الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            931 - ( وعن أبي بن كعب قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر ب { سبح اسم ربك الأعلى } ، و { قل يا أيها الكافرون } ، و { قل هو الله أحد } } . رواه الخمسة إلا الترمذي وللخمسة إلا أبا داود مثله من حديث ابن عباس ، وزاد أحمد والنسائي في حديث أبي ، { فإذا سلم قال : سبحان الملك القدوس ثلاث مرات ، } ولهما مثله من حديث عبد الرحمن بن أبزى ، وفي آخره : ورفع صوته في الآخرة ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث أبي بن كعب قد تقدم ، وتقدم الكلام عليه ، ولعل إعادة المصنف لذكره لهذه الزيادة التي ذكرها ، أعني قوله : { فإذا سلم قال : سبحان الملك القدوس ثلاث مرات } قال العراقي : وهي مصرح بها في حديث أبي بن كعب وعبد الرحمن بن أبزى ، وكلاهما عند النسائي بإسناد صحيح انتهى وقد أخرجها أيضا البزار من حديث ابن أبي أوفى .

                                                                                                                                            وقال : أخطأ فيه هاشم بن سعيد ، لأن الثقات يروونه عن زبيد عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى [ ص: 53 ] عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وزاد هاشم { فإذا سلم قال : سبحان الملك القدوس } وليس هذا في حديث غيره قال العراقي : بل هذه الزيادة في حديث غيره من الثقات انتهى وعبد الرحمن بن أبزى قد وقع الاختلاف في صحبته كما قدمنا . وقد اختلفوا هل هذا الحديث من روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو من روايته عن أبي بن كعب عن النبي ؟ صلى الله عليه وسلم قال الترمذي : يروى عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبي بن كعب ، ويروى عن عبد الرحمن بن أبزى عن النبي صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                            932 - ( وعن الحسن بن علي عليه السلام قال : { علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر : اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، تباركت ربنا وتعاليت } ) .

                                                                                                                                            933 - ( وعن علي بن أبي طالب عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره : { اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك } . رواهما الخمسة ) .

                                                                                                                                            أما حديث الحسن فأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي من طريق بريد عن أبي الحوراء بالحاء المهملة والراء عن الحسن ، وأثبت بعضهم الفاء في قوله : " فإنك تقضي " وبعضهم أسقطها وزاد الترمذي قبل تباركت وتعاليت " سبحانك " ، وزاد البيهقي قبل تباركت وتعاليت أيضا " ولا يعز من عاديت " .

                                                                                                                                            قال النووي في الخلاصة : بسند ضعيف ، وتبعه ابن الرفعة فقال : لم تثبت هذه الرواية قال الحافظ : وهو معترض فإن البيهقي رواها من طريق إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن أو الحسين بن علي ، وهذا التردد من إسرائيل إنما هو في الحسن أو الحسين قال البيهقي : كأن الشك إنما وقع في الإطلاق أو في النسبة .

                                                                                                                                            قال : ويؤيد الشك أن أحمد بن حنبل أخرجه في مسند الحسين من مسنده من غير تردد ، ومن حديث شريك عن أبي إسحاق بسنده قال : وهذا وإن كان الصواب خلافه ، والحديث من حديث الحسن لا من حديث أخيه الحسين ، فإنه يدل على أن الوهم [ ص: 54 ] فيه من أبي إسحاق ، فلعله ساء فيه حفظه فنسي هل هو الحسن أو الحسين ؟ قال : ثم إن الزيادة أعني قوله : ولا يعز من عاديت رواها الطبراني أيضا من حديث شريك وزهير بن معاوية عن أبي إسحاق ومن حديث أبي الأحوص عن أبي إسحاق ، ثم ذكره الحافظ بإسناد له متصل ، وفيه تلك الزيادة ، وزاد النسائي بعد قوله : تباركت وتعاليت " وصلى الله على النبي " .

                                                                                                                                            قال النووي : إنها زيادة بسند صحيح أو حسن ، وتعقبه الحافظ بأنه منقطع وروى تلك الزيادة الطبراني والحاكم .

                                                                                                                                            وقد ضعف ابن حبان حديث الحسن هذا ، وقال : توفي النبي صلى الله عليه وسلم والحسن ابن ثماني سنين ، فكيف يعلمه صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء ؟ . وقد أشار صاحب البدر المنير إلى تضعيف كلام ابن حبان ، وقد نبه ابن خزيمة وابن حبان على أن قوله في قنوت الوتر تفرد به أبو إسحاق عن بريد بن أبي مريم ، وتبعه ابناه يونس وإسرائيل ، وقد رواه شعبة وهو أحفظ من مائتين مثل أبي إسحاق وابنيه ، فلم يذكر فيه القنوت ، ولا الوتر ، وإنما قال : كان يعلمنا هذا الدعاء ، وأيد ذلك الحافظ برواية الدولابي والطبراني ، فإن فيها التصريح بالقنوت ، وكذلك رواية البيهقي عن ابن الحنفية وكذلك رواية محمد بن نصر .

                                                                                                                                            وروى البيهقي عن ابن عباس وابن الحنفية أنهما كانا يقولان : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح وفي وتر الليل بهؤلاء الكلمات } ، وفي إسناده عبد الرحمن بن هرمز قال الحافظ : وهو محتاج إلى الكشف عن حاله . وقال ابن حبان : إن ذكر صلاة الصبح ليس بمحفوظ وقال ابن النحوي : إن إسنادها جيد ، وصرح الحافظ في بلوغ المرام أن إسنادها ضعيف ، وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة بلفظ حديث الحسن مقيدا بصلاة الصبح ، وقال : صحيح . قال الحافظ : وليس كما قال وهو ضعيف ; لأن في إسناده عبد الله بن سعيد المقبري ، ولولاه لكان صحيحا ، وكان الاستدلال به أولى من الاستدلال بحديث الحسن بن علي في قنوت الوتر وروى الطبراني في الأوسط من حديث بريدة نحوه ، وفي إسناده كما قال الحافظ - رحمه الله تعالى - مقال .

                                                                                                                                            وأما حديث علي المذكور ، فأخرجه أيضا البيهقي والحاكم وصححه مقيدا بالقنوت وأخرجه الدارمي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان في كتبهم وليس فيه ذكر الوتر ، وفي الباب عن علي حديث آخر عند الدارقطني بلفظ { قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الوتر } وفي إسناده عمرو بن شمر الجعفي أحد الكذابين الوضاعين ، وعن أبي بكر وعمر وعثمان عند الدارقطني أنهم كانوا يقولون { قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الوتر ، وكانوا يفعلون ذلك } وفي إسناده أيضا عمرو بن شمر المذكور

                                                                                                                                            وعن أبي بن كعب عند النسائي وابن ماجه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع } وعن ابن مسعود عند ابن أبي شيبة في المصنف والدارقطني { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الوتر قبل الركوع } وفي إسناده أبان بن أبي عياش وهو ضعيف . [ ص: 55 ] وعن ابن عباس عند محمد بن نصر المروزي قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح بهؤلاء الكلمات " وقد تقدم وعن ابن عمر عند الحاكم في كتاب القنوت قال : { إن النبي صلى الله عليه وسلم علم أحد ابنيه في القنوت : اللهم اهدني فيمن هديت } الحديث . وعن عبد الرحمن بن أبزى عند محمد بن نصر ، وفيه ذكر القنوت في الوتر . وعن أم عبد أم عبد الله بن مسعود عند ابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي أنه صلى الله عليه وسلم " قنت قبل الركوع "

                                                                                                                                            والأحاديث المذكورة تدل على مشروعية القنوت بهذا الدعاء المذكور في حديث الحسن وفي حديث علي

                                                                                                                                            وإلى ذلك ذهبت العترة وأبو حنيفة وبعض الشافعية من غير فرق بين رمضان وغيره ، وروى ذلك الترمذي عن ابن مسعود . ورواه أيضا عنه محمد بن نصر ، قال العراقي : بأسانيد جيدة . ورواه محمد بن نصر أيضا عن علي وعمر . وحكاه ابن المنذر عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي وأبي ثور ورواية عن أحمد وروى محمد بن نصر عن علي أنه كان يقنت في النصف الأخير من رمضان وهو من رواية الحارث عنه . وروى أبو داود أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أبي بن كعب وكان يصلي لهم عشرين ليلة ، ولا يقنت إلا في النصف الباقي من رمضان .

                                                                                                                                            وروى محمد بن نصر بإسناد صحيح أن ابن عمر كان لا يقنت في الصبح ولا في الوتر إلا في النصف الآخر من رمضان

                                                                                                                                            وروى العراقي عن معاذ بن الحارث الأنصاري أنه كان إذا انتصف رمضان لعن الكفرة . قال : وعن الحسن : كانوا يقنتون في النصف الأخير من رمضان . وروي أيضا عن الزهري أنه قال : لا قنوت في السنة كلها إلا في النصف الأخير من رمضان .

                                                                                                                                            وروي عن عثمان بن سراقة نحوه .

                                                                                                                                            وذهب مالك فيما حكاه النووي في شرح المهذب وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي كما قال العراقي إلى مشروعية القنوت في جميع رمضان دون بقية السنة ، وذهب الحسن وقتادة ومعمر ، كما روى ذلك محمد بن نصر عنهم أنه يقنت في جميع السنة إلا في النصف الأول من رمضان . وقد روي عن الحسن في جميع السنة كما تقدم .

                                                                                                                                            ، وذهب طاوس إلى أن القنوت في الوتر بدعة . وروى ذلك محمد بن نصر عن ابن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير .

                                                                                                                                            وروي عن مالك مثل ذلك

                                                                                                                                            قال بعض أصحاب مالك : سألت مالكا عن الرجل يقوم لأهله في شهر رمضان ، أترى أن يقنت بهم في النصف الباقي من الشهر ؟ فقال مالك : لم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت ولا أحدا من أولئك ، وما هو من الأمر القديم ، وما أفعله أنا في رمضان ، ولا أعرف القنوت قديما . وقال معن بن عيسى : لا يقنت في الوتر عندنا . وقال ابن العربي : اختلف قول مالك فيه في صلاة رمضان ، قال : والحديث لم يصح ، والصحيح عندي تركه إذ لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولا قوله ا هـ .

                                                                                                                                            قال العراقي : قلت : بل هو صحيح أو حسن . وروى محمد بن نصر أنه سئل سعيد بن جبير عن بدء [ ص: 56 ] القنوت في الوتر فقال : بعث عمر بن الخطاب جيشا فتورطوا متورطا خاف عليهم ، فلما كان النصف الآخر من رمضان قنت يدعو لهم

                                                                                                                                            فهذه خمسة مذاهب في القنوت ، وبها يتبين عدم صحة دعوى المهدي في البحر أنه مجمع عليه في النصف الأخير من رمضان . وقد اختلف في كونه قبل الركوع أو بعده ففي بعض طرق الحديث عند البيهقي التصريح بكونه بعد الركوع ، وقال : تفرد بذلك أبو بكر بن شيبة الحزامي ، وقد روى عنه البخاري في صحيحه ، وذكره ابن حبان في الثقات فلا يضر تفرده

                                                                                                                                            وأما القنوت قبل الركوع فهو ثابت عند النسائي من حديث أبي بن كعب كما تقدم ، وعبد الرحمن بن أبزى ، وضعف أبو داود ذكر القنوت فيه ، وثابت أيضا في حديث ابن مسعود كما تقدم . قال العراقي : وهو ضعيف ، قال : ويعضد كونه بعد الركوع أولى فعل الخلفاء الأربعة لذلك ، والأحاديث الواردة في الصحيح كما تقدم في بابه

                                                                                                                                            وقد روى محمد بن نصر عن أنس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت بعد الركعة ، وأبو بكر وعمر حتى كان عثمان فقنت قبل الركعة ليدرك الناس } قال العراقي : وإسناده جيد . قوله في حديث علي : ( وأعوذ بك منك ) أي أستجير بك من عذابك .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية