الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 944 ) فصل : وإذا ارتج على الإمام في الفاتحة لزم من وراءه الفتح عليه ، كما لو نسي سجدة لزمهم تنبيهه بالتسبيح . فإن عجز عن إتمام الفاتحة فله أن يستخلف من يصلي بهم ; لأنه عذر ، فجاز أن يستخلف من أجله ، كما لو سبقه الحدث . وكذلك لو عجز في أثناء الصلاة عن ركن يمنع الائتمام ، كالركوع أو السجود ، فإنه يستخلف من يتم بهم الصلاة ، كمن سبقه الحدث بل هذا أولى بالاستخلاف ; لأن من سبقه الحدث قد بطلت صلاته ، وهذا صلاته صحيحة فكان بالاستخلاف أولى .

                                                                                                                                            وإذا لم يقدر على إتمام الفاتحة ، فقال ابن عقيل : يأتي بما يحسن ويسقط عنه ما عجز عنه ، وتصح صلاته لأن القراءة ركن عجز عنه في أثناء الصلاة ، فسقط كالقيام ، فأما المأموم فإن كان أميا عاجزا عن قراءة الفاتحة صحت صلاته أيضا وإن كان قارئا نوى مفارقته ، وأتم وحده ، ولا يصح له إتمام الصلاة خلفه لأن هذا قد صار حكمه حكم الأمي والصحيح أنه إذا لم يقدر على قراءة الفاتحة أن صلاته تفسد لأنه قادر على الصلاة بقراءتها فلم تصح صلاته بدون ذلك ، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام { لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب } ولا يصح قياس هذا على الأمي لأن الأمي لو قدر على تعلمها قبل خروج الوقت ، لم تصح صلاته بدونها ، وهذا يمكنه أن يخرج فيسأل عما وقف عليه ويصلي ، ولا قياسه على أركان الأفعال ; لأن خروجه عن الصلاة لا يزيل عجزه عنها ، ولا يأمن عود مثل ذلك لعجز بخلاف هذا .

                                                                                                                                            النوع الثاني : ما لا يتعلق بتنبيه آدمي ، إلا أنه لسبب من غير الصلاة ، مثل أن يعطس فيحمد الله ، أو تلسعه عقرب فيقول : بسم الله . أو يسمع ، أو يرى ما يغمه فيقول : { إنا لله وإنا إليه راجعون } أو يرى عجبا فيقول : سبحان الله . فهذا لا يستحب في الصلاة ولا يبطلها نص عليه أحمد في رواية الجماعة ، في من عطس فحمد الله ، لم تبطل صلاته وقال ، في رواية مهنا ، في من قيل له وهو يصلي : ولد لك غلام . فقال : الحمد لله أو قيل له : احترق دكانك قال : لا إله إلا الله أو ذهب كيسك : فقال لا حول ولا قوة إلا بالله فقد مضت صلاته ولو قيل : له مات أبوك . فقال { إنا لله وإنا إليه راجعون } فلا يعيد صلاته . وذكر حديث علي حين أجاب الخارجي .

                                                                                                                                            وهذا قول الشافعي ، وأبي يوسف . وقال أبو حنيفة : تفسد صلاته لأنه كلام آدمي وقد روي [ ص: 397 ] عن أحمد مثل هذا ; فإنه قال في من قيل له : ولد لك غلام . فقال : الحمد لله رب العالمين . أو ذكر مصيبة ، فقال : { إنا لله وإنا إليه راجعون } . قال يعيد الصلاة . وقال القاضي : هذا محمول على من قصد خطاب آدمي . ولنا ما روى عامر بن ربيعة ، قال : { عطس شاب من الأنصار خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة ، فقال : الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، حتى يرضى ربنا ، وبعدما يرضى من أمر الدنيا والآخرة . فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من القائل هذه الكلمة ؟ فإنه لم يقل بأسا ، ما تناهت دون العرش } . رواه أبو داود .

                                                                                                                                            وعن علي ، أنه قال له رجل من الخوارج ، وهو في صلاة الغداة ، فناداه : { لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } . قال : فأنصت له حتى فهم ، ثم أجابه وهو في الصلاة : { فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } احتج به أحمد ، ورواه أبو بكر النجاد ، بإسناده . ولأن ما لا يبطل الصلاة ابتداء لا يبطلها إذا أتى به عقيب سبب ، كالتسبيح لتنبيه إمامه . قال الخلال : اتفق الجميع ، عن أبي عبد الله ، على أنه - لا يرفع صوته - يعني : العاطس لا يرفع صوته - بالحمد ، وإن رفع فلا بأس ; بدليل حديث الأنصاري .

                                                                                                                                            وقال أحمد ، في الإمام يقول : " لا إله إلا الله " . فيقول من خلفه : " لا إله إلا الله " يرفعون بها أصواتهم ، قال : يقولون ، ولكن يخفون ذلك في أنفسهم . وإنما لم يكره أحمد ذلك ، كما كره القراءة خلف الإمام ; لأنه يسير لا يمنع الإنصات ، فجرى مجرى التأمين . قيل لأحمد : فإن رفعوا أصواتهم بهذا ؟ قال : أكرهه . قيل : فينهاهم الإمام ؟ قال : لا ينهاهم . قال القاضي : إنما لم ينههم ; لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الجهر بمثل ذلك في صلاة الإخفاء ، فإنه كان يسمعهم الآية أحيانا .

                                                                                                                                            ( 945 ) فصل : قيل لأحمد ، رحمه الله : إذا قرأ : { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } هل يقول : " سبحان ربي الأعلى " . قال : إن شاء قاله فيما بينه وبين نفسه ، ولا يجهر به في المكتوبة وغيرها . وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قرأ في الصلاة : { سبح اسم ربك الأعلى } . فقال : سبحان ربي الأعلى ، . وعن ابن عباس ، أنه قرأ في الصلاة : { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } . فقال : سبحانك ، وبلى . وعن موسى بن أبي عائشة ، قال : { كان رجل يصلي فوق بيته ، فكان إذا قرأ : { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } . قال : سبحانك فبكى ، فسألوه عن ذلك ، فقال : سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم } . رواه أبو داود . ولأنه ذكر ورد الشرع به ، فجاز التسبيح في موضعه .

                                                                                                                                            النوع الثالث : أن يقرأ القرآن يقصد به تنبيه آدمي ، مثل أن يقول : { ادخلوها بسلام } . يريد الإذن ، أو يقول لرجل اسمه يحيى : { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } . أو { : يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا } . فقد روي عن أحمد أن صلاته تبطل بذلك . وهو مذهب أبي حنيفة ; لأنه خطاب آدمي فأشبه ما لو كلمه . وروي عنه ما يدل على أنها لا تبطل ; لأنه قال في من قيل له : مات أبوك . فقال { إنا لله وإنا إليه راجعون } . لا يعيد الصلاة .

                                                                                                                                            واحتج بحديث علي ، حين قال للخارجي : { فاصبر إن وعد الله حق } . وروي نحو هذا [ ص: 398 ] عن ابن مسعود وابن أبي ليلى . وروى أبو بكر الخلال ، بإسناده عن عطاء بن السائب ، قال : استأذنا على عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وهو يصلي . فقال { : ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين } . فقلنا : كيف صنعت ، فقال : استأذنا على عبد الله بن مسعود وهو يصلي ، فقال { : ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين } .

                                                                                                                                            ولأنه قرأ القرآن ، فلم تفسد صلاته ، كما لو لم يقصد به التنبيه .

                                                                                                                                            وقال القاضي : إن قصد التلاوة دون التنبيه ، لم تفسد صلاته ، وإن قصد التنبيه دون التلاوة ، فسدت صلاته ; لأنه خاطب آدميا ، وإن قصدهما جميعا ففيه وجهان : أحدهما ، لا تفسد صلاته . وهو مذهب الشافعي ; لما ذكرنا من الآثار والمعنى .

                                                                                                                                            والثاني : تفسد صلاته ; لأنه خاطب آدميا ، أشبه ما لو لم يقصد التلاوة . فأما إن أتى ما لا يتميز به القرآن من غيره ، كقوله لرجل اسمه إبراهيم . يا إبراهيم . أو لعيسى : يا عيسى . ونحو ذلك ، فسدت صلاته ; لأن هذا كلام الناس ، ولم يتميز عن كلامهم بما يتميز به القرآن ، فأشبه ما لو جمع بين كلمات متفرقة في القرآن ، فقال يا إبراهيم خذ الكتاب الكبير .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية