الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      تنبيهات

                                                      الأول : أطلق أكثر الأصوليين ترجمة المسألة ، لكن محل الخلاف ليس القياس المعارض للنص العام مطلقا ، فإن بعض أنواع القياس يجب تقديمه على عموم النص ، وهو ما إذا كان حكم الأصل الذي يستند إليه حكم الفرع مقطوعا به ، وعلته منصوصة أو مجمعا عليها مع تصادقهما في الشرع من غير صارف قطعا ، فهذا النوع من القياس لا أوفق الخلاف فيه في أنه يخصص به عموم النص ، فيجب استثناء هذه الصورة من ترجمة المسألة ، وقد أشار إلى ذلك الإبياري شارح " البرهان " وغيره .

                                                      وجعل الغزالي محل الخلاف في قياس النص الخاص ، وقضيته أنه لو كان قياس نص عام لم يخص به ، بل يتعارضان ، كالعمومين ، ويشكل عليه المذهب الثاني .

                                                      وقال الصفي الهندي : هذا كله في القياس المستنبط من الكتاب ، أو من السنة المتواترة بالنسبة إلى عموم الكتاب ، أو عموم السنة المتواترة ، أو عموم خبر الواحد فأما القياس المستنبط من خبر الواحد بالنسبة إلى عموم خبر الواحد فعلى الخلاف السابق أيضا وأما بالنسبة إلى عموم الكتاب ، فيترتب على جواز تخصيصه بخبر الواحد ، فمن لا يجوز ذلك لا يجوز [ ص: 497 ] بالقياس المستنبط منه بطريق الأولى ; وأما من يجوز ذلك ، فيحتمل أن لا يجوز ذلك لزيادة الضعف ، ويحتمل أن يجوز ذلك أيضا كما في القياس المستنبط من الكتاب ، إذ قد يكون قياسه أقوى من عموم الكتاب ، بأن يكون قد تطرق إليه تخصيصات كثيرة ، ويحتمل أن يتوقف فيه لتعادلهما إذ قد يظهر له ذلك

                                                      الثاني : مثل القفال الشاشي للتخصيص بالقياس بقوله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } ، وقوله في الإماء : { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } فدلت هذه الآية على أن الأمة لم تدخل في عموم من أمر بجلدها مائة من النساء ، ثم قيس العبد على الأمة ، فجعل حده خمسين جلدة . فكانت الأمة مخصوصة ، والعبد مخصوصا من جملة قوله : { والزاني } بالقياس على الأمة قال : { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير } إلى قوله : { فكلوا منها } فاحتملت إباحة الأكل في جميع الهدي ، واحتمل في البعض وأجمعوا على أن هدي جزاء الصيد لا يجوز الأكل منه ; فكان هذا مخصوصا بالإجماع ، واختلفوا في هدي المتعة ، فذهب أصحابنا إلى تحريم الأكل . وخالفهم غيرهم ، فكان الوجه عندنا في ذلك أنه واجب ، كوجوب جزاء الصيد ، ووجوب ما ينذر المرء إخراجه من ماله ، فقيس المختلف فيه من ذلك على والمجمع عليه ، لاجتماعهما في المعنى ، وهو الوجوب وكان جزاء الصيد خارجا من العموم بالإجماع ، وهدي المتعة والقران مخصوص بالقياس على ذلك ، وتبعه ابن السمعاني في ذلك [ ص: 498 ] ومثله القاضي أبو الطيب الطبري بأن الصبي الذي لا يجامع مثله إذا مات ، والمرأة حامل لا تعتد منه ، لأنه حمل لا يمكن أن يكون من زوجها ، ومنفي عنه قطعا فلا تعتد منه ، قياسا على الحمل الحادث بعد وفاته ، فيخصص بهذا القياس عموم : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } .

                                                      الثالث : أن الخلاف في أصل هذه المسألة اختلفوا فيه ، هل هو من جنس الخلاف في القطعيات ; أو من المجتهدات ؟ قال الغزالي : يدل كلام القاضي على أن القول في تقديم خبر الواحد على عموم الكتاب ، وفي تقديم القياس على العموم مما يجب القطع فيه بخطأ المخالف ، لأنه من مسائل الأصول . قال : وعندي أن إلحاق هذا بالمجتهدات أولى ، فإن الأدلة فيه من الجوانب متفاوتة ، غير بالغة مبلغ القطع انتهى . وحينئذ فتوقف القاضي إنما هو عن القطع ، ولا ينكر أن الأرجح التخصيص ، ولكن عنده أن الأرجحية لا تكفي في هذه المسألة ، لأن مسائل هذا الفن عنده قطعية لا ظنية ، وحينئذ فنحن نوافقه على انتفاء القطع ، وإنما ندعي أن الظن كاف في العمل ، فلا نتوقف ; وهو لا يكتفي بالظن ، فيتوقف .

                                                      الرابع : أن هذه المسألة غير مسألة تخصيص العموم بالمعنى ، فإن تلك للشافعي فيها قولان ، ولهذا تردد في نقض الوضوء بالمحارم ، لأجل عموم : { أو لامستم النساء } والتخصيص بالمعنى ، وهو الشهوة منتفية فيهم ، وكذا في القاتل بحق مع حديث : { القاتل لا يرث } . وقوله : { أيما إهاب دبغ فقد طهر } استنبطوا منه ما خصص جلد الكلب والخنزير . وقد نقح إمام الحرمين في النهاية " الفارق بين المسائل ، فقال بعد [ ص: 499 ] تجويزه التخصيص بالقياس : هذا فيما يتطرق إليه المعنى ، وأما ما لا يتطرق إليه معنى مستمر جائز على السير ، فالأصل فيه التعلق بالظاهر ، وتنزيله منزلة النص ، ولكن قد يلوح مع هذا مقصود الشارع بجهة من الجهات ، فيتعين النظر إليه

                                                      وهذا له أمثلة منها أن الله تعالى ذكر الملامسة في قوله : { أو لامستم النساء } فجعلها الشافعي على الجس باليد ، ثم تردد نصه في لمس المحارم من جهة أن التعليل لا جريان له في الأحداث الناقضة وما لا يجري القياس في إثباته ، فلا يكاد يجري في نفيه . فمال الشافعي في ذلك إلى اتباع اسم النساء ، وأصح قوليه : أن الطهارة لا تنقض بمسهن ، لأن ذكر الملامسة المضافة إلى أن يقع شيء من الأحداث يشعر بلمس اللاتي يقصدن باللمس قال فإن لم يتجه معنى صحيح دلت القرينة على التخصيص ، كقوله عليه السلام { ليس للقاتل من الميراث شيء } ، فالحرمان لا ينسد فيه تعليل ، فإذا انسد مسلك التعليل اقتضى الحال التعلق بلفظ الشارع : تردد الشافعي في أن القتل قصاصا أو حدا إذا صدر من الوارث فهل يقتضي حرمانه ؟ فوجه تعلق الحرمان بكل قتل ، التعلق بالظاهر مع حسم التعليل ، ووجه إثبات الإرث التطلع إلى مقصود الشارع ، وليس بخفي أن قصده مضادة غرض المستعجل ، وهذا لا يتحقق في القتل الحق ; وكذلك النهي عن بيع اللحم بالحيوان فمن عمم تعلق بالظاهر ، ومن فصل بين الربوي وغيره تشوف إلى درك مقصود . وهو أن في الحيوان كما نبيع الشاة به نبيع الشاة بلحمه .

                                                      اعلم أنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يعممه قطعا ، كاستنباط [ ص: 500 ] ما يشوش الفكر من قوله عليه السلام : { لا يقضي القاضي وهو غضبان } ، وكاستنباط الاستنجاء بالجامد الظاهر القالع من الأمر بالأحجار وهو غالب الأقيسة .

                                                      ولا يجوز أن يستنبط منه معنى يعود عليه بالبطلان ، ولهذا ضعف قول الحنفية في قوله : { في أربعين شاة شاة } ، أي قيمة شاة ، لأن القصد دفع الحاجة بالشاة أو القيمة ، ويلزم منه أن لا تجب الشاة أصلا ، لأنه إذ وجبت القيمة لم تجب الشاة ، فلا تكون مجزئة ، وهي مجزئة بالاتفاق ، فقد عاد الاستنباط على أصله بالبطلان ، واعتراض بعضهم بأن هذه كالذي قبله لأن الحنفي كما يجوز القيمة يجوز الشاة ، مردود بما سأذكره في كتاب القياس . وهل يجوز أن يستنبط منه معنى يخصصه ؟ فيه قولان . تردد فيهما الترجيح وقال إلكيا في المدارك " : المنقول عن الشافعي أنه لا يجوز تخصيص العموم بالمعنى ، لأن العموم ينبغي أن يفهم ، ثم يبحث عن دليله ، فإن فهم معنى اللفظ سابق على فهم معناه المستنبط ، وإذا فهم عمومه ، فكيف يتجه بناء علة على خلاف ما فهم منه ؟

                                                      قال : ويتجه للمخالف أن يقول : المعنى الذي يفهم من العموم في النظر الثاني ربما نراه أوفق لموضوع اللفظ ومنهاج الشرع ، وذلك تنبيه إما بفحوى الخطاب ومخرج الكلام ، وإما بأمارة أخرى تفصل بالكلام ، وذلك راجح على ما ظهر من اللفظ ، وهذا المعنى لا يقدر مخالفا للفظ ، ولكن يقدر بيانا له ، فالذي فهمناه أولا العموم ، ثم النظر الثاني يبين أن المراد به [ ص: 501 ] الخصوص ، فغلب معهود الشرع على معنى ظاهر اللفظ . فرع ولدته :

                                                      هل يجوز أن يستنبط من المقيد معنى يعود عليه بالإطلاق ؟ فيه نظر ، وقد جوز جمهور أصحابنا الاستنجاء بحجر واحد له ثلاث أحرف نظرا للمعنى ، وهو الإزالة بطاهر ، فيه رفع قيد العدد في قوله عليه السلام : { فليستنج بثلاثة أحجار }

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية