الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1776 447 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تفتح اليمن، فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشأم، فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ويفتح العراق فيأتي قوم يبسون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث إن هؤلاء القوم المذكورين تفرقوا في البلاد بعد الفتوحات، ورغبوا عن الإقامة في المدينة، ولو صبروا على الإقامة فيها لكان خيرا لهم، والترجمة فيمن رغب عن المدينة، وهؤلاء رغبوا عنها واختاروا غيرها.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم ستة: عبد الله بن يوسف التنيسي، ومالك بن أنس، وهشام بن عروة، وأبوه عروة بن الزبير بن العوام، وعبد الله بن الزبير أخو عروة بن الزبير، وسفيان بن أبي زهير، بضم الزاي مصغر الزهر، النمري، بالنون، الأزدي، ويلقب بابن أبي القرد، بفتح القاف وبعدها دال مهملة، قاله الكرماني، وقيل: القرد هو اسم أبي زهير، وقيل: اسمه نمير، وكان نازلا بالمدينة وهو الشنوئي من أزد شنوءة، بفتح الشين المعجمة وضم النون وبعد الواو همزة مفتوحة، وفي النسب كذلك، وقيل: بفتح النون بعدها همزة مكسورة بلا واو، وشنوءة هو عبد الله بن كعب بن مالك بن نضر بن الأزد، وسمي شنوءة؛ لشنئان كان بينه وبين قومه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، وفيه الإخبار كذلك في موضع، وفيه العنعنة في أربعة مواضع، وفيه السماع والقول في موضعين، وفيه رواية تابعي عن تابعي؛ لأن هشاما لقي بعض الصحابة، وفيه رواية صحابي عن صحابي، وفيه في رواية الأكثرين عن سفيان بن أبي زهير، ورواه حماد بن سلمة، عن هشام، عن أبيه كذلك، وقال في آخره: قال عروة: ثم لقيت سفيان بن أبي زهير عند موته، فأخبرني بهذا الحديث، وفيه أن رواته مدنيون ما خلا شيخ البخاري، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 239 ] (ذكر من أخرجه غيره) أخرجه مسلم في الحج أيضا، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعن محمد بن رافع، وأخرجه النسائي فيه، عن محمد بن آدم، وعن هارون بن عبد الله.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه) قوله: " تفتح اليمن" قال ابن عبد البر وغيره: افتتحت اليمن في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وفي أيام أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وافتتحت الشام بعدها، والعراق بعدها. انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): يمن اسم يعرب بن قحطان بن عابر وهو هود؛ فلذلك يقال: أرض يمن، ذكره في كتاب التيجان، وذكر البكري: إنما سمي اليمن يمنا؛ لأنه عن يمين الكعبة، كما سمي الشام شاما؛ لأنه عن شمال الكعبة، وقيل: إنما سمي بذلك قبل أن تعرف الكعبة؛ لأنه عن يمين الشمس، وقيل: سميت اليمن يمنا بيمن بن قحطان، وحكى الهمداني قال: لما طغت العرب العاربة أقبلت بنو يقطن بن عابر فتيامنوا، فقالت العرب: تيامنت بنو يقطن فسموا اليمن، وتشأم الآخرون فسموا شاما.

                                                                                                                                                                                  قوله: " يبسون" بفتح الياء آخر الحروف وضم الباء الموحدة وتشديد السين المهملة، من بس يبس بسا، والبس سوق الإبل تقول: بس يبس عند السوق وإرادة السرعة، وقال ابن عبد البر في رواية يحيى بن يحيى: يبسون، بكسر الباء الموحدة، وقيل: إن ابن القاسم رواه بضمها.

                                                                                                                                                                                  (قلت): حاصله أنه من باب نصر ينصر، ومن باب ضرب يضرب، وفي التلويح: أشار إلى أنه روي بضم الياء آخر الحروف وكسر الباء الموحدة، فعلى هذا يكون من الثلاثي المزيد فيه من: أبس يبس على وزن أفعل، قال الحربي: ومعناه يتحملون بأهليهم، وقيل: معناه يدعون الناس إلى بلاد الخصب، وقال الداودي: معناه يزجرون دوابهم فيفتتون ما يطؤونه من الأرض من شدة السير، فيصير غبارا من قوله تعالى: وبست الجبال بسا أي: سالت سيلا، وقيل: معناه سارت سيرا، وقال ابن القاسم: البس المبالغة في الفت، ومنه قيل للدقيق المصنوع بالدهن: بسيس، وأنكر ذلك النووي، وقال: إنه ضعيف أو باطل، وقال ابن عبد البر: وقيل معنى يبسون: يسألون عن البلاد، وتستقر لأهلهم البلاد التي تفتح، ويدعونهم إلى سكناها، فيتحملون بسبب ذلك من المدينة راحلين إليها، ويشهد لهذا حديث أبي هريرة عند مسلم: " يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه إلى المجيء إليها لذلك، فيتحمل المدعو بأهله وأتباعه".

                                                                                                                                                                                  وقال النووي: الصواب أن معناه الإخبار عمن خرج من المدينة متحملا بأهله بأسا في سيره مسرعا إلى الرخاء والأمصار المفتتحة، ويؤيد هذا ما رواه ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام بن عروة في هذا الحديث: " تفتح الشام فيخرج الناس من المدينة يبسون، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون".

                                                                                                                                                                                  وروى أحمد في مسنده من حديث جابر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليأتين على أهل المدينة زمان ينطلق الناس فيها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون رخاء، ثم يأتون فيتحملون بأهليهم إلى الرخاء والمدينة خير لو كانوا يعلمون "، وفي إسناده عبد الله بن لهيعة، وفيه مقال، ولكن أحمد قبله، ورضي به، ولا بأس به في المتابعات.

                                                                                                                                                                                  قوله: " لو كانوا يعلمون" ؛ أي: بفضلها من الصلاة في المسجد النبوي، وثواب الإقامة فيها؛ لأنها حرم الرسول، ومهبط الوحي، ومنزل البركات.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): أين جواب "لو"؟ قلت: محذوف، دل عليه ما قبله: أي: لو كانوا من أهل العلم لعرفوا ذلك، ولما فارقواالمدينة، وإن كانت "لو" بمعنى "ليت" فلا جواب لها، وعلى التقديرين ففيه تجهيل لمن فارقها لتفويته على نفسه خيرا عظيما، وفيه معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر بفتح هذه الأقاليم، وأن الناس يتحملون بأهاليهم، ويفارقون المدينة، وأن هذه الأقاليم تفتح على هذا الترتيب المذكور في الحديث، ووجد جميع ذلك. قوله: " ومن أطاعهم" : أي: ويتحملون بمن أطاع أهليهم من الناس.

                                                                                                                                                                                  قوله: " والمدينة خير لهم" الواو فيه للحال، وقال الطيبي: نكر "قوما"؛ لتحقيرهم وتوهين أمرهم، ثم وصفهم بقوله: " يبسون" إشعارا بركاكة عقولهم، وأنهم ممن ركنوا إلى الحظوظ البهيمية، وحطام الدنيا الفانية العاجلة، وأعرضوا عن الإقامة في جوار الرسول صلى الله عليه وسلم ومهبط الوحي؛ ولذلك كرر "قوما"، ووصفه في كل قرينة بقوله: " يبسون" استحضارا لتلك الهيئة البهيمية، وقال الطيبي أيضا: الذي يقتضي هذا المقام أن ينزل "يعلمون" منزلة اللازم؛ لينتفي عنهم العلم والمعرفة بالكلية، ولو ذهب مع ذلك إلى معنى التمني لكان أبلغ؛ لأن التمني طلب ما لا يمكن حصوله: أي: ليتهم كانوا من أهل العلم، تغليظا وتشديدا. انتهى.

                                                                                                                                                                                  وقالوا: المراد به الخارجون من المدينة رغبة عنها كارهين لها، وأما من خرج لحاجة أو تجارة أو جهاد أو نحو ذلك، فليس بداخل في معنى الحديث.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية