الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأيضا فقول القائل: "إما أن تكون مختصا بذلك المقدار لذاته أو لأمر خارج .

يقال له: أتريد بذاته مجرد الجسمية المشتركة أم ذاته الذي يختص بها ويمتاز بها عن غيره؟

أما الأول فلا يقوله عاقل ، فإن عاقلا لا يعلل الحكم المختص بالأمر [ ص: 202 ] المشترك ، فلا يقول عاقل : إن ما اختص به أحد الشيئين عن الآخر كان للقدر المشترك بينهما ، فإن القدر المشترك بين الشيئين لا يستلزم المختص ، فضلا عن أن يكون علة للمختص ، والعلة مستلزمة للمعلول ، والملزوم أعم من العلة، فإذا لم يكن المشترك ملزوما للمختص ، كان أن لا يكون علة أولى وأحرى، فإن الملزوم حيث وجد وجد اللازم .

ومعلوم أنه ليس حيث المشترك يوجد المختص ، إذ المشترك يوجد في هذا ، والمختص بالآخر منتف .

وفي الجملة فهذا مما لا يتنازع فيه العقلاء ، فلا يكون اختصاص أحد الجسمين [عن الآخر] بخصائصه لمجرد الجسمية المشتركة ، بل تلك الخصائص مما يمتنع ثبوتها لسائر الأجسام .

وحينئذ فيقال : معلوم أن كل جسم مختص بخصائص وخصائصه لا تكون لأجل الجسمية المشتركة ، وذلك يمنع تماثل الأجسام ، لأنها لو كانت متماثلة للزم أن يكون اختصاص بعضها بخصائصه لمخصص، والمخصص: إما الرب وإما غيره ، وتخصيص غيره ممتنع ، لأنه جسم من الأجسام، فالكلام فيه كالكلام في غيره ، ولأن التقدير أنها متماثلة ، فليس هذا بالتخصيص أولى من هذا، وتخصيصه أيضا ممتنع ، [ ص: 203 ] لأنه يستلزم ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بغير مرجح، وذلك ممتنع .

وإذا قيل: المرجح هو القدرة والمشيئة .

قيل: نسبة القدرة والمشيئة إلى جميع المتماثلات سواء ، فيمتنع الترجيح بمجرد ذلك ، فلا بد أن يكون المرجح ما لله تعالى في ذلك من الحكمة ، والحكمة تستلزم علم الحكيم بأن أحد الأمرين أولى من الآخر ، وأن يكون ذلك الراجح أحب إليه من الآخر . وحينئذ فذلك يستلزم تفاضل المعلومات المرادات ، وذلك يمنع تساويها، وهو المطلوب .

وهذا الكلام يتعلق بمسألة حكمة الله في خلقه وأمره ، وهو مبسوط في غير هذا الموضع . ونفاة ذلك غاية ما عندهم: أنهم يزعمون أن ذلك يقتضي افتقاره إلى الغير ، لأن من فعل شيئا لمراد كان مفتقرا إلى ذلك المراد مستكملا به ، والمستكمل بغيره ناقص بنفسه .

وهذه الحجة باطلة كبطلان حجتهم في نفي الصفات ، وذلك أن لفظ "الغير" مجمل. فإن أريد بذلك أنه يفتقر إلى شيء مباين منفصل عنه، فهذا ممنوع فإن مفعولاته ومراداته هو الفاعل لها كلها ، لا يحتاج في شيء منها إلى غيره، وإن أريد بذلك أنه يفتقر إلى ما هو مقدور له مفعول له ، كان حقيقة ذلك أنه مفتقر إلى نفسه أو لوازم نفسه .

ومعلوم أنه سبحانه موجود بنفسه لا يفتقر إلى ما هو غير له مباين [ ص: 204 ] له ، وأنه مستوجب لصفات الكمال التي هي من لوازم ذاته . فإذا قال القائل : إنه مفتقر إلى نفسه، كان حقيقته أنه لا يكون موجودا إلا بنفسه ، وهذا المعنى حق .

وإذا قيل هو مفتقر إلى صفاته اللازمة ، أو جزئه ، أو لوازم ذاته، أو نحو ذلك كان حقيقة ذلك أنه لا يكون موجودا إلا بصفات الكمال ، وأنه يمتنع وجوده دون صفات الكمال التي هي من لوازم ذاته ، وهذا حق ومعلوم : أن الأمور التي لا يمكن وجودها إلا حادثة متعاقبة ليس الكمال في أن يكون كل منها أزليا ، فإن ذلك ممتنع ، ولا في أن ذلك لا يكون ، فإن ذلك نقص وعدم ، بل في أن تكون بحسب إمكانها على ما تقتضيه الحكمة ، فيكون وجود تلك المرادات الحادثة من الكمالات التي يستحقها ولا يحتاج فيها إلى غيره ، فيكون فعله ما يفعله للحكمة من أعظم نعوت الكمال التي يجب أن يوصف بها ، ونفيها عنه يقتضي وصفه بالنقائص ، وإن كل كمال يوصف به فليس مفتقرا فيه إلى غيره أصلا ، بل هو من لوازم ذاته سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، الذين يصفونه بالنقائص ، ويسلبونه الحكمة التي هي من أعظم نعوت الكمال ، توهما أن إثباتها يقتضي الحاجة [ ص: 205 ] إلى غيره ، وذلك غلط محض ، بل لا يقتضي إثباتها إلا استلزام ذاته لنعوت كماله وكمال نعوته، لا افتقار إلى شيء مباين لنفسه المقدسة .

التالي السابق


الخدمات العلمية