الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 35 ] 92

ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين

في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم ، ففتح حصونا ثلاثة ، وجلا أهل سوسنة إلى بلاد الروم .

ذكر فتح الأندلس

وفيها غزا طارق بن زياد مولى موسى بن نصير الأندلس في اثني عشر ألفا ، فلقي ملك الأندلس ، واسمه أذرينوق ، وكان من أهل أصبهان ، وهم ملوك عجم الأندلس ، فزحف له طارق بجميع من معه ، وزحف الأذرينوق وعليه تاجه وجميع الحلية التي كان يلبسها الملوك ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فقتل الأذرينوق ، وفتح الأندلس سنة اثنتين وتسعين .

هذا جميعه ذكره أبو جعفر في فتح الأندلس ، وبمثل ذلك الإقليم العظيم والفتح المبين لا يقتصر فيه على هذا القدر ، وأنا أذكر فتحها على وجه أتم من هذا إن شاء الله تعالى ، من تصانيف أهلها ، إذ هم أعلم ببلادهم .

قالوا : أول من سكنها قوم يعرفون بالأندلش ، بشين معجمة ، فسمي البلد بهم ، ثم عرب بعد ذلك بسين مهملة ، والنصارى يسمون الأندلس أشبانية ، باسم رجل صلب فيها يقال له : أشبانس ، وقيل : باسم ملك كان بها في الزمان الأول اسمه إشبان بن طيطس ، وهذا هو اسمها عند بطليموس . وقيل : سميت بأندلس بن يافث بن نوح وهو أول من عمرها .

قيل : أول من سكن الأندلس بعد الطوفان قوم يعرفون بالأندلس ، فعمروها وتداولوا ملكها دهرا طويلا ، وكانوا مجوسا ، ثم حبس الله عنهم المطر ، وتوالى عليهم القحط ، [ ص: 36 ] فهلك أكثرهم ، وفر منها من أطاق الفرار ، فخلت الأندلس مائة سنة ، ثم ابتعث الله لعمارتها الأفارقة ، فدخل إليها قوم منهم أجلاهم ملك إفريقية تخففا منهم لقحط توالى على بلاده حتى كاد يفني أهلها ، فحملهم في السفن مع أمير من عنده فأرسوا بجزيرة قادس ، ورأوا الأندلس قد أخصبت بلادها ، وجرت أنهارها ، فسكنوها ، وعمروها ، ونصبوا لهم ملوكا يضبطون أمرهم ، وهم على دين من قبلهم ، وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب من أرض إشبيلية بنوها وسكنوها ، وأقاموا مدة تزيد على مائة وخمسين سنة ، ملك منهم فيها أحد عشر ملكا .

ثم أرسل الله عليهم عجم رومة ، وملكهم إشبان بن طيطس ، فغزاهم ومزقهم وقتل فيهم ، وحاصرهم بطالقة وقد تحصنوا فيها فابتنى عليهم إشبانية ، وهي إشبيلية ، واتخذها دار مملكته ، وكثرت جموعه وعتا وتجبر ، وغزا بيت المقدس فغنم ما فيه وقتل فيه مائة ألف ، ونقل المرمر منه إلى إشبيلية وغيرها ، وغنم أيضا مائدة سليمانبن داود ، عليه السلام ، وهي التي غنمها طارق من طليطلة لما افتتحها ، وغنم أيضا قليلة الذهب والحجر الذي لقي بماردة .

وكان هذا إشبان قد وقف عليه الخضر وهو يحرث الأرض فقال له : يا إشبان سوف تحظى وتملك وتعلو ، فإذا ملكت إيلياء فارفق بذرية الأنبياء . فقال : أتسخر مني ؟ كيف ينال مثلي الملك ؟ فقال : قد جعله فيك من جعل عصاك هذه كما ترى . فنظر فإذا هي قد أورقت ، فارتاع وذهب عنه الخضر ، وقد وثق إشبان بقوله ، فداخل الناس ، فارتقى حتى ملك ملكا عظيما ، وكان ملكه عشرين سنة ، ودام ملك الإشبانيين بعده إلى أن ملك منهم خمسة وخمسون ملكا .

ثم دخل عليهم من عجم رومة أمة يدعون البشنوليات ، وملكهم طويش بن نيطه ، وذلك حين بعث الله المسيح ، فغلبوا عليها ، واستولوا على ملكها ، وكانت مدينة ماردة دار مملكتهم ، وملك منهم سبعة وعشرون ملكا .

ثم دخلت عليهم أمة القوط مع ملك لهم ، فغلبوا على الأندلس فاقتطعوها من يومئذ [ ص: 37 ] عن صاحب رومة ، وكان ابتداء ظهورهم من ناحية إيطالية شرق الأندلس ، فأغارت على بلاد مجدونية من تلك الناحية ، وذلك في أيام قليوذيوس قيصر ، ثالث القياصرة ، فخرج إليهم وهزمهم وقتل فيهم ، ولم يظهروا بعدها إلى أيام قسطنطين الأكبر وأعادوا الغارة ، فسير إليهم جيشا فلم يثبتوا له ، وانقطع خبرهم إلى ثلث دولة قيصر ، فإنهم قدموا على أنفسهم أميرا اسمه لذريق ، وكان يعبد الأوثان ، فسار إلى رومة ليحمل النصارى على السجود لأوثانه ، فظهر منه سوء سيرته ، فتخاذل أصحابه عنه ومالوا إلى أخيه وحاربوه ، فاستعان بصاحبرومة فبعث إليه جيشا ، فهزم أخاه ، ودان بدين النصارى ، وكانت ولايته ثلاث عشرة سنة ، ثم ولي بعده إقريط ، وبعده إملريق ، وبعده وغديش ، وكانوا قد عادوا إلى عبادة الأوثان ، فجمع من أصحابه مائة ألف وسار إلى رومة ، فسير إليه ملك الروم جيشا ، فهزموه وقتلوه .

ثم بعده الريق ، وكان زنديقا شجاعا ، فسار ليأخذ بثأر وغديش ومن قتل معه ، ونازل رومية وحاصرها ، وضيق على أهلها ، ودخلها عنوة وغنم أموالهم ، ثم جمع أسطول البحر وسار إلى صقلية ليفتحها ويغنم ما فيها ، فغرق أكثر أصحابه في البحر ، وهو فيمن غرق .

ثم ملك بعده أطلوف ست سنين ، وخرج عن بلد إيطالية ، وأقام ببلد غاليس مجاورا أقصى الأندلس ، ثم انتقل منها إلى برشلونة .

ثم بعده أخوه ثلاث سنين ، ثم بعده واليا ، ثم بوردزاريش ثلاثا وثلاثين سنة ، ثم ابنه طرشمند ، ثم بعده أخوه لذريق ثلاث عشرة سنة ، ثم بعده أوريق سبع عشرة سنة ، ثم بعده الريق بطلوشة ثلاثا وعشرين سنة ، ثم عشليق ، ثم أمليق سنتين ، ثم توذيوش [ ص: 38 ] سبع عشرة سنة وخمسة أشهر ، ثم بعده طودتقليس سنة وثلاثة أشهر ، ثم بعده أثلة خمس سنين ، ثم بعده أطلنجه خمس عشرة سنة ، ثم بعده ليوبا ثلاث سنين ، ثم بعده أخوه لويلد ، وهو أول من اتخذ طليطلة دار ملك ، ونزلها ليكون متوسطا لملكه ليحارب من خرج عن طاعته عن قريب ، فلم يزل يحارب من خرج عن طاعته حتى احتوى على جميع الأندلس ، وبنى مدينة رقوبل وأتقنها وأكثر بساتينها ، وهو على القرب من طليطلة ، وسماها باسم ولده ، وغزا بلاد البشقنس حتى أذلهم ، وخطب إلى ملك الفرنج ابنته لولده أرمنجلد ، فزوجه وأسكنه إشبيلية ، فحسنت له عصيان والده ، ففعل ، فسار إليه أبوه وحصرهما وضيق عليه ، وطال مقامه إلى أن أخذه عنوة ، وسجنه إلى أن مات .

ثم ملك بعد لويلد ابنه ركرد ، وكان حسن السيرة ، فجمع الأساقفة وغير سيرة أبيه وسلم البلاد إليهم ، وكانوا نحو ثمانين أسقفا ، وكان تقيا عفيفا قد لبس ثياب الرهبان ، وهو الذي بنى الكنيسة المعروفة بالوزقة بإزاء مدينة وادي آش . ثم بعده ابنه ليوبا فسار كسيرة أبيه ، فاغتاله رجل من القوط يقال له بتريق ، فقتله ، وملك بعده بتريق هذا بغير رضا أهل الأندلس ، وكان مجرما طاغيا فاسقا ، فثار عليه رجل من خاصته فقتله .

( ثم ملك من بعده غندمار سنتين ) ، ثم ملك بعده سيسيفوط ، وكانت ولايته تسع سنين ، وكان حسن السيرة ، ثم بعده ابنه ركريد ، وكان صغيرا عمره ثلاثة أشهر ، ومات ، ثم ملك شنتله ، وكان ملكه عند البعث ، وكان مشكورا ، ثم بعده سشنند خمس سنين ، ثم بعده خنتلة ستة أعوام ، ثم بعده ( خندس أربعة أعوام ، ثم [ ص: 39 ] بعده بنبان ثمانية أعوام ، ثم بعده ) أروى سبع سنين .

وكان في دولته قحط شديد حتى كادت بلاد الأندلس تخرب لشدة الجوع .

ثم بعده أبقة خمس عشرة سنة ، وكان جائرا مذموما ، ثم ملك بعده ابنه غيطشة ، وكانت ولايته سنة سبع وسبعين للهجرة ، وكان حسن السيرة لين العريكة وأطلق كل محبوس كان في سجن أبيه ، وأدى الأموال إلى أربابها .

ثم توفي وخلف ولدين ، فلم يرض بهما أهل الأندلس ، وتراضوا برجل يقال له رذريق ، وكان شجاعا وليس من بيت الملك ، وكانت عادة ملوك الأندلس أنهم يبعثون أولادهم الذكور والإناث إلى مدينة طليطلة يكونون في خدمة الملك ، لا يخدمه غيرهم يتأدبون بذلك ، فإذا بلغوا الحلم أنكح بعضهم بعضا وتولى تجهيزهم ، فلما ولي رذريق أرسل إليه يوليان ، وهو صاحب الجزيرة الخضراء وسبتة وغيرهما ، ابنة له ، فاستحسنها رذريق وافتضها ، فكتبت إلى أبيها ، فأغضبه ذلك ، فكتب إلى موسى بن نصير عامل الوليد بن عبد الملك على إفريقية بالطاعة ، واستدعاه إليه ، فسار إليه فأدخله يوليان مدائنه ، وأخذ عليه العهود له ولأصحابه بما يرضى به ، ثم وصف له الأندلس ودعاه إليها ، وذلك آخر سنة تسعين .

فكتب موسى إلى الوليد بما فتح الله عليه وما دعاه إليه يوليان . فكتب إليه الوليد : خضها بالسرايا ، ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال . فكتب إليه موسى : إنه ليس ببحر متسع ، وإنما هو خليج يبين ما وراءه . فكتب إليه الوليد أن اختبرها بالسرايا ، وإن كان الأمر على ما حكيت .

فبعث رجلا من مواليه يقال له طريف في أربعمائة رجل ومعهم مائة فرس ، فسار في أربع سفائن ، فخرج في جزيرة بالأندلس ، فسميت جزيرة طريف لنزوله فيها ، ثم أغار على الجزيرة الخضراء ، فأصاب غنيمة كثيرة ، ورجع سالما في رمضان سنة إحدى وتسعين . فلما رأى الناس ذلك تسرعوا إلى الغزو .

ثم إن موسى دعا مولى له كان على مقدمات جيوشه يقال له طارق بن زياد ، فبعثه في سبعة آلاف من المسلمين أكثرهم البربر والموالي وأقلهم العرب ، فساروا في البحر ، وقصد إلى جبل منيف ، وهو متصل بالبر فنزله ، فسمي الجبل جبل طارق إلى اليوم ، ولما ملك عبد المؤمن البلاد أمر ببناء مدينة على هذا الجبل وسماه جبل الفتح ، فلم يثبت له هذا الاسم وجرت الألسنة على الأول .

[ ص: 40 ] وكان حلول طارق فيه في رجب سنة اثنتين وتسعين من الهجرة . ولما ركب طارق البحر غلبته عينه ، فرأى النبي ومعه المهاجرون والأنصار قد تقلدوا السيوف وتنكبوا القسي ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا طارق تقدم لشأنك . وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد ، فنظر طارق فرأى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه قد دخلوا الأندلس أمامه ، فاستيقظ من نومه مستبشرا ، وبشر أصحابه ، وقويت نفسه ، ولم يشك في الظفر .

فلما تكامل أصحاب طارق بالجبل نزل إلى الصحراء ، وفتح الجزيرة الخضراء ، فأصاب بها عجوزا ، فقالت له : إني كان لي زوج ، وكان عالما بالحوادث ، وكان يحدثهم عن أمير يدخل بلدهم فيغلب عليه ، ووصف من نعته أنه ضخم الهامة ، وأن في كتفه اليسرى شامة عليها شعر ، فكشف طارق ثوبه ، فإذا الشامة كما ذكرت ، فاستبشر طارق أيضا هو ومن معه . ونزل من الجبل إلى الصحراء ، وافتتح الجزيرة الخضراء وغيرها ، وفارق الحصن الذي في الجبل .

ولما بلغ رذريق غزو طارق بلاده عظم ذلك عليه ، وكان غائبا في غزاته ، فرجع منها وطارق قد دخل بلاده ، فجمع له جمعا يقال بلغ مائة ألف ، فلما بلغ طارقا الخبر كتب إلى موسى يستمده ويخبره بما فتح ، وأنه زحف إليه ملك الأندلس بما لا طاقة له به . فبعث إليه بخمسة آلاف ، فتكامل المسلمون اثني عشر ألفا ، ومعهم يوليان يدلهم على عورة البلاد ، ويتجسس لهم الأخبار . فأتاهم رذريق في جنده ، فالتقوا على نهر لكة من أعمال شذونة لليلتين بقيتا من رمضان سنة اثنتين وتسعين ، واتصلت الحرب ثمانية أيام ، وكان على ميمنته وميسرته ولدا الملك الذي كان قبله وغيرهما من أبناء الملوك ، واتفقوا على الهزيمة بغضا لرذريق ، وقالوا : إن المسلمين إذا امتلأت أيديهم من الغنيمة عادوا إلى بلادهم وبقي الملك لنا . فانهزموا وهزم الله رذريق ومن معه ، وغرق رذريق في النهر ، وسار طارق إلى مدينة إستجة متبعا لهم ، فلقيه أهلها ومعهم من المنهزمين خلق كثير ، فقاتلوه قتالا شديدا ، ثم انهزم أهل الأندلس ، ولم يلق المسلمون بعدها حربا مثلها . ونزل طارق على عين بينها وبين مدينة إستجة أربعة أميال ، فسميت عين طارق إلى الآن .

[ ص: 41 ] ولما سمعت القوط بهاتين الهزيمتين قذف الله في قلوبهم الرعب ، وكانوا يظنون أنه يفعل فعل طريف ، فهربوا إلى طليطلة ، وكان قد أوهمهم أنه يأكلهم هو ومن معه . فلما دخلوا طليطلة ، وأخلوا مدائن الأندلس قال له يوليان : قد فرغت من الأندلس ، ففرق جيوشك وسر أنت إلى طليطلة . ففرق جيوشه من مدينة إستجة ، وبعث جيشا إلى قرطبة ، وجيشا إلى غرناطة ، وجيشا إلى مالقة ، وجيشا إلى تدمير ، وسار هو ومعظم الجيش إلى جيان يريد طليطلة . فلما بلغ طليطلة وجدها خالية ، وقد لحق من كان بها بمدينة خلف الجبل يقال لها : ماية .

فأما الجيش الذي سار إلى قرطبة فإنهم دلهم راع على ثغرة في سورها ، فدخلوا منها البلد وملكوه .

وأما الذين قصدوا تدمير فلقيهم صاحبها ، واسمه تدمير وبه سميت ، وكان اسمها أرويولة ، وكان معه جيش كثيف ، فقاتلهم قتالا شديدا ، ثم انهزم فقتل من أصحابه خلق كثير ، فأمر تدمير النساء ، فلبسن السلاح ، ثم صالح المسلمين عليها ، وفتح سائر الجيوش ما قصدوا إليه من البلاد .

وأما طارق ، فلما رأى طليطلة فارغة ضم إليها اليهود ، وترك معهم رجالا من أصحابه ، وسار هو إلى وادي الحجارة ، فقطع الجبل من فج فيه ، فسمي بفج طارق إلى اليوم . وانتهى إلى مدينة خلف الجبل تسمى مدينة المائدة ، وفيها وجد مائدة سليمان بن داود ، عليه السلام ، وهي من زبرجد خضر ، حافاتها وأرجلها منها مكللة باللؤلؤ والمرجان والياقوت وغير ذلك ، وكان لها ثلاثمائة وستون رجلا . ثم مضى إلى مدينة ماية ، فغنم منها ورجع إلى طليطلة في سنة ثلاث وتسعين .

وقيل : اقتحم أرض جليقية ، فخرقها حتى انتهى إلى مدينة إسترقة ، وانصرف إلى طليطلة ، ووافته جيوشه التي وجهها من إستجة بعد فراغهم من فتح تلك المدن التي سيرهم إليها .

ودخل موسى بن نصير الأندلس في رمضان سنة ثلاث وتسعين في جمع كثير ، وكان قد بلغه ما صنع طارق فحسده ، فلما عبر إلى الأندلس ونزل الجزيرة الخضراء قيل له : تسلك طريق طارق ، فأبى ، فقال له الأدلاء : نحن ندلك على طريق أشرف من طريقه ومدائن لم تفتح بعد ، ووعده يوليان بفتح عظيم ، فسر بذلك ، وكان قد غمه .

[ ص: 42 ] فساروا به إلى مدينة ابن السليم فافتتحها عنوة ، ثم سار إلى مدينة قرمونة ، وهي أحصن مدن الأندلس ، فقدم إليها يوليان وخاصته ، فأتوهم على حال المنهزمين معهم السلاح ، فأدخلوهم مدينتهم ، فأرسل موسى إليهم الخيل ، ففتحوها لهم ليلا ، فدخلها المسلمون وملكوها ، ثم سار موسى إلى إشبيلية ، وهي من أعظم مدائن الأندلس بنيانا وأعزها آثارا ، فحصرها أشهرا ، وفتحها وهرب من بها ، فأنزلها موسى اليهود ، وسار إلى مدينة ماردة فحصرها ، وقد كان أهلها خرجوا إليه فقاتلوه قتالا شديدا ، فكمن لهم موسى ليلا في مقاطع الصخر ، فلم يرهم الكفار ، فلما أصبحوا زحف إليهم ، فخرجوا إلى المسلمين على عادتهم ، فخرجوا عليهم من الكمين وأحدقوا بهم ، وحالوا بينهم وبين البلد ، وقتلوهم قتلا ذريعا ، ونجا من نجا منهم ، فدخل المدينة ، وكانت حصينة ، فحصرهم بها أشهرا ، وقاتلهم ، وزحف إليهم بدبابة عملها ونقبوا سورها ، فخرج أهلها على المسلمين ، فقتلوهم عند البرج ، فسمي برج الشهداء إلى اليوم ، ثم افتتحها آخر رمضان سنة أربع وتسعين يوم الفطر صلحا على أن جميع أموال القتلى يوم الكمين وأموال الهاربين إلى جليقية وأموال الكنائس وحليها للمسلمين .

ثم إن أهل إشبيلية اجتمعوا وقصدوها ، فقتلوا من بها من المسلمين ، فسير موسى إليها ابنه عبد العزيز بجيش ، فحصرها وملكها عنوة ، وقتل من بها من أهلها ، وسار عنها إلى لبلة وباجة ، فملكها ، وعاد إلى إشبيلية .

وسار موسى من مدينة ماردة في شوال يريد طليطلة ، فخرج طارق إليه فلقيه ، فلما أبصره نزل إليه ، فضربه موسى بالسوط على رأسه ، ووبخه على ما كان من خلافه ، ثم سار به إلى مدينة طليطلة ، فطلب منه ما غنم والمائدة أيضا ، فأتاه بها وقد انتزع رجلا من أرجلها ، فسأله عنها ، فقال : لا علم لي ، كذلك وجدتها ، فعمل عوضها من ذهب .

وسار موسى إلى سرقسطة ومدائنها ، فافتتحها وأوغل في بلاد الفرنج ، فانتهى إلى مفازة كبيرة وأرض سهلة ذات آثار ، فأصاب فيها صنما قائما فيه مكتوب بالنقر : يا بني إسماعيل إلى هاهنا منتهاكم فارجعوا ، وإن سألتم إلى ماذا ترجعون أخبرتكم أنكم ترجعون إلى الاختلاف فيما بينكم ، حتى يضرب بعضكم أعناق بعض ، وقد فعلتم .

فرجع ووافاه رسول الوليد في أثناء ذلك يأمره بالخروج عن الأندلس والقفول إليه ، [ ص: 43 ] فساءه ذلك ومطل الرسول ، وهو يقصد بلاد العدو في غير ناحية الصنم ، يقتل ، ويسبي ، ويهدم الكنائس ، ويكسر النواقيس ، حتى بلغ صخرة بلاي على البحر الأخضر ، وهو في قوة وظهور ، فقدم عليه رسول آخر للوليد يستحثه ، وأخذ بعنان بغلته وأخرجه ، وكان موافاة الرسول بمدينة لك بجليقية ، وخرج على الفج المعروف بفج موسى ، ووافاه طارق من الثغر الأعلى ، فأقفله معه ومضيا جميعا .

واستخلف موسى على الأندلس ابنه عبد العزيز بن موسى ، فلما عبر البحر إلى سبته استخلف عليها وعلى طنجة وما والاهما ابنه عبد الملك ، واستخلف على إفريقية وأعمالها ابنه الكبير عبد الله ، وسار إلى الشام ، وحمل الأموال التي غنمت من الأندلس والذخائر والمائدة ، ومعه ثلاثون ألف بكر من بنات ملوك القوط وأعيانهم ، ومن نفيس الجوهر والأمتعة ما لا يحصى ، فورد الشام ، وقد مات الوليد بن عبد الملك ، واستخلف سليمان بن عبد الملك ، وكان منحرفا عن موسى بن نصير ، فعزله عن جميع أعماله ، وأقصاه وحبسه وأغرمه حتى احتاج أن يسأل العرب في معونته .

وقيل : إنه قدم الشام والوليد حي ، وكان قد كتب إليه وادعى أنه هو الذي فتح الأندلس ، وأخبره خبر المائدة ، فلما حضر عنده عرض عليه ما معه وعرض المائدة ، ومعه طارق ، فقال طارق : أنا غنمتها . فكذبه موسى . فقال طارق للوليد : سله عن رجلها المعدومة . فسأله عنها ، فلم يكن عنده منها علم ، فأظهرها طارق ، وذكر أنه أخفاها لهذا السبب . فعلم الوليد صدق طارق ، وإنما فعل هذا لأنه كان حبسه وضربه حتى أرسل الوليد فأخرجه ، وقيل : لم يحبسه .

قالوا : ولما دخلت الروم بلاد الأندلس كان في مملكتهم بيت إذا ولي ملك منهم أقفل عليه قفلا ، فلما ملكت القوط فعلوا كفعلهم ، فلما ملك رذريق أراد فتح الأقفال ، فنهاه أكابر أهل البلاد عن ذلك ، فلم يقبل منهم ، وفتح الأقفال ، فرأى في البيت صور العرب وعليهم العمائم الحمر على خيول شهب ، وفيه كتاب : إذا فتح هذا البيت دخل هؤلاء القوم هذا البلد . ففتحت الأندلس تلك السنة .

فهذا القدر كاف في فتح الأندلس ، ونذكر باقي أخبار الأندلس عند أوقات حدوثها على ما شرطنا إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية