الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              70 [ ص: 168 ] (باب من الإيمان تغيير المنكر باليد واللسان والقلب)

                                                                                                                              وترجمه النووي بقوله (باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان) .

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 21-20 جـ2 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن طارق بن شهاب وهذا حديث أبي بكر ، قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك فقال أبو سعيد : أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ] .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن طارق بن شهاب؛ قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة «مروان» ) .

                                                                                                                              قال عياض: وقع ههنا ما تراه. وقيل: «أول من بدأ بها قبل الصلاة عثمان رضي الله عنه. وقيل: «عمر بن الخطاب» ؛ لما رأى الناس يذهبون عند تمام الصلاة، ولا ينتظرون الخطبة.

                                                                                                                              وقيل: بل ليدرك الصلاة من تأخر وبعد منزله. وقيل: أول من فعله «معاوية» ، وقيل: فعله «ابن الزبير» .

                                                                                                                              [ ص: 169 ] والذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الأربعة: تقديم الصلاة، وعليه جماعة فقهاء الأمصار، وقد عده بعضهم إجماعا. يعني والله أعلم: بعد الخلاف. أو لم يلتفت إلى خلاف بني أمية بعد إجماع الخلفاء والصدر الأول.

                                                                                                                              (فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة. فقال: قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد أما هذا فقد قضى ما عليه ) ، بمحضر من ذلك الجمع العظيم.

                                                                                                                              وفيه دليل على استقرار السنة عندهم، على خلاف ما فعله «مروان» .

                                                                                                                              وبينه أيضا احتجاجه بقوله: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده» ) ، ولا يسمى منكرا، لو اعتقده ومن حضر، أو سبق به عمل أو مضت به سنة.

                                                                                                                              وفي هذا دليل على أنه لم يعمل به خليفة قبل «مروان» ، «وأن» ما حكي عن عمر وعثمان ومعاوية لا يصح والله أعلم.

                                                                                                                              وقد يقال: كيف تأخر أبو سعيد عن إنكار هذا المنكر، حتى سبقه إليه هذا الرجل؟ وجوابه: أنه يحتمل أن أبا سعيد، لم يكن حاضرا أول ما شرع «مروان» في أسباب تقديم الخطبة، فأنكر عليه الرجل؛ ثم دخل أبو سعيد وهما في الكلام.

                                                                                                                              ويحتمل أن أبا سعيد خاف على نفسه، أو غيره، حصول فتنة؛ ولم يخف ذلك الرجل شيئا، لاعتضاده بظهور عشيرته، أو غير ذلك.

                                                                                                                              [ ص: 170 ] ويحتمل أن أبا سعيد هم بالإنكار، فبدره الرجل، فعضده أبو سعيد.

                                                                                                                              ثم إنه جاء في الحديث الآخر، الذي اتفق عليه الشيخان، رضي الله عنهما: «أن أبا سعيد، هو الذي جذب بيد «مروان» حين رآه يصعد المنبر. وكانا جاءا معا. فرد عليه «مروان» بمثل ما رد؛ هنا على الرجل) .

                                                                                                                              فيحتمل أنهما قضيتان: إحداهما لأبي سعيد، والأخرى للرجل بحضرة أبي سعيد.

                                                                                                                              قال السيوطي في «الديباج» : وبه جزم ابن حجر. لأن في أول هذا الحديث عند أبي داود وابن ماجه، أن مروان أخرج المنبر يوم العيد، وأن الرجل أنكره أيضا. وفي حديث إنكار أبي سعيد «أن مروان خطب على منبر بني بالمصلى» وكان المنبر بالمصلى، بعد قصة إخراج المنبر، انتهي.

                                                                                                                              قال النووي: وفي قوله «فقد قضى ما عليه» تصريح بالإنكار أيضا من أبي سعيد. وقوله: (فليغيره ) ، أمر إيجاب. بإجماع من الأمة، وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين. ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة، ولا يعتد بخلافهم.

                                                                                                                              فقد أجمع المسلمون عليه، قبل أن ينبغ هؤلاء. ووجوبه بالشرع لا بالعقل؛ خلافا للمعتزلة. والمذهب الصحيح في معنى قوله سبحانه:

                                                                                                                              عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم .

                                                                                                                              أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به، فلا يضركم تقصير غيركم. مثل قوله تعالى:

                                                                                                                              ولا تزر وازرة وزر أخرى .

                                                                                                                              [ ص: 171 ] فإذا أمر ونهى ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك عليه، فإنما عليه البلاغ لا القبول (فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه ) أي: فليكرهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمنكر، ولكنه هو الذي في وسعه. (وذلك أضعف الإيمان ) أي: أقله ثمرة.

                                                                                                                              قال عياض: هذا الحديث أصل في صفة التغيير. فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به؛ قولا كان، أو فعلا، فيكسر آلات الباطل، ويريق المنكر بنفسه، أو بأمر من يفعله، وينزع الغصوب؛ ويردها إلى أصحابها بنفسه، أو يأمره إذا أمكنه؛ ويرفق في التغيير جهده بالجاهل، وبذي العزة الظالم، المخوف شره. إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله.

                                                                                                                              كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى؛ ويغلظ على المتمادي في غيره، والمسرف في بطالته. إذا أمن أن يؤثر إغلاظه منكرا، أشد مما غيره؛ لكون جانبه محميا، عن سطوة الظالم.

                                                                                                                              فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده، يسبب منكرا أشد منه، من قتله؛ أو قتل غيره بسببه، كف يده. واقتصر على القول باللسان. والوعظ والتخويف: فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك، غير بقلبه، وكان في سعة وهذا هو المراد بالحديث. إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                              وإن وجد من يستعين به على ذلك استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب.

                                                                                                                              وليرفع ذلك إلى من له الأمر، إن كان المنكر من غيره، أو يقتصر على تغييره بقلبه. هذا هو فقه المسألة. وصواب العمل فيها عند العلماء [ ص: 172 ] والمحققين؛ خلافا لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال، وإن قتل ونيل منه كل أذى، انتهى.

                                                                                                                              وأطال النووي، في بيان كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فرض كفاية؛ وذكر أقوال الفقه؛ وقال ذكر الماوردي في آخر «الأحكام السلطانية» بابا حسنا، في الحسبة. مشتملا على جمل من قواعد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ وبسطت الكلام في هذا الباب لعظم فائدته وكثرة الحاجة إليه وكونه من أعظم قواعد الإسلام انتهى.

                                                                                                                              قال: ولا يشترط في الآمر والناهي، أن يكون كامل الحال، ممتثلا ما يأمر به، مجتنبا ما ينهى عنه، فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما، كيف يباح له الإخلال بالآخر؟

                                                                                                                              ولا يختص بأصحاب الولايات بل ذلك جائز لآحاد المسلمين.

                                                                                                                              قال إمام الحرمين، والدليل عليه إجماع المسلمين؛ فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه، كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر، من غير ولاية، والله أعلم.

                                                                                                                              واعلم أن هذا الباب، قد ضيع أكثره، من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان، إلا رسوم قليلة جدا، وهو باب عظيم؛ به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث، عم العقاب، الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم، أوشك أن يعمهم الله بعقابه.

                                                                                                                              [ ص: 173 ] فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم .

                                                                                                                              فينبغي لطالب الآخرة، والساعي في تحصيل رضاء الله تعالى، أن يعتني بهذا الباب؛ فإن نفعه عظيم؛ لاسيما وقد ذهب معظمه، ويخلص نيته، ولا يهاب من ينكر عليه، لارتفاع مرتبته؛ فإن الله تعالى قال:

                                                                                                                              ولينصرن الله من ينصره .

                                                                                                                              وقال: ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم .

                                                                                                                              وقال والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا .

                                                                                                                              وقال تعالى: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين .

                                                                                                                              وبالجملة، قد اتفق المسلمون أجمعون، على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقالوا: إنهما العمادان الأعظمان، من أعمدة هذا الدين، وأنهما واجبان، على كل فرد من أفراد المسلمين، وجوبا مضيقا، وفي القول الجميل، والآداب فيهما، الرفق واللين.

                                                                                                                              [ ص: 174 ] وإنما العنف والشدة، شأن الأمراء والملوك، قال تعالى:

                                                                                                                              وجادلهم بالتي هي أحسن .

                                                                                                                              قال: والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، في الوضوء والصلاة، بأن يرى أحدا لا يستوعب الغسل، فينادي (ويل للعراقيب من النار) أو لا يتم الطمأنينة، فيقول (صل فإنك لم تصل) .

                                                                                                                              وفي اللباس والكلام وغير ذلك، قال الله تعالى:

                                                                                                                              ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون .




                                                                                                                              الخدمات العلمية