقول هذا وهو إمام العلماء، (وإنما قال ذلك لخوفه) الشديد (من الخلود) في الأبدية (وسوء الخاتمة) قال: فبعد أن أخرج منها بوقت لا أبالي، كذا في القوت .

(و) عن مشاهدة معنى ما تقدم كان خوف الحسن وحزنه حتى (روي أنه ما ضحك أربعين سنة قال) الراوي: (وكنت إذا رأيته قاعدا كأنه أسير قد قدم ليضرب عنقه، وإذا تكلم كأنه يعاين الآخرة) أي: يشاهدها رأي العين (فيخبر عن مشاهدتها فإذا سكت كأن النار تسعر بين عينيه وعوتب في شدة حزنه فقال ما يؤمنني أن يكون الله تعالى قد اطلع علي في بعض ما يكره فمقتني فقال اذهب فلا غفرت لك فأنا أعمل في غير معمل) كذا في القوت، (وعن) أبي العباس محمد بن صبيح (ابن السماك) البغدادي الواعظ (قال: وعظت يوما في مجلس فقام شاب من القوم فقال يا أبا العباس، لقد وعظت اليوم بكلمة ما كنا نبالي أن لا نسمع غيرها قلت: وما هي؟ رحمك الله، قال: قولك لقد قطع قلوب الخائفين طول الخلود إما في الجنة أو في النار ثم غاب عني فتفقدته في المجلس فلم أره فسألت عنه فأخبرت أنه مريض يعاد فأتيته أعوده فقلت له: يا أخي ما الذي أرى بك؟ فقال: يا أبا العباس ذلك من قولك لقد قطع قلوب الخائفين طول الخلود، إما في الجنة أو في النار، ثم مات - رحمه الله - فرأيته في المنام فقلت: يا أخي ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ورحمني وأدخلني الجنة، قلت: بماذا؟ قال: بالكلمة) أي: التي ذكرت.

وقد بشر العلاء بن زياد العدوي بالجنة وكان من العباد، فغلق عليه بابه سبعا ولم يذق طعاما وجعل يبكي ويقول: أنا في قصة طويلة حتى دخل عليه الحسن فجعل يعذله في شدة خوفه وكثرة بكائه وقال: يا أخي من أهل الجنة إن شاء الله تعالى، أقاتل نفسك، فما ظنك برجل يعذله الحسن في الخوف .

وقد كان من فوقهم من علية الصحابة يتمنون أنهم لم يخلقوا بشرا، وكانوا قد بشروا بالجنة يقينا في غير خبر كما تقدم قريبا من أقوالهم الدالة على ذلك (فهذه مخاوف الأنبياء والأولياء والعلماء) والصالحين (ونحن أجدر بالخوف منهم) ، و (لكن ليس الخوف) يكون (بكثرة الذنوب) ولو كان كذلك لكنا أكثر خوفا منهم (بل) إنما يكون (بصفاء القلوب وكمال المعرفة) وشدة التعظيم لله - عز وجل - (وإلا فليس أمننا لقلة ذنوبنا وكثرة طاعتنا بل قادتنا شهوتنا وغلبت علينا شقوتنا، وصدتنا عن ملاحظة أحوالنا غفلتنا) فعميت بصائرنا (فلا قرب الرحيل ينبهنا ولا كثرة الذنوب تحركنا ولا مشاهدة أحوال الخائفين تخوفنا، ولا خطر الخاتمة يزعجنا) ولا وعظ الواعظين يؤثر فينا (فنسأل الله تعالى أن يتدارك بفضله وجوده أحوالنا) مما فرطنا فيه (فيصلحنا إن كان تحريك اللسان بمجرد السؤال دون الاستعداد) والتزود للمعاد (ينفعنا، ومن العجائب أنا إذا أردنا المال في الدنيا زرعنا وغرسنا واتجرنا وركبنا البحار والبراري) والقفار (وخاطرنا) بأنفسنا وأموالنا (وإن أردنا رتبة العلم تفقهنا وتعبنا في حفظه وتكراره وسهرنا) في تحصيله (ونجتهد في طلب أرزاقنا) بكل ممكن (ولا نثق بضمان الله لنا) يشير إلى قوله تعالى: فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون وقوله تعالى: لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى (ولا نجلس في بيوتنا فنقول: اللهم [ ص: 260 ] ارزقنا ثم إذا طمحت أعيننا نحو الملك الدائم المقيم) الذي لا يحول ولا يزول .

(قنعنا بأن نقول بألسنتنا اللهم اغفر لنا وارحمنا، والذي إليه رجاؤنا وبه اعتزازنا ينادينا ويقول: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى ) ( ولا يغرنكم بالله الغرور يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ثم كل ذلك لا ينبهنا) عن غفلتنا (ولا يخرجنا عن أودية غرورنا وأمانينا) الكاذبة (فما هذه إلا محنة هائلة) مخوفة (إن لم يتفضل الله علينا بتوبة نصوح) أي: خالصة (يتداركنا بها ويجبرنا فنسأل الله تعالى أن يتوب علينا توبة نصوحا بل نسأله أن يشوق إلى التوبة سرائر قلوبنا، وأن لا يجعل حركة اللسان بسؤال التوبة غاية حظنا فنكون ممن يقول) بلسانه (ولا يعمل) بجوارحه ويسمع بأذنه (ولا يقبل) بقلبه (إذا سمعنا الوعظ بكينا وإذا جاء وقت العمل بما سمعناه عصينا فلا علامة للخذلان أعظم من هذا، فنسأل الله تعالى أن يمن بالتوفيق والرشد) والهداية (علينا بمنه وفضله) وكرمه وجوده .

(ولنقتصر من حكاية أحوال الخائفين على ما أوردناه فإن القليل من هذا يصادف القلب القابل) لما يلقى إليه (فيكفي) ويغني (والكثير منه وإن أفيض منه على القلب الغافل فلا يغني ولا يكفي، ولقد صدق الراهب) أي: العابد من الكتابيين (الذي حكى عنه عيسى بن مالك الخولاني) منسوب إلى خولان بالفتح، واسمه أنكل قبيلة من قضاعة نزلت الشام (وكان من خيار العباد أنه رآه على باب بيت المقدس واقفا) على قدميه (كهيئة المحزون من شدة الوله ما يكاد يرقأ دمعه من كثرة البكاء فقال عيسى لما رأيته) على الوصف المذكور (هالني منظره) أي: أفزعني (فقلت: أيها الراهب أوصني بوصية أحفظها عنك فقال يا أخي بماذا أوصيك إن استطعت أن تكون بمنزلة رجل قد احتوشته السباع والهوام) أي: تناولته من كل طرف .

(فهو خائف حذر يخاف أن يغفل فتفترسه السباع، ويسهو فتنهشه الهوام، فهو مذعور القلب وجل، فهو في المخافة في ليله وإن أمن المغترون وفي الحزن في نهاره وإن فرح البطالون ثم ولى) ذاهبا (وتركني فقلت) له (لو زدتني شيئا) من هذا الجنس (عسى ينفعني فقال: الظمآن يجزيه من الماء شربة) ولو قليلة وقد صدق الراهب فيما قاله (فإن القلب الصافي) الواعي لما يلقى إليه (يحركه أدنى مخافة) ويكفيه (والقلب الجامد) الكدر (ينبو عنه كل المواعظ) فلا يقبلها .

(وما ذكره من تقديره أنه احتوشته السباع والهوام فلا ينبغي أن يظن أنه تقدير بل هو تحقيق فإنك لو شاهدت بنور البصيرة باطنك لرأيته مشحونا بأصناف السباع وأنواع الهوام المختلفة الأوصاف والأشكال مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب والرياء وغيرها، وهي التي لا تزال تفترسك وتنهشك إن غفلت عنها لحظة إلا إنك محجوب العين عن مشاهدتها) فلا تدركها (فإذا انكشف الغطاء) وارتفع الحجاب (ووضعت في قبرك عاينتها وقد تمثلت لك بصورها وأشكالها الموافقة لمعانيها فترى بعينك العقارب والحيات وقد أحدقت بك) أي: أحاطت (في قبرك وإنما هي صفاتك الحاضرة الآن قد انكشف لك صورتها فإن أردت أن تقتلها وتقهرها [ ص: 261 ] وأنت قادر عليها) في الدنيا (قبل الموت فافعل وإلا فوطن نفسك على لدغها ونهشها لصميم قلبك) أي: باطنه (فضلا عن سائر بشرتك وجسمك والسلام) .



وبه تم كتاب الرجاء والخوف، ولنذكر بعض ما يتعلق بمقام الخوف مما ذكره أبو طالب المكي في القوت قال:

الخوف اسم جامع لحقيقة الإيمان، وهو علم لوجود الإيقان، وهو سبب اجتناب كل نهي ومفتاح كل أمر، وليس يحرق شهوات النفوس ويزيل آثارها إلا مقام الخوف، وقد قال ذو النون المصري: لا يسقى المحب كأس المحبة إلا من بعد أن ينضح الخوف قلبه، وقال سهل: كمال الإيمان بالعلم، وكمال العلم بالخوف، وقال مرة: العلم كسب الإيمان، والخوف كسب المعرفة، وكل مؤمن بالله خائف، ولكن خوفه على قدر قربه .

وشكا واعظ إلى بعض الحكماء: ألا ترى إلى هؤلاء أعظهم وأذكر فلا يرقون. فقال: كيف ينتفع بالموعظة من لم يكن في قلبه من الله مخافة؟ وقد قال الله تعالى في تصديق ذلك: سيذكر من يخشى * ويتجنبها الأشقى أي: يتجنب التذكرة الشقي، فجعل من عدم الخوف شقيا وحرمه التذكرة، فخوف عموم المؤمنين بظاهر القلب عن ظاهر العلم بالعقل، وخوف خصوصهم وهم الموقنون بباطن القلب عن باطن العلم بالوجد، فأما خوف اليقين فهو للصديقين من شهداء العارفين عن مشاهدة ما أمر به من الصفات المخوفة .

وقد جاء في الخبر أن العبد إذا أدخل في قبره لم يبق شيء كان يخافه دون الله تعالى إلا مثل له يفزعه ويرعبه إلى يوم القيامة، فأول خوف اليقين المحاسبة للنفس في كل وقت والمراقبة للرقيب في كل حين، والورع عن الإقدام على الشبهات من كل شيء من العلوم بغير يقين بها; ومن الأعمال بغير فقيه فيها، ثم سجن اللسان وخزن الكلام أن لا يدخل في دين الله، ولا في العلم ما لم يشرعه الله في كتابه أو يذكره الرسول في سنته أو لم ينطق به الأئمة من السلف في سيرهم، مما لم يكن أصله موجودا في الكتاب والسنة وتسميته واضحة في العلم فيتجنب ذلك كله ولا يقف ما ليس له به علم خوفا من المساءلة عنه ولا يدخل فيه لدقيق هوى يدخل عليه، ولا لعظيم حظ دنيا يدخل فيه، وأن ينصح نفسه لله لأنها أولى الخلق ثم ينصح الخلق في الله .



وثمرة الخوف: العلم بالله، والحياء من الله، وهو أعلى مثوبات أهل المزيد، وأكثر ما يقع سوء الخاتمة بثلاثة طوائف: أهل البدع والزيغ في الدين; لأن إيمانهم مرتبط بالمعقول، فأول آية تظهر لهم من قدرة الله تعالى أن يطيح عقله عند معاينتها فيذهب إيمانه ولا يثبت لشهادتهما كما تحترق الفتيلة فيسقط المصباح .

الطبقة الثانية أهل الكبر والإنكار لآيات الله وكراماته لأوليائه في الحياة الدنيا؛ لأنهم لم يكن لهم يقين يحمل القدرة ويمده الإيمان، فيعتورهم الشك ويقوى عليهم لفقد اليقين .

والطبقة الثالثة ثلاثة أصناف متفرقون متفاوتون في سوء الخاتمة وجميعهم دون تينك الطائفتين في سوء الخاتمة; لأن سوء الختم على مقامات أيضا كمقامات اليقين والشرك في عمر الحياة، منهم: المدعي المتظاهر الذي لم يزل إلى نفسه وعمله ناظرا، والفاسق المعلن، والمقر المدمن، تتصل بهم المعاصي إلى آخر العمر ويدوم تقليبهم فيها إلى كشف الغطاء، فإذا رأوا الآيات تابوا إلى الله بقلوبهم وقد انقطعت أعمال الجوارح فليس يتأثر منهم فلا تقبل توبتهم ولا تقال عثرتهم ولا ترحم عبرتهم .

وقد كان عبد الواحد بن زيد يقول: ما صدق خائف قط ظن أنه لا يدخل النار، وما ظن أنه يدخل النار إلا خاف أن لا يخرج منها أبدا، وكان سهل يقول: خوف التعظيم من ميراث خوف السابقة، وقال زهير بن نعيم البابي: ما أكثر همي ذنوبي إنما أخاف ما هو أعظم علي من الذنوب أن أسلب التوحيد وأموت على غيره، وروى ابن المبارك عن ابن لهيعة عن بكر بن سوادة قال: كان رجل يعتزل الناس إنما هو وحده فجاءه أبو الدرداء فقال: أنشدك الله ما يحملك على أن تعتزل الناس؟ قال: إني أخشى أن يسلب ديني وأنا لا أشعر قال: أترى في الحي مائة يخافون ما تخاف، فلم يزل ينقص حتى بلغ عشرة .

قال: فحدثت بذلك رجلا من أهل الشام فقال ذلك شرحبيل بن السمط هو من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان سفيان الثوري يلتفت إلى حماد بن سلمة فيقول: يا أبا سلمة ترجو لمثلي العفو أويغفر لمثلي؟ فيقول له حماد: نعم أرجو له، وكان بعض السلف يقول: لو أني أعلم [ ص: 262 ] أن يختم لي بالسعادة كان أحب إلي مما طلعت عليه الشمس في حياتي أجعله في سبيل الله .

وقال بعض العارفين: إن الله تعالى إذا أعطى عبدا معرفة ثم لم يشكره عليها ولم يحسن معاملته بها لم يسلبه إياها بل أبقاها عليه ليحاسبه على قدرها، ولكن يرفع منه البركة ويقطع عنه المزيد، فمثل عيش هذا في الدنيا كمثل البخيل الغني يعيش عيش الفقراء ويحاسب حساب الأغنياء، كذلك العالم البطال يحيا حياة الجهال ويحاسب غدا محاسبة العلماء .

ومن أعلى المخاوف خوف سلب الإيمان الذي هو عنده وديعة وفي خزانة المؤمن يظهره كيف شاء ويبديه ويعيده إلى الغيب متى شاء، ويخفيه، ذلك من صفة المكر وحكم الماكر وكثافة الستر ولطف الساتر لا تدري أهبة وهبه لك فيبقيه عليك بكرمه وفضله أم وديعة وعارية أودعك إياه وأعارك فيأخذه إذا لا محالة بحكمته وعدله وقد أخفى عنك حقيقة ذلك واستأثر بعاقبته .

وكان يحيى يقول: ينبغي أن يشغلك خوف قوت لا تدري أحلال هو أم حرام عن تمني الفضول، وينبغي أن يشغلك خوف ذهاب الإيمان عن تمني درجات الأبدال، فإذا لم تعطها استقللت ما قد أعطيت وأنت قد أعطيت خير شيء في خزائن الله الإيمان به، ولعمري إن الخوف على فقد الإيمان علامة الغبطة بوجوده.

وقال بعض العارفين: إنما قطع بالقوم عند الوصول، وقال آخر: واخطراه ومن المخاوف خوف قطع المزيد من علم الإيمان مع تبقية المعرفة المبتدأة تكون مستدرجا بها ممنوعا من المزيد، وقد لا يكون بها مدرجا إلا أن توقف المزيد عنه هو لعلة واقفة من الهوى فيه، وقد يقسى قلبه ويجرى عنه، وذلك من النقصان الذي يعرفه أهل التمام; لأن عين الوجه من الملك للدنيا وعين القلب من الملكوت للآخرة، فيمنعه ما ينفعه عنده ويعطيه ما يضره به ويفتتن عند الخلق كمن أعطي الصف المأكول .

وقال مجاهد: إن الرجل لتبكي عيناه وقلبه أقسى من الجماد، وقال مالك بن دينار: قرأت في التوراة: إذا استكمل العبد النفاق ملك عينه فيبكي كما شاء، وسئل أبو محمد سهل: هل يعطي الله أحدا من المؤمنين من الخوف زنة مثقال؟ فقال من المؤمنين من يعطى من الخوف وزن جبل أحد، قيل: فكيف يكون حالهم؟ يأكلون وينكحون وينامون، قال: نعم يفعلون ذلك والمشاهدة لا تفارقهم، قيل: فأين الخوف؟ قال: يحمله حجاب القدرة بلطيف الحكمة ويستتر القلب تحت الحجاب في التصريف بصفات البشرية; فيكون مثل هذا العبد مثل المرسلين.

وقال أيضا: الخوف مباينة النهي، والخشية الورع، والإشفاق هو الزهد. وكان يقول: دخول الخوف على الجاهل يدعوه إلى العلم، ودخوله على العالم يدعوه إلى الزهد، ودخوله على العامل يدعوه إلى الإخلاص، فقد صار الخوف يصلح للكافة، إذ دخوله على العام يخرجه عن الحرام، ودخوله على الخاص يدخله في الورع والزهد .

وقال أيضا: الإخلاص فريضة لا تنال إلا بالخوف، ولا ينال الخوف إلا بالزهد، وقال: إنه لا يصح علم الرجاء إلا للخائف يعني لتعتدل شهادتاه بتقدمة الخوف فيكون بشهادته قائما، وإخلاء قلبه من الخوف وانفراده بحال الرجاء يخرجه إلى الأمن والاغترار، وكان يقول: الخوف ذكر والمحبة أنثى، ألا ترى أن أكثر الناس يدعون المحبة يريد بهذا أن فضل الخوف على الرجاء كفضل الذكر على الأنثى، وهو كما قال; لأن الخوف حال العلماء، والرجاء وصف العمال، ففضله عليه كفضل العلم على العمل .

وكان الحسن يقول: ما عبد الله بشيء أفضل من طول الحزن والخوف، وقال بعض السلف: حسبك من الخوف اجتناب المعاصي، وكان الثوري يقول: ما أحب أني عرفت الأمر حق معرفته إذا لطاش عقلي.

ومما يدلك على أن الخوف اسم لحقيقة العلم بالله تعالى أن في إحدى القراءتين من قراءة أبي أو عبد الله في معنى قوله تعالى: فخشينا أن يرهقهما طغيانا فخاف ربك، قال الفراء: معناه فعلم ربك، وقال: الخوف من أسماء العلم .

ومن معنى هذا أيضا سمي الحياء بمعنى الخشية، وهي من الخوف فجعل الحياء اسم الخشية، ومن ذلك فسر قوله تعالى: وتخشى الناس أي: تستحييهم، ومما يدل على باطن الخوف كثرة الاستغفار في كل حال، والخوف من يسير الأعمال، ومن نقل عنه المخافة من حقير الأمر الذي لعله والله أعلم زنة ذرة من الشر أكثر من أن يحصى; ما روي أن رجلا قال لعطاء السليمي: ما هذا [ ص: 263 ] الخوف كله؟ قال: لعظيم، فقلت: وما هو قال: اصطدت حماما لجارتي منذ أربعين سنة فأنا أبكي منذ ذلك، أما إني قد تصدقت بثمنه مرات.

وقال ضيغم الراسبي: ذنب أذنبته أنا أبكي عليه منذ أربعين سنة، وذلك أنه زارني أخ لي فاشتريت سمكا بدانق فأراد أن يغسل يده فأخذت قطعة طين من حائط جاري فغسلت به يده.

وقال آخر: تكلمت بكلمة أنا أبكي عليها منذ كذا، قيل: وما هي؟ قال: رأيت درهما في يد رجل، فقلت: هذا الدرهم جرجاني ولعله لم يضرب بجرجان، وقال بعضهم: وصفت لنا امرأة من العوابد فأتينا منزلها فإذا هي غلقت بابها لا يدخل عليها أحد، فسألنا عنها فقيل لنا: هي تبكي في جوف بيت قد غلقت عليها الباب منذ ثلاثة أيام لا ندري ما شأنها؟ قال: فسألناها بعد وقت، فقالت: قتلت نملة. هذا لأنه قيل: إن الأبرار لا يؤذون الذر، ولا يقتلون النمل، وبكى نصر بن جرير على معصية ثلاثين سنة.

وإلى هنا انتهى بنا الكلام على مقام الخوف، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .

قال مؤلفه نجز من تحرير ذلك في الساعة الثالثة من ليلة الأحد سابع عشري شهر رمضان من شهور سنة 1200 وهي ليلة القدر على يد العبد لله أبي الفيض محمد مرتضى الحسيني، غفر الله ذنوبه، وستر عيوبه بمنه وكرمه، وأقول قولي هذا وأنا أستغفر الله العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .




الخدمات العلمية