الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 409 ] فصل : والكتابة الفاسدة ، أن يكاتبه على عوض مجهول ، أو عوض حال ، أو محرم ، كالخمر والخنزير . فأما إن شرط في الكتابة شرطا فاسدا ، فالمنصوص أنه لا يفسدها لكن يلغو الشرط ، وتبقى الكتابة صحيحة . ويتخرج أن يفسدها ; بناء على الشروط الفاسدة في البيع . وهذا مذهب الشافعي وقد روي عن أبي عبد الله ، رحمه الله ، ما يدل على أن الكتابة على العوض المحرم باطلة ، لا يعتق بالأداء فيها . وهو اختيار أبي بكر ; فإنه قد روى عن أحمد رضي الله عنه أنه قال : إذا كاتبه كتابة فاسدة ، فأدى ما كوتب عليه ، عتق ، ما لم تكن الكتابة محرمة . فحكم بالعتق بالأداء إلا في المحرمة . واختار القاضي أنه يعتق بالأداء ، كسائر الكتابات الفاسدة .

                                                                                                                                            ويمكن حمل كلام القاضي على ما إذا جعل السيد الأداء شرطا للعتق ، فقال : إذا أديت إلي ، فأنت حر . فأدى إليه ، فإنه يعتق بالصفة المجردة ، لا بالكتابة ، ويثبت في هذه الكتابة حكم الصفة في العتق بوجودها ، لا بحكم الكتابة . وأما غيرها من الكتابة الفاسدة ، فإنها تساوي الصحيحة في أربعة أحكام ; أحدها ، أنه يعتق بأداء ما كوتب عليه ، سواء صرح بالصفة ، فقال : إن أديت إلي ، فأنت حر . أو لم يقل ; لأن معنى الكتابة يقتضي هذا ، فيصير كالمصرح به ، فيعتق بوجوده ، كالكتابة الصحيحة . الثاني ، أنه إذا عتق بالأداء ، لم تلزمه قيمة نفسه ، ولم يرجع على سيده بما أعطاه . ذكره أبو بكر . وهو ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه .

                                                                                                                                            وقال الشافعي رضي الله عنه : يتراجعان ، فيجب على العبد قيمته ، وعلى السيد ما أخذه ، فيتقاصان بقدر أقلهما ، إن كانا من جنس واحد ، ويأخذ ذو الفضل فضله ; لأنه عقد معاوضة فاسدة ، فوجب التراجع فيه ، كالبيع الفاسد . ولنا ، أنه عقد كتابة لمعاوضة حصل العتق فيها بالأداء ، فلم يجب التراجع فيها ، كما لو كان العقد صحيحا ، ولأن ما أخذه السيد فهو من كسب عبده ، الذي لم يملك كسبه ، فلم يجب عليه رده ، والعبد عتق بالصفة ، فلم تجب عليه قيمته ، كما لو قال : إن دخلت الدار ، فأنت حر . وأما البيع الفاسد ، فإنه إن كان بين هذا وبين سيده ، فلا رجوع على السيد بما أخذه ، وإن كان بينه وبين غيره ، فإنه أخذ ما لا يستحقه ، ودفع إلى الآخر ما لا يستحقه ، بعقد المقصود منه المعاوضة ، وفي مسألتنا بخلافه . الثالث ، أن المكاتب يملك التصرف في كسبه ; لأن عقد الكتابة تضمن الإذن في ذلك ، وله أخذ الصدقات والزكوات ; لأنه مكاتب يعتق بالأداء ، فملك ذلك كما في الكتابة الصحيحة . الرابع ، أنه إذا كاتب جماعة كتابة فاسدة ، فأدى أحدهم ، حصته عتق . على قول من قال : إنه يعتق في الكتابة الصحيحة بأداء حصته . لأن معنى العقد أن كل واحد منهم مكاتب بقدر حصته ، متى أدى إلى كل واحد منهم قدر حصته ، فهو حر .

                                                                                                                                            ومن قال : لا يعتق في الصحيحة إلا أن يؤدي الجميع . فهاهنا أولى . وتفارق الصحيحة في ثلاثة أحكام ; أحدها ، [ ص: 410 ] أن لكل واحد من السيد والمكاتب فسخها ورفعها ، سواء كان ثم صفة أو لم تكن . وهذا قول أصحاب الشافعي رضي الله عنه ; لأن الفاسد لا يلزم حكمه ، والصفة هاهنا مبنية على المعاوضة ، وتابعة لها ; لأن المعاوضة هي المقصودة ، فلما أبطل المعاوضة التي هي الأصل ، بطلت الصفة المبنية عليها ، بخلاف الصفة المجردة ، ولأن السيد لم يرض بهذه الصفة إلا بأن يسلم له العوض المسمى ، فإذا لم يسلم ، كان له إبطالها ، بخلاف الكتابة الصحيحة ; فإن العوض سلم له ، فكان العقد لازما له . الثاني ، أن السيد إذا أبرأه من المال ، لم تصح البراءة ، ولا يعتق بذلك ; لأن المال غير ثابت في العقد ، بخلاف الكتابة الصحيحة ، وجرى هذا مجرى الصفة المجردة ، في قوله : إذا أديت إلي ألفا . فأنت حر .

                                                                                                                                            الثالث ، أنه لا يلزم السيد أن يؤدي إليه شيئا من الكتابة ; لأن العتق هاهنا بالصفة المجردة ، فأشبه ما لو قال : إذا أديت إلي ألفا ، فأنت حر . واختلف في أحكام أربعة ; أحدها ، في بطلان الكتابة بموت السيد . فذهب القاضي وأصحابه إلى بطلانها . وهو قول الشافعي رضي الله عنه ; لأنه عقد جائز من الطرفين ، لا يئول إلى اللزوم ، فيبطل بالموت ، كالوكالة ، ولأن المغلب فيها حكم الصفة المجردة ، والصفة تبطل بالموت ، فكذلك هذه الكتابة . وقال أبو بكر : لا تبطل بالموت ، ويعتق بالأداء إلى الوارث . وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه ; لأنه مكاتب يعتق بالأداء إلى السيد ، فيعتق بالأداء إلى الوارث ، كما في الكتابة الصحيحة ، ولأن الفاسدة كالصحيحة في باب العتق بالأداء ، وفي أن الولد يتبعه ، فكذلك في هذا . والثاني ، في بطلانها بجنون السيد ، والحجر عليه لسفه ، والخلاف فيه كالخلاف في بطلانها بموته . والأولى أنها لا تبطل هاهنا ; لأن الصفة المجردة لا تبطل بذلك ، والمغلب في هذه الكتابة ، حكم الصفة المجردة ، فلا تبطل به . فعلى هذا ، لو أدى إلى سيده بعد ذلك ، عتق . وعلى قول من أبطلها ، لا يعتق .

                                                                                                                                            الثالث ، أن ما في يد المكاتب وما يكسبه ، وما يفضل في يده بعد الأداء ، له دون سيده . في قول القاضي ، ومذهب الشافعي رضي الله عنه لأنها كتابة يعتق بالأداء فيها ، فكان هذا الحكم ثابتا فيها ، كالصحيحة . وقال أبو الخطاب : ذلك لسيده في الموضعين ; لأن كسب العبد لسيده ، بحكم الأصل ، والعقد هاهنا فاسد ، لم يثبت الحكم في وجوب العوض في ذمته ، فلم ينقل الملك في المعوض كسائر ، العقود الفاسدة ، ولأن المغلب فيها حكم الصفة المجردة ، وهي لا تثبت الملك له في كسبه ، فكذا هاهنا ، وفارقت الكتابة الصحيحة ، فإنها تثبت الملك في العوض ، فأثبتته في المعوض . الرابع ، هل يتبع المكاتبة ولدها ؟ قال أبو الخطاب : فيه وجهان ; أحدهما ، يتبعها ; لأنها كتابة يعتق فيها بالأداء ، فيعتق به ولدها ، كالكتابة الصحيحة ، والثاني ، لا يتبعها . وهو أقيس ، وأصح ; لما ذكرنا في الذي قبله ، ولأن الأصل بقاء الرق فيه ، فلا يزول إلا بنص ، أو معنى نص ، وما وجد واحد منهما ، ولا يصح القياس على الكتابة الصحيحة ; لما ذكرنا من الفرق بينهما فيما تقدم ، فيبقى على الأصل . والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية