الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان مقدار الغنى المحرم للسؤال .

اعلم أن قوله : صلى الله عليه وسلم : من سأل عن ظهر غنى فإنما يسأل جمرا فليستقل منه أو ليستكثر صريح في التحريم ولكن حد الغنى مشكل وتقديره عسير ، وليس إلينا وضع المقادير ، بل يستدرك ذلك بالتوقيف وقد ورد في الحديث استغنوا بغنى الله تعالى عن غيره قالوا : وما هو قال : غداء يوم وعشاء ليلة وفي حديث آخر : من سأل وله خمسون درهما أو عدلها من الذهب فقد سأل إلحافا وورد في لفظ آخر : أربعون درهما ومهما اختلفت التقديرات وصحت الأخبار فينبغي أن يقطع بورودها على أحوال مختلفة فإن الحق في نفسه لا يكون إلا واحدا والتقدير ممتنع وغاية الممكن فيه تقريب ، ولا يتم ذلك إلا بتقسيم محيط بأحوال المحتاجين ، فنقول : قال رسول : صلى الله عليه وسلم : لا حق لابن آدم إلا في ثلاث : طعام يقيم صلبه ، وثوب يواري به عورته ، وبيت يكنه ، فما زاد فهو حساب فلنجعل هذه الثلاث أصلا في الحاجات لبيان أجناسها والنظر في الأجناس والمقادير والأوقات ، فأما الأجناس فهي هذه الثلاث ، ويلحق بها ما في معناها حتى يلحق بها الكراء للمسافر إذا كان لا يقدر على المشي ، وكذلك ما يجري مجراه من المهمات ويلحق بنفسه عياله وولده وكل من تحت كفالته كالدابة أيضا .

وأما المقادير فالثوب يراعى فيه ما يليق بذوي الدين وهو ثوب واحد وقميص ومنديل وسراويل ومداس وأما الثاني من كل جنس فهو مستغنى عنه ، وليقس على هذا أثاث البيت جميعا ولا ينبغي أن يطلب رقة الثياب وكون الأواني من النحاس والصفر فيما يكفي فيه الخزف فإن ذلك مستغنى عنه ، فيقتصر من العدد على واحد ومن النوع على أخس أجناسه ما لم يكن في غاية البعد عن العادة .

وأما الطعام فقدره في اليوم مد وهو ما قدره الشرع ونوعه ما يقتات ولو كان من الشعير .

والأدم على الدوام فضلة وقطعه ، بالكلية إضرار ، ففي طلبه في بعض الأحوال رخصة .

وأما المسكن فأقله ما يجزئ من حيث المقدار وذلك من غير زينة ، فأما السؤال للزينة والتوسع فهو سؤال عن ظهر غنى ، وأما بالإضافة إلى الأوقات فما يحتاج إليه في الحال من طعام يوم وليلة وثوب يلبسه ومأوى يكنه فلا شك فيه .

فأما سؤاله للمستقبل فهذا له ثلاث درجات : إحداها : ما يحتاج إليه في غد ، والثانية : ما يحتاج إليه في أربعين يوما أو خمسين يوما ، والثالثة : ما يحتاج إليه في السنة ولنقطع بأن من معه ما يكفيه له ولعياله إن كان له عيال لسنة فسؤاله حرام فإن ذلك غاية الغنى وعليه ينزل التقدير بخمسين درهما في الحديث فإن خمسة دنانير تكفي المنفرد في السنة إذا اقتصد أما المعيل فربما لا يكفيه ذلك وإن كان يحتاج إليه قبل السنة فإن كان قادرا على السؤال ولا تفوته فرصته فلا يحل له السؤال ؛ لأنه مستغن في الحال وربما لا يعيش إلى الغد فيكون قد سأل ما لا يحتاج فيكفيه غداء يوم وعشاء ليلة ، وعليه ينزل الخبر الذي ورد في التقدير بهذا القدر .

وإن كان يفوته فرصة السؤال ولا يجد من يعطيه لو أخر فيباح له السؤال لأن أمل البقاء سنة غير بعيد ، فهو بتأخير السؤال خائف أن يبقى مضطرا عاجزا عما يعينه ، فإن كان خوف العجز عن السؤال في المستقبل ضعيفا وكان ما لأجله السؤال خارجا عن محل الضرورة لم يخل سؤاله عن كراهية ، وتكون كراهته بحسب درجات ضعف الاضطرار وخوف الفوت وتراخي المدة التي فيها يحتاج إلى السؤال ، وكل ذلك لا يقبل الضبط وهو منوط باجتهاد العبد ونظره لنفسه بينه وبين الله تعالى ، فيستفتي فيه قلبه ويعمل به إن سالكا طريق الآخرة وكل من كان يقينه أقوى ، وثقته بمجيء الرزق في المستقبل أتم ، وقناعته بقوت الوقت أظهر ، فدرجته عند الله تعالى أعلى فلا يكون خوف الاستقبال وقد آتاك الله قوت يومك لك ولعيالك إلا من ضعف اليقين والإصغاء إلى تخويف الشيطان ، وقد قال تعالى : فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين وقال : عز وجل : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والسؤال من الفحشاء التي أبيحت بالضرورة وحال من يسأل لحاجة متراخية عن يومه وإن كان مما يحتاج إليه في السنة أشد من حال من ملك مالا موروثا وادخره لحاجة وراء السنة ، وكلاهما مباحان في الفتوى الظاهرة ولكنهما صادران عن حب الدنيا وطول الأمل وعدم الثقة بفضل الله وهذه الخصلة من أمهات المهلكات نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه .

التالي السابق


(بيان مقدار الغنى المحرم للسؤال ) .

(اعلم) أغناك الله تعالى (أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: من سأل عن ظهر غنى فكأنما يسأل جمرا فليستقل منه أو ليستكثر) رواه أبو داود وابن حبان من حديث سهل ابن الحنظلية، وقد ذكر قريبا، وفي كتاب الزكاة ولفظهما: من سأل شيئا وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم. وأما قوله: "فليستقل منه أو يستكثر" ففي حديث أبي هريرة عند أحمد ومسلم وابن ماجه، وفي حديث حبشي ابن جنادة عند ابن جرير والطبراني، وفي حديث عمر عند ابن حبان كما ذكر كل ذلك قريبا (صريح في التحريم) أي: تحريم السؤال (ولكن حد الغنى مشكل وتقديره عسير، وليس إلينا وضع المقادير، بل يدرك ذلك بالتوقيف) من الشرع (وقد ورد في الحديث) الآخر: (استغنوا بغنى الله تعالى عن غيره) رواه ابن عدي من حديث أبي هريرة وليس فيه عن غيره، وقد تقدم قريبا .

(قالوا: وما هو) أي: غنى الله تعالى (قال: غداء يوم وعشاء ليلة) هو من بقية حديث أبي هريرة عند ابن عدي كما يرشد إليه كلام العراقي وتبعه المناوي، والموجود منه في الجامع الكبير والصغير للسيوطي هو ما ذكرت، وادعى المناوي أن السيوطي ترك تلك الزيادة سهوا، وليس كما ظن بل هذا التقدير وقع في حديث سهل بن الحنظلية، قالوا: وما يغنيه يا رسول الله؟ قال: قدر ما يغديه أو يعشيه. رواه أحمد وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان وابن جرير والطبراني والحاكم وفي حديث علي: قالوا: وما ظهر غنى؟ قال: عشاء ليلة. رواه عبد الله بن أحمد وإسناده حسن وهذا هو المختار من مذهب أبي حنيفة - رضي الله عنه - .

(وفي حديث آخر: من سأل وله خمسون درهما أو عدلها من الذهب فقد سأل إلحافا) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير في تهذيبه والحاكم والبيهقي من حديث ابن مسعود: من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح، قيل: يا رسول الله وما الغنى؟ قال: خمسون درهما أو قيمتها من الذهب. وفي رواية لأحمد: ولا تحل الصدقة لمن له خمسون درهما أو عوضها من الذهب. رواه أحمد والبيهقي من حديث رجل من بني أسد: من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سألها إلحافا.

وقد تقدم هذا للمصنف في كتاب الزكاة فقال: روى عطاء بن يسار منقطعا: من سأل وله أوقية فقد ألحف في السؤال. قال العراقي: هناك رواه أبو داود والنسائي من رواية عطاء عن رجل من بني أسد متصلا، وليس كمنقطع كما ذكره المصنف; لأن الرجل صحابي فلا يضر عدم تسميته، وتقدم الكلام عليه هناك، وروى أبو داود وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني من حديث أبي سعيد: من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف.

(وورد في لفظ آخر: أربعون درهما) رواه النسائي والبيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: من سأل وله أربعون درهما فهو الملحف.

(ومهما اختلفت التقديرات وصحت الأخبار فينبغي أن يقطع بورودها على أحوال مختلفة) جمعا بين الأخبار كي لا تتضاد (فإن الحق في نفسه لا يكون إلا واحدا) كما هو مذهب الأصوليين، (والتقدير ممتنع وغاية الممكن فيه تقريب، ولا يتم ذلك إلا بتقسيم محيط بأحوال المحتاجين، فنقول: قال - صلى الله عليه وسلم -: لا حق لابن آدم إلا في ثلاث: طعام يقيم صلبه، وثوب يواري عورته، وبيت يكنه، فما زاد فهو حساب) رواه الترمذي من حديث عثمان [ ص: 310 ] ابن عفان نحوه، وقد ذكر قريبا (فليجعل هذه الثلاث أصلا في الحاجات لبيان أجناسها والنظر في الأجناس والمقادير والأوقات، فأما الأجناس فهي هذه الثلاث، ويلحق بها ما في معناها حتى يلحق بها الكراء للمسافر إذا كان لا يقدر على المشي، وكذلك ما يجري مجراه من المهمات ويلحق بنفسه عياله وولده وكل من) يكون (تحت كفالته كالدابة أيضا، وأما المقادير فالثوب يراعى فيه ما يليق بذوي الدين) والمروءات (وهو ثوب واحد قميص) يواري جسده (ومنديل يربط) به رأسه (وسراويل) وأزرار (ومداس) في رجليه، فهؤلاء كلهن بمنزلة ثوب واحد لا يستغنى عنها، فإن فرضنا ثوبا واحدا عريضا طويلا فالتحف به من رأسه إلى قدمه فهو كذلك إلا أنه ليس من ثياب ذوي الدين في الأعصار المتأخرة .

(وأما الباقي من كل جنس فهو مستغنى عنه، وليقس على هذا أثاث البيت جميعه) أي: يراعى فيه ما يكفيه (ولا ينبغي أن يطلب رقة الثياب) ورفعتها (وكون الأواني من النحاس والصفر فيما يكفي فيه الخزف فإن ذلك مستغنى عنه، فيقتصر من العدد على نوع واحد ومن النوع على أخس أجناسه ما لم يكن في غاية البعد عن العادة، وأما الطعام فقدره في اليوم مد) بالضم (وهو ما قدره الشرع) وهما حفنتان بالكفين هما قوت الحافن غداء وعشاء كفافا لا إقتارا ولا إسرافا (ونوعية ما يقتات) من طعام بلده (ولو كان من الشعير، والأدم على الدوام فضلة، وقطعه بالكلية إضرار، ففي طلبه في بعض الأحوال رخصة .

وأما المسكن فأقله ما يجزي من حيث المقدار وذلك من غير زينة، فأما السؤال للزينة والتوسع فهو سؤال عن ظهر غنى، وأما بالإضافة إلى الأوقات فما يحتاج إليه في الحال من طعام يوم وليلة) وهو المعبر عنه بالغداء والعشاء (وثوب يلبسه ومأوى يكنه فلا شك فيه .

فأما سؤاله للمستقبل فهذا له ثلاث درجات: إحداها: ما يحتاج إليه في غداء، والثانية: ما يحتاج إليه في أربعين يوما أو خمسين، والثالثة: ما يحتاج إليه في السنة) وقد تقدم ذكرها قريبا (ولنقطع بأن من معه ما يكفيه له) وحده أو له (ولعياله إن كان له عيال لسنة فسؤاله حرام فإن ذلك غاية الغنى) في حقه (وعليه ينزل التقسيم بخمسين درهما في الحديث) المروي عن ابن مسعود (فإن خمسة دنانير تكفي المنفرد في السنة إذا اقتصد) بأن يأكل في كل شهر خمسين نصفا فضة، على أن خمسة دنانير صرفها ستمائة نصف فضة، وتجعل الدرهم كناية عن النصف الفضة بمعاملة مصر الجارية الآن وهذه الكفاية متيسرة إن كانت الأسعار متراخية .

(أما المعيل فربما لا يكفيه ذلك وإن كان يحتاج إليه قبل السنة فإن كان قادرا على السؤال ولا تفوته فرصة فلا يحل له السؤال; لأنه مستغن في الحال وربما لا يعيش إلى الغد فيكون قد سأل ما لا يحتاج إليه فيكفيه غداء يوم وعشاء ليلة، وعليه ينزل الخبر الذي ورد في التقدير بهذا القدر) وهو المروي عن سهل بن الحنظلية (وإن كان تفوته فرصة السؤال ولا يجد من يعطيه لو أخر فيباح له السؤال) حينئذ (لأن أمل البقاء سنة غير بعيد، فهو بتأخير السؤال خائف أن يبقى مضطرا عاجزا عمن يعينه، فإن كان خوف العجز عن السؤال في المستقبل ضعيفا وكان ما لأجله السؤال خارجا عن محل الضرورة لم يخل سؤاله عن كراهية، وتكون كراهته بحسب درجات ضعف الاضطرار وخوف الفوت وتراخي المدة التي [ ص: 311 ] يحتاج فيها إلى السؤال، وكل ذلك لا يقبل الضبط وهو منوط باجتهاد العبد ونظره لنفسه بينه وبين الله تعالى، فيستفتي فيه قلبه ويعمل به إن كان سالكا سبيل الآخرة كلما كان يقينه أقوى، وثقته بمجيء الرزق في المستقبل أتم، وقناعته بفوت الوقت أظهر، فدرجته عند الله أعلى) ، وهو داخل في حد قولهم: الصوفي ابن وقته، أي: يقنع بما تيسر له من كل شيء في وقته سواء كان قوتا ظاهريا أو معنويا، ولا يعلق قلبه بما سيأتي .

(فلا يكون خوف الاستقبال وقد آتاك الله قوت يومك لك ولعيالك إلا من ضعف اليقين) بالله تعالى (والإصغاء إلى تخويف الشيطان، وقد قال تعالى: فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) أي: موقنين، فعبر عن اليقين هنا بالإيمان; لأن اليقين الإيمان كله (وقال - عز وجل -: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والسؤال من) جملة (الفحشاء الذي أبيح بالضرورة) وإليه يشير خبر: مسألة الناس من الفواحش. إن ثبت وروده كما تقدم .

(وحال من يسأل لحاجة متراخية عن يومه وإن كان مما يحتاج إليه في السنة أشد من حال من ملك مالا موروثا وادخره لحاجة وراء السنة، وكلاهما مباح في الفتوى الظاهرة) نظرا إلى ظاهر الحال (ولكنهما صادران عن حب الدنيا وطول الأمل وعدم الثقة بالله تعالى وهذه الخصلة) المتضمنة لهذه الأوصاف الثلاث (من أمهات المهلكات) وأصول المرديات، فنسأل الله تعالى حسن التوفيق بلطفه وكرمه .




الخدمات العلمية