الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقول بلا طمع وعز بلا رياسة وقال أيضا الزاهد لله يسعطك الخل والخردل والعارف يشمك المسك والعنبر .

وقال له رجل : متى أدخل حانوت التوكل وألبس رداء الزهد وأقعد مع الزاهدين ؟ فقال إذا صرت من رياضتك لنفسك في السر إلى حد لو قطع الله عنك الرزق ثلاثة أيام لم تضعف في نفسك فأما ما لم تبلغ هذه الدرجة فجلوسك على بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن عليك أن تفتضح وقال أيضا الدنيا كالعروس ومن يطلبها ماشطتها والزاهد فيها يسخم وجهها وينتف شعرها ويخرق ثوبها والعارف يشتغل بالله تعالى ولا يلتفت إليها .

وقال السري مارست كل شيء من أمر الزهد فنلت منه ما أريد إلا الزهد في الناس فإني لم أبلغه ولم أطقه .

وقال الفضيل رحمه الله جعل الله الشر كله في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا وجعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا .

فهذا ما أردنا أن نذكره من حقيقة الزهد وأحكامه وإذا كان الزهد لا يتم إلا بالتوكل فلنشرع في بيانه إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


(و) الثانية (قول بلا طمع) أي: عاجل ولا آجل فيخلص في أقواله كما يخلص في أعماله (و) الثالثة (عز بلا رياسة) بأن يكون عزيزا عن أن يذل نفسه في طلب الدنيا فيتعاطى الأمور الخسيسة التي تزري بقدره فلا يكون عزه إلا بمولاه وربما أغناه به بفضله عمن سواه، وهذا القول نقله القشيري ولفظه: وقال يحيى بن معاذ لا يبلغ أحد حقيقة الزهد حتى تكون فيه ثلاث خصال فذكرها، ولا يخفى أن المراد بحقيقته هي غلبة أحواله على القلب فلا يكون حدا جامعا للزهد، ولذلك عبر المصنف عنها بالعلامة .

(وقال أيضا الزاهد بالله) لكون قلبه امتلأ بهوان الدنيا عند الله وكثرة آفاتها بحيث إنك تجد أكثر كلامه في بيان نقائصها كأنه (يسعطك) يا طالبها (الخل والخردل) من حيث أنه يؤلمك بكلامه وينكد عليك ما أنت فيه ويصغر قدرك (والعارف) بالله لكون قلبه قد امتلأ بمعرفته بجماله وبجلاله وتوالي إنعامه وأفضاله على خلقه بحيث إنك تجد أكثر كلامه في بيان ذلك كأنه (يشمك المسك والعنبر) من حيث أنه يرغبك في نيل المقامات ويشرح صدرك بذكر فضل الله ونعمه على خلقه فكل من الزاهد والعارف تكلم بما غلب عليه من أحواله وهذا القول نقله القشيري هكذا ولفظ القوت: ينشر عليك المسك والعنبر (وقال له) أي: ليحيى بن معاذ (رجل: متى أدخل حانوت التوكل وألبس رداء الزهد وأقعد مع الزاهدين؟) وفي بعض نسخ الرسالة وسئل أيضا: متى أبلغ حقيقة الزهد وأقعد مع الزاهدين (فقال إذا صرت) أي: وصلت (من رياضتك لنفسك في السر إلى حد لو قطع الله عنك الرزق ثلاثة أيام لم تضعف في نفسك فأما لم تبلغ هذه الدرجة فجلوسك في بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن عليك أن تفتضح) بينهم نقله القشيري في الرسالة وهو تنبيه على أنه لا ينبغي للعبد أن يقطع الأسباب ويتجرد عنها حتى يجد من نفسه قوة على الصبر على ألم الجوع نحو ثلاثة أيام ولا يجد منها الضعف عن عبادته وإلا كان مغرورا ومعرضا نفسه إلى سؤال الخلق ولا يخفى أن هذا من علامات الزهد لا أنه من حقيقته .

(وقال أيضا الدنيا كالعروس) المجلوة تراها الأبصار وتحبها القلوب وتمدحها الألسن من حيث إن الله تعالى خلقها وجملها بالمال والبنين وغيرها (ومن يطلبها) ويعمرها (ماشطتها) من حيث أنه يدبرها حسنا للمغرورين (والزاهد فيها يسخم) أي: يسود (وجهها وينتف شعرها) الذي هو من جملة الزينة (ويخرق ثوبها) من حيث إنه لما عرف نقصها وفناءها وقطعها للعبد عن عبادته اشتغل بتزهيد الخلق فيها وتقبيح محاسنها (والعارف) بالله (يشتغل بالله) تعالى لا يلتفت إليها لكمال شغله بالله وبمعرفته بجماله وجلاله ومناجاته عن ذمها فضلا عن مدحها وهذا القول نقله القشيري أيضا، وليحيى بن معاذ: نتف كلام في مقام الزهد والمحبة غير ما ذكره المصنف، وقد تقدم بعضه وسيأتي بعضه في خاتمة الكتاب .

(وقال السري) السقطي - رحمه الله تعالى - (مارست كل شيء من أمر الزهد) فنلت منه ما أريده كالزهد في المطعم والملبس والمنام وفضول الكلام (إلا الزهد في الناس) أي: في لقائهم والتبسط معهم والاستئناس في محادثتهم (فإني لم أبلغه ولم أطقه) أي: لعزته نقله القشيري، وهذا أيضا من علامات الزهد وقد جعله البعض حدا له كما تقدم .

(وقال الفضيل) بن عياض - رحمه الله تعالى - (جعل الله الشر كله في بيت وجعل مفاتحه حب الدنيا) ولذلك جعل أساس كل خطيئة، وقال بعضهم: أصول الشر ثلاثة: الحرص والحسد وحب الدنيا، وفروعه ستة: طلب الرياسة والفخر والثناء، وحب الراحة والطعام والنوم (وجعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا) فإذا أعرض العبد عنها تيسرت له الخيرات كلها وهذا القول نقله القشيري في الرسالة بسنده قال سمعت محمد بن عبد الله يقول، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن جعفر قال سمعت الفضيل بن عياض يقول فذكره وعزاه صاحب القوت إلى سفيان الثوري والفضيل أي: أن هذا القول قد روي عن كل منهما .

(فهذا ما أردنا أن نذكره من حقيقة الزهد وأحكامه) وثمراته (وإذا كان الزهد لا يتم إلا بالتوكل) لكونه شرطا فيه (فلنشرع في بيانه إن شاء الله تعالى) ولنختم هذا الباب بفصول فيها بيان لما أبهمه المصنف وتفصيل لما أجمله ومزيد لما أشار إليه تارة وتركه أخرى فنقول [ ص: 377 ]


فصل

الورع: لا يوصل إليه إلا بعد الزهد في الدنيا إذا لم يزهد في شيء لم يمكنه أن يرع عنه، فإذا أعطي الزهد فيه وعوض من الرغبة بدلا منه سهل عليه الورع عنه فتركه زهدا في الدنيا ورغبة فيما وعد الله وخيفة من المطالبة به وحبا لموافقة محبة الله بتركه، ألم تسمع إلى حسان بن أبي سنان وكان من خيار التابعين إذ يقول: ما زاولت شيئا أيسر من الورع على قيل وكيف. ونحن نظن أنه أشد الأعمال فقال إذا رابني أمر تركته فلما وهب له الزهد فيه وعوض عنه محبة الله به هان عليه الورع .



فصل

قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحل بذروته ولا يحل بذروته حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى والتواضع أحب إليه من الشرف والذل أحب إليه من العز وحتى يكون مادحه وذامه عنده سواء، فهذا هو تفسير حقيقة الزهد في النفس، وهو يستوعب كلية الزهد في الدنيا، والثلاث الأخر التي قرنها بالفقر هن من إخبات الفقير إذا كان صادقا زاهدا كان ذليلا في نفسه متواضعا بنفسه ولا يكترث بمدح ولا ذم لسقوط نفسه عنده واطراح الخلق عنده .

فهذا علم وجود اليقين الذي ضده علامة النفاق أن يكره الذم ويحب المدح، وأما وهب بن منبه فقد جعل الزهد من استكمال العقل، فقال: لا يستكمل العبد العقل حتى تكون فيه هذه الخصال: يكون الفقر أحب إليه من الغنى والذل أحب إليه من العز والتواضع أحب إليه من الشرف. فهذا عقل العالمين بالله وهم عقلاء الموقنين وهو عقل هداية الآخرة المنوط بمعرفة الآخرة، لا عقل الواله على الدنيا المرتبط بالعكوف على الخلق لقوة مشاهدة الخلق بعين اليقين ولضعف شاهد المعقول باستجلاب حظوظ النفس من الفضول، فلذلك جعل ابن مسعود هذه الثلاث من حقيقة الإيمان وذروته ولعمري إن كمال الإيمان وأعلاه هو بكمال العقل ونهاه، فالعقل مكان الإيمان مثله كالفتيلة مكان المصباح فإذا حقق الإيمان وكمل زيد في تحقيق العقل وتكميله وكان معه الزهد بحقيقته .



فصل

قال سعيد بن جبير - رحمه الله تعالى - : إنما فضل الله الأنبياء بما أعطاهم من العلم به وما زهدوا في الدنيا مع القيام والصبر عليه فجعل العلم بالله معيارا على النبوة به تفاضل الأنبياء وهو علم اليقين الكاشف لعين اليقين المتجلي به وصف الوحدانية، وجعل سبب ذلك الزهد، فالزهد مقتضى اليقين; لأنه موجب الزهد فهو عنه ولذلك فسروا الزهد باليقين .



فصل

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا بإضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق بما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها أبقيت لك. رواه الترمذي وقال غريب ضعيف من حديث أبي ذر، ورواه البيهقي في الزهد كذلك، ورواه أبو نعيم في الحلية من حديث أبي الدرداء وروى الديلمي من حديث ابن عباس: الزهد في زماني هذا في الدنانير والدراهم وليأتين على الناس زمان الزهد في الناس أنفع لهم من الزهد في الدنانير والدراهم.

وروي أيضا من حديث أبي هريرة: الزهد أن تحب ما يحب خالقك وأن تبغض ما يبغض خالقك، وأن تتحرج من حلال الدنيا كما تتحرج من حرامها فإن حلالها حساب وحرامها عذاب وأن ترحم جميع المسلمين كما ترحم لنفسك وأن تتحرج عن الكلام فيما لا يعنيك كما تتحرج من الحرام، وأن تتحرج من كثرة الأكل كما تتحرج من الميتة التي قد اشتد نتنها، وأن تتحرج من حطام الدنيا وزينتها كما تتحرج من النار، وأن تقصر أملك من الدنيا فهذا هو الزهد في الدنيا، فهذه الأخبار الثلاثة جامعة لحقائق الزهد.



فصل

قال سهل التستري - رحمه الله تعالى - : الصديقون في بدايتهم طلبوا من الله فمنعهم فلما تمكنوا من أحوالهم عرضها عليهم فامتنعوا منها، فالحال الأول موضع العصمة أن منعهم منها لضعفهم لئلا يهلكوا بقبولها، فلما تمكن منهم ومكنهم عنده ردها عليهم لأنهم قد صلحوا للأخذ آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين فلما ذاقوا حلاوة الزهد ووجدوا نعيم الحب لم يكن عندهم للدنيا وزن ولا في قلوبهم قدر، فأعرضوا عنها لما عرضها عليهم بحسن إقبالهم عليه [ ص: 378 ]


فصل

كان عون بن عبيد الله المسعودي يحكي عن طريقة السلف فقال: إن من كان قبلكم كانوا إنما يجعلون لدنياهم ما فضل عن آخرتهم وإنكم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم، أي: لرجحان كفة الآخرة في قلوبهم وغلبة أمرها عليهم ولقوة يقينهم يقدمون شأنها فيبدءون بأن ينقلوا من دار عنها يرتحلون إلى دار فيها يقيمون أحسن ما يدخرون، ويقدمون لدار الحياة والبقاء المؤبد من محل الموت والفناء المؤقت المحدود أجود ما يقتنون، إذ دارهم أمامهم وحياتهم بعد موتهم; لأنهم خلقوا للآخرة لا للدنيا وللبقاء لا للفناء، ثم يجعلون ما فضل من عيشهم لدنياهم; لأنه متاع في الحال وبلاغ إلى وقت وحين، وهذا علامة حسن اليقين، وهو يقين الزهد الذي صار الزهاد به زاهدين، لا يقين الإيمان الذي صار به المسلمون مؤمنين بنفي الشرك بالصاحبة والولد .



فصل

أصل الرغبة في الدنيا من ضعف اليقين; لأن العبد لو قوي يقينه نظر بنوره إلى الآجل فغاب في نظره العاجل فزهد فيما غاب وأحب الحاضر فآثر ما هو أعود عليه وأبقى وأنفع له ولمولاه أرضى، وقدم ما يفنى وينقطع إلى ما يدوم ويتصل، وهذا هو صورة الزهد وشهادة الموقن; لأن الحاضر لا يحب ما غاب وانتقل .

ألم تسمع إلى وصفه تعالى إبراهيم - عليه السلام - في قوله: لا أحب الآفلين بعد قوله: وليكون من الموقنين فالموقن مأمور باتباع ملة إبراهيم وليس يشهد الوعد والوعيد بنور العقل إنما يشهد بنور اليقين .



فصل

الزهد يكون بمعنيين إن كان الشيء موجودا فالزهد فيه إخراجه وخروج القلب منه ولا يصح الزهد مع تبقيته للنفس; لأن ذلك دليل الرغبة فيه وهذا زهد الأغنياء، وإن لم يكن الشيء موجودا وكان العدم هو الحال فالزهد هو الرضا بالحال والغبطة بالفقد، وهذا زهد الفقراء وكذلك في القدرة على الهوى لا يصح إلا مع وجود الابتلاء به، فمتى قدر عليه فصبر عنه لمجاهدة نفس أو مدافعة وقت أو قطع سبب فذلك زهده فيه، فإما أن يريد أن يزهد فيه أو يهم بتركه أو يعزم على قطعه فليس ذلك زاهدا فيه، بل نيات وإرادات من غير حقيقة .

فمن أخرج من يده الشيء طوعا ونفسه تتبعه فله مقام في الزهد بالمجاهدة، ومن أمسك الشيء وأظهرت نفسه الزهد فيه بالإرادة والهمة فذلك تأميل وثمن يدخل في باب نيات الخير لا في المسارعة إلى الخيرات ولا المسابقة بالقربات بالسعي لها والمنافسة فيها، ولا مقام في المنافسة لمن لم يتبع الإرادة بالسعي والمعاملة، ولا مقام في الزهد لمن لم يردف الإرادة بإخراج المزهود فيه; لأن الإمساك علامة الرغبة والرغبة ضد الزهادة، فكيف يوصف بالشيء وضده في حالة قائمة؟ فالممسك للشيء المتوهم للزهد بإظهاره نفسه ذلك بأحد وصفين: إما أن لا يعرف الزهد أو لا يعرف خفي شهوة النفس، ولطيف تمنيها من معدن حسن ظنها بوصفها هذا إن لم يموه على الراغبين ولم يكذب على وجده لأجل خفي الرغبة فيهم، والمخرج للشيء عن يده المخرج لقلبه منه هو المتحقق بالزهد فيه والممسك للشيء المغتبط بإمساكه الذي همه فيه وقلبه عاكف عليه هو المتحقق بالرغبة فيه، وكذلك كل من أمل شيئا وادخره لنفسه لا يكون زاهدا فيه حتى يخرجه من يده وقلبه استصغارا له وتعوضا منه .



فصل

قد يصح الزهد للعارف في الشيء مع وجوده عنده إذا لم يقتنه لمتعة النفس ولم يتملكه ويسكن إليه، بل كان موقنا في خزانة الله تعالى التي هي يده منتظرا لحكم الله فيه، وصحة ذلك استواء وجوده وعدمه والمسارعة إذا رأى حكما لله أن ينفذه ويكون كأنه لغيره من إخوانه أو سبيل من سبل الله .

وقد يصح الزهد مع الوجود لمن دون العارف من المريدين إذا أمسك الشيء لأوقات حاجته واستعان به على آخرته أو يكف به نفسه عن الرغبة والطمع ويقمع به طبعه عن الشره والضرع ويكون سببا لقطع التشرف وحسم النفس من التصنع والتكلف وقد يكون هذا المقام للخصوص من العلماء بهذه النيات زائدا على مقامات من الزهد للمريدين .

قال عبد الله بن مهدي خرج محمد بن يوسف الأصبهاني إلى مكة ومعه مائة دينار وليس معه إلا كساء أدبت وما رأيت مثله، وكذلك يحيى بن سعيد القطان ما رأيت مثله وقدمه على الثوري ولما [ ص: 379 ] قدم عبد الجليل الزاهد إلى واسط اجتمع إليه أهل العراق يسألونه عن الزهد فقال: اصبروا حتى أبيع دقاق تمر حملته من البصرة وأتفرغ لكم للمسائل وكان يتجر فيجعل ثلثا لأهله وعياله وثلثا لإخوانه الفقراء وثلثا يرده في تجارته .

وكذلك كان حال جماعة من زاهدي السلف فلم يكن ذلك ينقصهم عند العلماء، وكان مزيدا في حالهم وطريقا لهم إلى مقامهم من الزهد وهو وصف الأقوياء من الزهاد .



فصل

خالص الزهد إخراج الموجود من القلب ثم إخراج ما خرج من القلب عن اليد وهو عدم الوجود على الاستصغار له والاحتقار والتقالل، فبهذا يتم الزهد ثم ينسى زهده في زهده فيكون حينئذ زاهدا في زهده لرغبته في مزهده، وبهذا يكمل الزهد وهذا لبه وحقيقته وهو أعز الأحوال في مقامات اليقين وهو الزهد في النفس لا النفس لأجل الزهد ولا للرغبة في الزهد للزهد، وهذه مشاهدة الصديقين وزهد المقربين عند وجد عين اليقين ودون هذا مقامات إخراج المرغوب فيه عن اليد مع نظرة إليه وعلى مجاهدة النفس فيه، وهو زهد المؤمنين .

والورع من الزهد كما أن الزهد من الإيمان والقناعة باب من الزهد والرضا باليسير من الأشياء حال من الزهد والتقلل في الأشياء مفتاح الزهد .



فصل

قال بعض السلف: أبى أهل العلم بالله أن يسمعوا الحكمة والوعظ إلا من الزاهدين في الدنيا، وقالوا: ليس أهل الدنيا لذلك أهلا ولا يليق بهم، وفعله رجاء بن حيوة عالم الشام، بلغنا أنه كان يجلس إلى رجل زاهد ببيت المقدس فيستمع إليه فجاء يوما إلى مجلسه وقد اجتمع الناس فجلس وراءهم وهو يحسب أنه فيهم فلما أبطأ تكلم شيخ في المجلس وهو مؤذن ببيت المقدس لا بأس به فأنكر رجاء صوته، فقال: من هذا المتكلم؟ فقال الشيخ: أنا رحمك الله، فقال: اسكت عافاك الله، فإنا نهينا أن نسمع الزهد إلا من أهله.

وقال نحوه سلمان لعمر بن الخطاب، وذلك أنه حمل إليه أبراد فكسا الصحابة بردا بردا فلما كان في يوم الجمعة خرج في بردين فخطب فلما قال في وعظه ألا اسمعوا فقام سلمان فقال: والله لا نسمع، قال: ولم قال: لأنك كسوتنا بردا بردا وخرجت علينا في حلة، فقال: رحمك الله إني غسلت ثوبي ولم يكن لي غيره فاستعرت هذا وهو برد عبد الله بن عمر، فقال: قل الآن حتى نسمع.

وهذا أبو عبد الله أحمد بن حنبل، وهو من أئمة الدين لما سئل عن الصدق ما هو؟ قال: هو الإخلاص، قال: فما الإخلاص؟ قال: هو الزهد، فقيل: يا أبا عبد الله وأي شيء الزهد؟ فسكت فقال: سلوا الزهاد، سلوا بشرا، وقال أبو طالب الوراق: دخلت عليه في جماعة من أصحاب الحديث كنت قد نسخت لهم كتاب الزهد الذي جمعه لأقرأه لهم عليه ففرش لنا في الدار حصير جديد ونزل إلينا من غرفة له فلما قعد وأخذ الأصل بيده أطبقه ثم قال: يا أبا طالب الزهد لا يقرأ إلا على زهد، وكشط الحصير الجديد من تحتنا وقعدنا على التراب .



فصل

يروى أن عمر - رضي الله عنه - خطب الناس فقال: أنشد الله رجلا علم في عيبا إلا أخبرني به فقام شاب في المجلس فقال: يا أمير المؤمنين فيك عيبان اثنان، قال: ما هما؟ رحمك الله، قال: تذيل بين البردين وتجمع بين الأدمين، قال فما أذال بين البردين ولا جمع بين الأدمين حتى لقي الله - عز وجل - هكذا يروى تذيل بالذال المعجمة وله معنيان أشهرهما أي: تجمع بين ذيل ثوبك فيتفق ذيل البرد الأعلى مع ذيل البرد الأسفل لطوله وأغرب الوجهين أن معنى تذيل تضع ثوبين معا أي: تتركهما موضوعين لك، ولا يبعد أن يكون بالدال المهملة والمعنى تبدل بردا ببرد، دولة هذا ودولة هذا، وأراد أن يكون له واحد لا يديله بآخر .



فصل

تقدم قول الأحنف بن قيس: ما كذبت كذبة إلا مرة وله قصة وهي أنه وفد مع قومه من البصرة على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال فلما قاربوا دخول المدينة نزعوا ثياب سفرهم ومهنتهم ولبس كل واحد ثوبين جديدين أو غسيلين أو قال أبيضين، قال: وفعلت مثل ذلك فلما دخلنا أطراف المدينة نريد الدخول إلى عمر جعل أهل المدينة يرمقوننا بأبصارهم ويعرضون، وجعلوا يلحظوننا وتنبو أبصارهم عنا فسمعتهم يقولون: أبناء دنيا، قال: فعلمت أن القوم ليسوا أمثالنا وأنهم أهل الآخرة فعطفت رأس راحلتي [ ص: 380 ] ونزعت ثوبي ورددتهما إلى العيبة ثم أخرجت ما كنت خلعته من ثياب سفري وبذلتي فلبسته ثم دخلنا على عمر قال: فجعل الناس تنبو أعينهم عن أصحابي وينظرون إلي من بينهم كأنهم يغبطوني، قال: فلما نظر إليهم عمر وكان أول يوم رأيته فإذا رجل عليه خلق مرفوع وعلى كتفه درة، فلما قفلنا من بعيد أخذ كفا من حصى فحصبنا به، قال: ثم لحظني بعينه فقال: هذا نعم فناداني وقربني من بينهم، وقال: من أنت؟ لله درك أو قال أبوك فقلت: أنا الأحنف بن قيس التميمي، فقال: أنت سيد قومك، قال وأعجبه هيئتي فقام واتكأ على يدي فجعل يسألني عن الطريق وعن الركاب وكيف كنا نسير بها إلى أن وافى رحلنا، وموضع مناخنا فرمق عيبتي فرأى طرف الثوب خارجا فلمسه وذكر أول الخبر الذي تقدم ذكره .



فصل

روينا في الإسرائيليات أن موسى - عليه السلام - وصف الزهد لبني إسرائيل فقام إليه رجل منهم فقال: يا نبي الله أنا منهم؟ قال: أنت إذا تغديت تجد ما تتعشى؟ قال: نعم، قال: اجلس فلست منهم، ثم قام إليه آخر فقال: يا نبي الله أنا منهم؟ قال: أنت إذا تغديت تجد ما تتعشى قال: لا، قال: فلك ما تبيع؟ قال: نعم، قال: اجلس فلست منهم، فقام إليه آخر فقال: يا نبي الله أنا منهم؟ فقال: أنت إذا تغديت تجد ما تتعشى؟ قال: لا، قال: فلك ما تبيع؟ قال: لا، قال: فلك من يقرضك؟ قال: نعم، قال: اجلس فلست منهم، ثم قام آخر فقال: أنا منهم؟ فقال له مثل ذلك إلى أن قال: فلك من يقرضك؟ قال: لا، ولا أملك من الدنيا إلا هذه الشملة من الصوف ولقد آذاني فيه الدواب، وأنا أستحي من ربي - عز وجل - أن أنزعها فأقلبها وأتعرى بين يديه، قال: اجلس أنت منهم .

فهذا الذي أراده موسى - عليه السلام - من الزهد هو حقيقته وهو زهد أولي العزم من الزهاد، وهذه الحال من عزائم الأمور وتفصيل مقاماته أن للزهد في حال الفقر مقامات:

فالمقام الأول: هو أن يجد الفقير معلوما غير ما حمل في جوفه وعلى ظهره وهذا هو حال الفقير الأول الذي قال له موسى لست منهم يعني من أولي العزم من الزهاد إذ لم يكن حاله حال عزيمة الزهد لأجل وجد العوض المعتاد وهو فضل ما يبيعه من العوض فقام له مقام المعلوم من النقد .

والمقام الثاني من الفقر في الزهد: هو فقد العوض الذي هو عوض عن الناض وهذا حال الثاني .

والمقام الثالث: هو أن يعدم الأعراض والأعواض وليس هو حقيقة الفقر لأجل بقاء الأسباب التي تقوم مقام الأعواض وهو الجاه الذي يستقرض به فيقرض، وهو أيضا سبب به يعرف لأجل معرفته اقترض فهذا يحجبه عن حقيقة الفقر وينقصه عن عزيمة الزهد، فحسب موسى - عليه السلام - وجود الجاه له رغبة منه هي دون الله تعالى حتى يكون بالوصف الذي وصف الله به أولياءه في الغاية من قوله تعالى: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت فهذا مثل فقد المعلوم الذي تقوم به الأشياء وهو بمعنى حال الأول ثم قال: وضاقت عليهم أنفسهم فلم يبق له عوض يقوم مقام المعلوم الذي له قيمة شيء فيبيعه وهذا بمعنى حال الثاني ثم قال: وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه فهذا سقوط الأعواض بعد فقد الأعراض وعدم الجاه الذي هو سبب الاستقراض، فلم يبق له جاه يعول عليه ولا معرفة من الخلق ولا سبب بينه وبينهم ينظر به إليه، ولم يبق بينه وبين الله إلى الله مأوى يسكن فيه ولا ظل يستظل به ولا ملجأ يستند إليه، حينئذ قال الله تعالى بعد بلوغ الغاية: ثم تاب عليهم ليتوبوا أي: عطف عليهم لينعطفوا عليه ونظر إليهم لينظروا إليه .

وهذا وصف الثالث الذي قال له موسى - عليه السلام - أنت منهم إذ قد تحقق بالفقر وبلغ عزيمة الأمر فلم يجد دون الله سببا منفصلا من مال ولا معنى متصلا من حال وهو الجاه والمنزلة الذي يقوم مقام الأعراض ويتسبب به إلى الأسباب فهذا وصف فقير فقير ونعت غريب غريب الدار في وطنه غريب الوجد في مسكنه غريب العلم من دمنه غريب الحال من أمته غريب في غربته غريب في تغربه غريب بمغربه لا يعرفه أبناء جنسه متوحد بأنيسه عن أنسه قد طمست نفسه في رمسه وشغل بيومه عن غده وأمسه، فهذا من وحش الملل في داره، وأنسه لزواره، قد قرت عينه بقراره، وفر من إيلافه وفراره، وصفت روحه من أقذاره، فهو موضع نظره ومعقل خبره وغيث بلاده وروح عباده، ومن خالص وداده قد زهد في زهده، وعدم وجوده بوجده، وفنيت نفسه عن جهده، وبقيت روحه بموجده، وكذلك [ ص: 381 ] روينا أن داود - عليه السلام - سأل ربه عن المعرفة وكأنه تشوق إليها فأوحى الله إليه أنت لا بد لك من سبد ولبد ومن عرفني لم يسكن إلى سبد ولبد والله الموفق .



فصل

قال صاحب القوت حدثني عبد الكريم بن أحمد حدثني جعفر بن محمد، حدثنا الخواص عبد الله بن الحسين حدثني سعدون بن سهل بن عبد الرحمن المكي عن المغيرة بن قيس عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة قال أتينا على أهل ماء في سفر لنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسود مولى لهم ميت بالأمس ليس له ثوب يكفنونه وما عندهم غاسل يحسن غسله قد قطع به لا يدرون كيف يأتون، فهجمنا عليهم من الغد ظهرا وقد أروح وترك القوم خباءهم وخرجوا كراهية لجواره، فكان أول من نزل منا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم مشى حتى دخل عليه فجاء القوم يعتذرون إليه من تركهم إياه، فانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قام على بئر لهم عادية فتفل فيها فاستحالت عذبا فأسقينا وأمر عليا وأبا أمامة فغسلاه وكفنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بردة له ما زاده عليها، ثم صلى عليه وولي إدخاله في قبره علي وأبو أمامة.

فلما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: إنه يبعث يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر ولولا خصلة كانت فيه لبعث ووجهه كالشمس الضاحية، فقلنا: ما هي يا رسول الله؟ قال: إنه كان إذا جاءه الشتاء ادخر حلة الصيف لصيفه وإذا جاءه الصيف ادخر حلة الشتاء لشتائه من قابل، ثم قال: من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر، ومن أعطي منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار
الحديث .

وقد تقدم مرارا مختصرا على قوله: من أقل ما أوتيتم اليقين. الخ. وسبق قول العراقي أنه لم يجده، فتنبه لذلك .



فصل

الزاهد في الدنيا مسجون مضيق عليه وليس كل من أراد وصل إلى المسجون، وكلما كان السجن أضيق عليه وأشد كان الوصول إلى الزهد أبعد وأشق، ولذلك صار أولياء الله محجوبين عن الناس لا يصل إليهم كل إنسان إلا من توصل أو توسل على قدر تضايق السجون .



فصل

في سياق كلام يحيى بن معاذ الرازي في الزهد والمعرفة، وقد تقدم بعضه ونذكر الآن ما وعدناه به قال: حبك الدنيا حب بلاء وحبك الآخرة حب بلوى ومن رضي باختيار الله دام فرحه; لأن العارف من أخذ الآخرة بيمينه والدنيا بشماله وأقبل على الله بقلبه لا يلهيه شيء، وما دام يخاف من وقوع الدنيا عليه فإنه لم يصل بعد .

وقعد إليه مرة رجل في الزهاد فجعل يحدثه الزاهد بأحاديث في فضل القلة والفقر، ويحيى ينظر إلى وجهه كالمتعجب فلما قام قال لو لم يعللوا المساكين بمثل هذه الأحاديث لتفقأت مرارتهم من الغم وكانوا لا يصبرون على الفقر، هيهات لم يتقدم القوم عند الله بفقر ولا غنى ولكن بالعلم والمعرفة قيل له: وما عبادة العارف؟ قال: الدنيا دار سير إلى الله تعالى فإن لم يسر بأعمال جوارحه فهو سائر بقلبه، خطو القدم ذراع، وخطو القلب ألف فرسخ، وقال أيضا: التماسك العطر في حوانيت الصيادلة جهل، إنما هو الشغل بالله عن الدنيا والآخرة معا، وقال: طلبوا العبودية في الزهد فلم يروها، الزاهد ألج، من يرى يثبت على ترك الشيء أربعين سنة، ولكنه كلما كان ألج كان أصدق بما لم يوافق نفسه هواه في الأخذ فلا سبيل له إليه إلا بالترك حتى يترك أخلاق العبيد ويتخلق معه بأخلاق الأحرار ولا يوجد صدق العبودية إلا في منازل المحبة والمعرفة .

وقال في تفسير قول عيسى - عليه السلام - : يا عبيد الدنيا لا أنتم عبيد أتقياء يعني: الزهاد، ولا أحرار أقوياء يعني: العارفين، وقال: خض بحار المعرفة إليه تستهين جهد الزهد والعبادة في جنب ما تدفع إليه مما لا قوام للعقل عليه، فإن البهاء مع العبادة، والكفاية مع الزهد، والبصيرة مع العلم والجوائز السنية مع المعرفة .

وحكى مرة فقال: التقى أحمد بن حرب وابن حضرويه وأبو حامد فقالوا لأحمد بن حرب: إن جعلت لك الدنيا فما أنت صانع بها؟ قال: كنت أرضي بها خصمائي لئلا تلحقني تبعة يوم القيامة، قالوا لابن خضرويه: فما كنت صانعا بها أنت؟ قال: كنت أجعلها كلها لقمة وأضعها في فم مؤمن فأستريح منها، قالوا لأبي حامد: فما كنت تصنع بها أنت؟ قال: كنت أجعلها لطلاب الآخرة فأحوز ثواب ذلك. قال يحيى: أما ابن حرب فأنطقه لسان العصاة ودرجته درجة التوابين، وأما ابن خضرويه فأنطقه لسان المحبة ودرجته [ ص: 382 ] درجة المشتاقين، وأما أبو حامد فأنطقه لسان الشفقة ودرجته درجة الزاهدين .

قيل ليحيى بعد ذلك ما كنت صانعا بها قال وما حكم العبد في مال سيده؟ أنتظر قضاءه فيها فأصرفها فيه فهو أعرف بالتدبير، وكان يقول: الزاهد عيشه إلى يوم واحد والعارف أسقط الأمل أصلا; لأن حياته بيد غيره وقال: من صدق في الترك عذر في الأخذ يعني الدنيا، وقال: الصوف لباس العجم ما رأيته على أحد استبرع عقله .

وقال: نفور العارفين من الزاهدين أكثر من نفور الزاهدين من الراغبين، وكان يقول: الدنيا كلها لا تعدل عند ربها جناح بعوضة، فكم مقدار ما تركت منها ينبغي لك أن تضعها على طبق وتقول: ما صنعت شيئا; لأنه لو عرف قدر المزهود من المعرفة لم يذكر الزهد .

وقال: ترى الزاهد إذا دخل في الزهد جوع نفسه وباع شيئه كله من الخوف من الدنيا لا يشك حتى إذا قوي يقينه ورأى الأمر كائنا وجوده بغير الأسباب عرف من بعد وندم على كثير مما كان باع من كتب ومتاع .

وقال: الزهد كله غصن من أغصان شجرة المعرفة، وقال: إنما يتركون ويحزنون ليفرح ويأخذون ويفرحون ليفرح غما عليهم تركوا وأخذوا وحزنوا وفرحوا، إذا كان فرحه موجودا لهم في الحالتين، فقيل له: هو يفرح؟ قال: نعم، أليس في الخبر: لله أفرح بتوبة عبده من رجل أضل بعيره. الحديث، وقال يا زاهد إن كنت تعجب ممن ترك الجنة في جنب دنياه فالعارف أشد تعجبا حين شغلتك الجنة عن خالقها، وكل حالة تفخر بها في سيرك إليه إلا كسرها عليك الوصول ليكون فخرك به لا بغيره .

قال صاحب القوت: وجملة الأمر أن يحيى بن معاذ لم يكن يتكلم بلسان الزهد ولم يكن عمله يصلح للمريدين ولا للسالكين; لأنه لم يكن من علماء الطريق، وقد هلك بمثل هذا فريق توهموا مقام المعرفة وتظننوا حال العارف حتى فاتهم بذلك مقام الزهد ولم يدركوا حال العارفين، وأولى الأشياء بالعاقل مراعاته لما هو حاصل ومعرفته بقدر حاله وأعمال نفسه في سر اختلاله .

وقال في موضوع آخر: وأما طريق يحيى بن معاذ وبعض العارفين في شأن الدنيا فإن من لم يتملك الملك لم يضره ما ملك بعد أن لا ينظر إلى نفسه فيه كما لا يشهده له بل يجده في خزانة الله التي هي يده وتمليكه ويكون موقوفا فيها إلى تنفيذ حكم الله فيه من وضعه في مواضعه وإخراجه في أوقاته إلى أهله فهذا مستودع يؤدي الأمانة فيه ووكيل مستخلف يطيع الموكل به، فقام هذا من التوحيد وشهادته بعين اليقين يزيد على مقامات الزاهدين وهذا وصف الصحابة الأعلمين .

وكان يقول: لا تأمن مكره ولا تغترن انظر أن لا تكون قد تركت الزهد والعبادة ظنا منك بأنك قد وصلت إلى درجة الحب والمعرفة فتصير في القيامة عاريا منها كلها، لا في منزل العارفين ظهرت ولا فضل الزهد والعبادة أدركت، هذا مع قوله: إذا صح الزهد خرج شهوة النساء من قلبه فلم يردهن، فإذا أقيم مقام المعرفة ردوها عليه .

وقال مرة: إذا زهد ترك الشهوات فإذا عرف عاودها ويكون وجده أفضل من تركه، وقال: إذا صح زهده لم يلحظ من الدنيا مشتهيا له فإذا لحظه قالوا: خذه، فيجعلونه عليه; لأن قلبه قد وقع عليه وكذلك إذا عرف لم يلحظ من الآخرة شيئا بقلبه فإن وقع قلبه على شيء منها جعل له كأنه يقول: إذا صح تركه للدنيا والآخرة لأجل الله فإنه يردهما عليه إذ الله تعالى لا يعبأ بهما شيئا .

وكان يقول: الزهد يورث السخاء بالنفس عن الآخرة وحب الله يشغل عن الدارين جميعا، وقال: ترك الدنيا مهر الآخرة ونفسك خير من الدنيا فلا تبعها بها، ومن علامة المعرفة بهذا بيع الدنيا كلها في جنبها، وقيل: له: ما غاية الزهد؟ فقال: أن لا يصحب من الدنيا ما يلزمه حفظه .



فصل

الزهد لا ينقص من الرزق ولكنه يزيد في الصبر ويديم الجوع والفقر فيكون هذا رزقا للزاهد من الآخرة على هذه الصفة من حرمان نصيبه من الدنيا وحمايته عن التوسع فيها ويكون الزهد سببه فيكون ما صرف عنه ومنعه من الدنيا من الغنى والتوسع رزقه من الآخرة والدرجات العلى بحسن اختبار من الله تعالى وحيطة نظر، ولعل بطالا لاعبا يحتج لتوسعه بهواه فيقول: إن الزهد في الدنيا لما لم ينقص من رزقي شيئا قد فتح لي مقاما مع التوسع والاستكثار; لأني إنما آكل رزقي وآخذ قسمي فلي من الزهد مقام ومن الرضا والتوكل حال يزخرف على من لا يعرف الزهد، ويغر بمقاله من لا يعرف طرائق الزاهدين، ولعله ممن يأكل الدنيا [ ص: 383 ] بالدين، فسمى الاحتجاج لنفسه بهواه والاعتزاز عند الجاهلين زهد خيفة لومهم إياه فكان ذلك معه احتجازا عن الزهد لزهده في الزهد وقوة رغبته في الرغبة .

ولا يعلم المغرور بدار الغرور أنه وإن كان يأكل رزقه من الدنيا ويأخذ قسمه من العطاء فبحكم البعد والبغض وبوصف الرغبة والحرص; لأن السارق والغاصب أيضا يأكل رزقه ويأخذ قسمه ولكن بحكم المقت وسوء الاختيار إذ كان الله سبحانه يرزق الحرام للظالمين كما يرزق الحلال للمتقين وإنما بينهما سوء القضاء للأعداء وحسن التوفيق والاختيار للأولياء فقد حرم المدعي لذلك رزقه من الزهد وبخس نصيبه الأوفر من حب الفقر ونقص حظه الأفضل من الآخرة إذ كانت الدنيا ضدها، وجعل ما صرف فيه وما صرف إليه سببا لنقصان مرتبته من طريق الزاهدين، وأنه قد اختبر بالدنيا وبما فتح عليه من السراء ليظهر صدقه من كذبه فوقع في الفتنة ولم يفطن للابتلاء، وصارت مشاهدته هذه عن وجوده حجابا له عن علوم العارفين فاستدرج بعلمه هذا وعدل به إليه عن علوم الخائفين ومشاهدة الورعين الزاهدين، هذا إذا كان صادقا في مشاهدته تلك وإن كان كاذبا في دعواه فهو من أولياء الشيطان، ومن المحرومين الغافلين قد مكر به وعدل عن علوم الموقنين .

وقد قال بعض العارفين: من كتم ما يجده من آفات نفسه عوقب بادعاء منزلة لم يبلغها، نعوذ بالله من الاغترار بعلم الإظهار ونسأله التوفيق لمشاهدة علم التحقيق .



فصل

الزهد في الدنيا على ثلاثة أحوال: رجل قد غلبها موجودة ومفقودة، ورجل قد غلبته موجودة ومفقودة، ورجل قد غلبها مفقودة وغلبته موجودة .

تفسيره: أن من الناس من قهر هواه وملك نفسه وشهوته وهو قادر عليها وهي موجودة له، فذلك أحرى أن يغلب نفسه فيما فقد من الدنيا وغاب عنه وهذا مقام الصديقين .

والثاني قد غلبته نفسه وأهواه الهوى وأمالته الشهوات موجودة إذا قدر عليها ومفقودة له بالاهتمام بها والفكر والخواطر فيها والإرادة له، فهذا ساقط لاقط لا مقام ولا وصف وهذا حال الجاهلين ونعت الغافلين .

والثالث قد غلبته نفسه في الموجود من الهوى والحاضر من الشهوة، فإذا غاب ذلك عنه غلبها في العدم وملكها عند الفقد، وهذا حال المجاهدين وطريق السائرين ونعت المريدين .

وقد قيل ليحيى بن معاذ: أيصل العبد إلى درجة يسلم فيها من الذنب ومن الزهد إلى درجة يستغني فيها عن الدنيا؟ فقال: هذا لا يكون لا يستغني عن الدنيا أحد، وإنما وقع التفاضل بين الناس على القليل والكثير فأزهدهم فيها أقلهم حظا منها، كما لا يسلم من الذنب أحد ولكن أفضلهم أقلهم ذنبا .

وكان - رحمه الله - يقول في العدل قولا فصلا، قال: إن زهادكم يأمرونكم بأن يكون الدرهم أول شيء تتركونه من الدنيا وأنا آمركم أن يكون الدرهم آخر شيء تتركونه منها، قيل له لم ذلك؟ قال: لأن الدرهم معلق على شهوة النفس والشهوة معلقة على النفس، فترك الدرهم من قبل إزالة الشهوة من النفس بالسياسة خطأ، والدخول في الطمع لمن عنده الدرهم ووقوع البلاء حتى إذا زالت بحسن السياسة هذه الشهوة عن نفسك ذهب عنك حب الدرهم شئت أم أبيت ضرورة، إذ كانت علة حبك له الشهوة والشهوة قد ذهبت وبالدرهم يتم أمر هذه السياسة فلهذا قلت: اجعل الدرهم آخر شيء تتركه بعد الفراغ من النفس .

واعلم أن إمساك الدرهم على هذا التدبير لا يكون علاقة ولكنه يكون سياسة يصلح به وكان يقول: راحة الأبدان في زهد القلوب ومشقة الأبدان في حرص القلوب، وقال: طلبت الدنيا فلم أسترح وطلبت العلم فلم أسترح وطلبت العبادة والعلم فلم أسترح، ودخلت في الزهد واستوطنت الثقة بالله فاسترحت .

وكان يقول: ما دامت شهوة النفس معك فأنت مطية الدنيا وتساق المطية حيث يريد صاحبها لا حيث تريد هي، وإذا ذهبت الشهوة فالدنيا مطيته يسوقها حيث يريد .

وقال بعض أهل المعرفة: إن الله لا يرضى ممن عرفه أن يعلق بشيء دونه فإن فعل ذلك غمه الله ولوعه من ذلك حتى يرجع إليه، ويقال: إن من صح زهده في الدنيا حتى يستوي عنده ذهبها وحجرها مشى على الماء، وفيه قال الشاعر:


لو كان زهدك في الدنيا كزهدك في وصلي مشيت بلا شك على الماء



وقال يحيى بن معاذ: أولياء الآخرة ثلاثة: قانع وزاهد وصديق، فالقانع المحترف الطالب للحلال المنفق على [ ص: 384 ] السبيل والسنة، النازل عن جناح الرغبة في طلب الفضول من حطام الدنيا، والزاهد التارك للطلب ومعه شهوته، فإن أصاب نعيم الدنيا من غير كلفة أكل ونكح، وإن منع صبر ورضي، والصديق هو واجد النعيم لا يريده لمزايلة الشهوة إياه .

وقال أيضا: ليس بزاهد من استخدم غيره بما يصل هو إلى فعله، وقد قال أبو سليمان لأحمد بن أبي الحواري إذ قال: قلت لبعض أصحابنا: اسقني ماء فناولني شربة، فقال لي أبو سليمان: رأيت من زهد في الدنيا يستخدم ويقول اسقني ماء، وكان يحيى بن معاذ يدخل العلم والعبادة في الزهد يجعل الثلاثة كالشيء الواحد لا يتم بعضه إلا ببعض، فقال الزهد والعبادة والعلم مثل الثوب سداه الزهد ولحمته العبادة ونساجه العلم لا يلتحم الثوب بغير هذه الثلاث، كذا لا يلتحم أمر الآخرة إلا بثلاثها .

وكان يحيى بن معاذ يقول: إذا وصل فرح فإذا اتصل استأنس فقيل له نراك تفرق بين الوصول والاتصال فتجعل الاتصال أعلى وأقرب، فقال: أضرب لكم مثلا: رجل سار طريقا وقصد ملكا كريما ثم وصل إليه حتى إذا قدم عليه فقد وصل ثم يتصل بمنادمة الملك شيئا بعد شيء يتقرب به إليه ويقرب منه حتى يدنيه الملك ويؤنسه، فالسير والتعب لقطع المنازل والفرح في الوصول والأنس في الاتصال والاتصال كان مقام أبي يزيد، والوصول كان مقام يحيى بن معاذ - رحمة الله - عليهما .



فصل

قال أبو يزيد البسطامي: حقيقة الزهد لا يكون إلا عند ظهور القدرة والعاجز لا يصح زهده، وهو أن يعطيه كن ويطلعه على الاسم ويقدره على الأشياء بإظهار الكون فيزهد في ذلك حبا لله تعالى أن يعمل عمله ويتركه حبا لله تعالى أن يقوم مقام القدرة، وكشف هذا المقام يخرج إلى علم غريب لا يعرف، وسر عجيب لا يوصف، وفقنا الله وإياكم لما يحب وبلغنا ما نؤمل منه بفضله ورحمته.وهذا آخر شرح كتاب الفقر والزهد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، نجز ذلك على يد مسوده أبي الفيض محمد مرتضى الحسيني تاب الله عليه بمنه في ضحوة نهار الأربعاء لتسع بقين من شوال سنة 1200 حامدا لله مصليا مسلما مستغفرا .




الخدمات العلمية