الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          وأما قولنا : لا يجوز الصوم في السفر فإن الناس اختلفوا - : فقالت طائفة : من سافر بعد دخول رمضان فعليه أن يصومه كله . وقالت طائفة : بل هو مخير إن شاء صام وإن شاء أفطر

                                                                                                                                                                                          . وقالت طائفة : لا بد له من الفطر ولا يجزئه صومه . [ ص: 390 ] ثم افترق القائلون بتخييره - : فقالت طائفة : الصوم أفضل ، وقالت طائفة : الفطر أفضل : وقالت طائفة : هما سواء ، وقالت طائفة : لا يجزئه الصوم ولا بد له من الفطر - : فروينا القول الأول : عن علي من طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي بن أبي طالب قال : من أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر بعد لزمه الصوم ; لأن الله تعالى قال : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } وعن عبيدة مثله .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن عباس مثله ; وعن عائشة أم المؤمنين : أنها نهت عن السفر في رمضان ; وعن خيثمة كانوا يقولون : إذا حضر رمضان : فلا تسافر حتى تصوم . وعن أبي مجلز مثله قال : فإن أبى أن لا يسافر فليصم .

                                                                                                                                                                                          وعن إبراهيم النخعي مثل قول أبي مجلز . وعن عروة بن الزبير أنه سئل عن المسافر أيصوم أم يفطر ؟ فقال : يصوم . وأما الطائفة المجوزة للصوم والفطر ; أو المختارة للصوم - : فهو قول أبي حنيفة ، ومالك والشافعي ; فشغبوا بقول الله تعالى : { وأن تصوموا خير لكم } واحتجوا بأحاديث - : منها حديث سلمة بن المحبق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : { من كانت له حمولة يأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه } . ومن طريق أبي سعيد ، وأبي الدرداء ، وجابر { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أصحابه في السفر بالفطر وهو صائم فترددوا وفطر هو عليه السلام } . وذكروا عن أم المؤمنين أنها كانت تصوم في السفر وتتم الصلاة ; وعن أبي موسى [ ص: 391 ] أنه كان يصوم رمضان في السفر . وعن أنس بن مالك إن أفطرت فرخصة الله تعالى ، وإن صمت فالصوم أفضل . وعن عثمان بن أبي العاص ، وابن عباس : الصوم أفضل . وعن المسور بن مخرمة ، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث مثله ; وعن علي أنه صام في سفر ; لأنه كان راكبا ، وأفطر سعد مولاه ، لأنه كان ماشيا وعن عمر بن عبد العزيز : صمه في اليسر وأفطره في العسر .

                                                                                                                                                                                          وعن طاوس : الصوم أفضل ، وعن الأسود بن يزيد مثله . واحتج من رأى الأمرين سواء بحديث { حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال : يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي ذلك شئت يا حمزة } . وبحديث مرسل عن الغطريف أبي هارون { أن رجلين سافرا ، فصام أحدهما وأفطر الآخر ، فذكرا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : كلاكما أصاب } . وبحديث مرسل عن أبي عياض { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن ينادى في الناس : من شاء صام ومن شاء أفطر } . ومن طريق أبي سعيد وجابر ، { كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم } . [ ص: 392 ] وعن علقمة ، والأسود ، ويزيد بن معاوية النخعي : أنهم سافروا في رمضان فصام بعضهم ، وأفطر بعضهم فلم يعب بعضهم على بعض . وعن عطاء إن شئت فصم وإن شئت فأفطر . وأما من رأى الفطر أفضل فاحتجوا بحديث { حمزة بن عمرو إذ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال له عليه السلام : هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه } .

                                                                                                                                                                                          وممن روينا عنه اختيار الفطر على الصوم - : سعد بن أبي وقاص ، روينا أنه سافر هو ، وعبد الرحمن بن الأسود ، والمسور بن مخرمة فصاما وأفطر سعد فقيل له في ذلك ؟ فقال : أنا أفقه منهما . وصح عن ابن عمر أنه كان لا يصوم في السفر وكان معه رقيق فكان يقول : يا نافع ضع له سحوره ؟ قال نافع : وكان ابن عمر إذا سافر أحب إليه أن يفطر يقول : رخصة ربي أحب إلي وأن آجر لك أن تفطر في السفر . ويحتج أهل هذا القول بحديث حمزة بن عمرو الذي روينا آنفا { عن النبي صلى الله عليه وسلم هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه } ، فحسن الفطر ولم يزد في الصوم على إسقاط الجناح . قال علي : هذا ما احتجت به كل طائفة ممن رأت الصوم في السفر لم ندع منه شيئا ، ولسنا نقول بشيء من هذه الأقوال فنحتاج إلى ترجيح بعضها على بعض ، إلا أنها [ ص: 393 ] كلها متفقة على جواز الصوم لرمضان في السفر ، وهو خلاف قولنا فإنما يلزمنا دفعها كلها من أجل ذلك فنقول وبالله تعالى نتأيد ونستعين - : أما قول الله تعالى : { وأن تصوموا خير لكم } فقد أتى كبيرة من الكبائر ، وكذب كذبا فاحشا من احتج بها في إباحة الصوم في السفر ; لأنه حرف كلام الله تعالى عن موضعه نعوذ بالله تعالى من مثل هذا .

                                                                                                                                                                                          وهذا عار لا يرضى به محقق ; لأن نص الآية { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم } وإنما نزلت هذه الآية في حال الصوم المنسوخة ; وذلك أنه كان الحكم في أول نزول صوم رمضان : أن من شاء صامه ومن شاء أفطره وأطعم مكان كل يوم مسكينا ، وكان الصوم أفضل ، هذا نص الآية ، وليس للسفر فيها مدخل أصلا ولا للإطعام مدخل في الفطر في السفر أصلا ; فكيف استجازوا هذه الطامة ؟ وبهذا جاءت السنن ؟ - : حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج حدثني عمرو بن سواد أنا عبد الله بن وهب أنا عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع { عن سلمة بن الأكوع قال : كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين حتى نزلت هذه الآية : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } . } وبه إلى مسلم - : نا قتيبة بن سعيد نا بكر يعني ابن مضر - عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع عن سلمة بن الأكوع قال : لما نزلت هذه الآية : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها . [ ص: 394 ] قال أبو محمد : فحينئذ كان الصوم أفضل ; فظهرت فضيحة من احتج بهذه الآية في الصوم في السفر ؟ وأما حديث ابن المحبق { من كان يأوي إلى حمولة أو شبع فليصم } فحديث ساقط لأن راويه عبد الصمد بن حبيب - وهو بصري - لين الحديث عن سنان بن سلمة بن المحبق وهو مجهول

                                                                                                                                                                                          ثم لو صح هذا الخبر لما كان فيه حجة لأحد من الطوائف المذكورة إلا للقول المروي عن عمر بن عبد العزيز " صمه في اليسر ، وأفطره في العسر " لأنه ليس فيه إلا إيجاب الصوم ، ولا بد على ذي الحمولة والشبع ، وهذا خلاف جميع الطوائف المذكورة . وأما حديث الغطريف ، وأبي عياض فمرسلان ; ولا حجة في مرسل ; وأما حديث حمزة بن عمرو الذي ذكرنا هاهنا الذي فيه إباحة الصوم في رمضان في السفر ; فإنما هو من رواية ابن حمزة - ابنه محمد بن حمزة - وهو ضعيف ، وأبوه كذلك ; وأما الثابت من حديث حمزة هو ما نذكره إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          وأما حديث أبي سعيد ، وأبي الدرداء ، وجابر ; فلا حجة لهم في شيء منها لوجهين :

                                                                                                                                                                                          أحدهما : ليس في شيء منها أنه عليه الصلاة والسلام كان صائما لرمضان ، وإذ ليس ذلك فيها فلا يجوز القطع بذلك ، ولا الاحتجاج باختراع ما ليس في الخبر على القرآن ، وقد يمكن أن يكون صائما تطوعا .

                                                                                                                                                                                          والثاني : أنه حتى لو كان ذلك فيها نصا لما كان لهم فيها حجة ; لأن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم إيجاب الفطر في رمضان في السفر ; فلو كان صوم رمضان في السفر قبل ذلك مباحا لكان منسوخا بآخر أمره عليه الصلاة والسلام كما نذكره إن شاء الله تعالى

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية