الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
تعريف التقليد والاتباع

وقال أبو عبد الله بن خواز منداد البصري المالكي: التقليد معناه في الشرع : الرجوع إلى قول لا حجة لقائله، وذلك ممنوع منه في الشريعة .

والاتباع: ما ثبت عليه حجة.

وقال في موضع آخر من كتابه: كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قبوله بدليل يوجب ذلك، فأنت مقلده، والتقليد في دين الله غير صحيح.

وكل من أوجب الدليل عليك اتباع قوله، فأنت متبعه، والاتباع في الدين مسوغ، والتقليد ممنوع.

قال: وذكر محمد بن حارث في أخبار سحنون بن سعيد، عنه، قال: كان مالك، وعبد العزيز بن أبي سلمة، ومحمد بن إبراهيم بن دينار، وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز، فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز، أجابهما، وإذا سأله ابن دينار، وذووه، لم يجبهم .

فتعرض له ابن دينار يوما، فقال له: يا أبا بكر! لم تستحل مني ما لا يحل لك؟ فقال له: يا ابن أخي! وما ذاك ؟ قال: يسألك مالك وعبد العزيز، فتجيبهما، وأسألك أنا وذوي ، فلا تجيبنا .

فقال: أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك؟ قال: نعم.

قال: إني قد كبرت سني، ودق عظمي، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني. ومالك، وعبد العزيز، عالمان فقيهان، إذا سمعا مني حقا، قبلاه، وإن سمعا خطأ تركاه، وأنت وذووك، ما أجبتكم به قبلتموه .

قال ابن حارث: هذا والله الدين الكامل، والعقل الراجح، لا كمن يأتي بالهذيان، ويريد أن ينزل قوله من القلوب منزلة القرآن .

[ ص: 267 ] قال أبو عمر: يقال لمن قال بالتقليد: لم قلت به وخالفت السلف في ذلك ; فإنهم لم يقلدوا؟

فإن قال: قلدت; لأن كتاب الله لا علم لي بتأويله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لم أحصها، والذي قلدته قد علم ذلك، فقلدت من هو أعلم مني.

قيل له: أما العلماء إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب وحكاية عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، واجتمع رأيهم على شيء، فهو الحق لا شك فيه .

ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه، بعضهم دون بعض، فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض، وكلهم عالم؟ ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه؟

فإن قال: قلدته ; لأني أعلم أنه صواب.

قيل له: علمت ذلك بدليل من كتاب الله، أو سنة، أو إجماع؟ فإن قال: نعم، أبطل التقليد، وطولب بما ادعاه من الدليل.

وإن قال: قلدته لأنه أعلم مني.

قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك، فإنك تجد من ذلك خلقا كثيرا، ولا تختص من قلدته، إذ علتك فيه أنه أعلم منك .

فإن قال: قلدته لأنه أعلم الناس. قيل له: فإنه إذا أعلم من الصحابة. وكفى بقول مثل هذا قبحا.

فإن قال: أنا أقلد بعض الصحابة .

قيل له: فما حجتك في ترك من تقلد منهم؟ ولعل من تركت قوله منهم أفضل ممن أخذت بقوله؟

على أن القول لا يصح لفضل قائله، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه .

[ ص: 268 ] وقد ذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار، قال، عن ابن القاسم، عن مالك، قال: ليس كلما قال رجل قولا، وإن كان له فضل، يتبع عليه ; لقول الله - عز وجل -: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه .

فإن قال: قصري وقلة علمي يحملني على التقليد.

قيل: أما من قلد فيما ينزل به من أحكام شرعية عالما يتفق له على علمه، فيصدر في ذلك عما يخبره فمعذور; لأنه قد أدى ما عليه، وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولا بد له من تقليد عالم فيما جهله ; لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة ; لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك.

ولكن من كانت هذه حالته، هل يجوز له الفتيا في شرائع دين الله، فيحمل غيره على إباحة الفروج، وإراقة الدماء، واسترقاق الرقاب، وإزالة الأملاك، ويصيرها إلى غير من كانت في يديه لقول لا يعرف صحته، ولا قام له الدليل عليه، وهو مقر أن قائله يخطئ ويصيب، وأن مخالفه في ذلك وربما كان المصيب فيما خالفه فيه؟

فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى لحفظة الفروع، لزمه أن يجيزه للعامة، وكفى بهذا جهلا وردا للقرآن.

قال الله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم ، وقال: أتقولون على الله ما لا تعلمون .

وقد أجمع العلماء على أن ما لم يتبين ولم يستيقن، فليس بعلم، وإنما هو ظن، والظن لا يغني من الحق شيئا.

ثم ذكر حديث ابن عباس: من أفتى بفتيا، وهو يعمى عنها، كان إثمها عليه، موقوفا ومرفوعا.

[ ص: 269 ] قال وهب عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والظن ; فإن الظن أكذب الحديث" ، قال : ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد.

ثم ذكر من طريق ابن وهب: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني أبو عثمان بن مسند: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن العلم بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء" .

ومن طريق كثير بن عبد الله عن جده: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء" ، قيل: يا رسول الله! وما الغرباء؟ قال: "الذين يحيون سنتي، ويعلمونها عباد الله" .

وكان يقال: العلماء غرباء ; لكثرة الجهال.

ثم ذكر عن مالك، عن زيد بن أسلم في قوله: نرفع درجات من نشاء [يوسف: 76]، قال: بالعلم.

وقال ابن عباس - رضي الله عنه - في قول الله تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [المجادلة: 11]، قال: يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات.

وروى هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم في قوله: ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض [الإسراء: 55]، قال: بالعلم.

وإذا كان المقلد ليس من العلماء باتفاق العلماء، لم يدخل في شيء من هذه النصوص. وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية