الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن نافع أن ابن عمر أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح فقال ألا صلوا في الرحال ، ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول : ألا صلوا في الرحال وفي رواية لمسلم أو ذات مطر في السفر وقال البخاري في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر وفي رواية لهما : أن أذان ابن عمر كان بضجنان ولهما أن ابن عباس قال لمؤذنه في يوم مطير : إذا قلت أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة قل صلوا في بيوتكم قال فكأن الناس استنكروا ذلك ، فقال أتعجبون من ذا ؟ قد فعل ذلك من هو خير مني وفي رواية لهما أنه كان يوم جمعة وفيه فعله من هو خير مني يعني النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                            التالي السابق


                                                            الحديث السادس وعن نافع أن ابن عمر أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح فقال ألا صلوا [ ص: 318 ] في الرحال ، ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول ألا صلوا في الرحال .

                                                            (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) فيه الرخصة في التخلف عن مسجد الجماعة لعذر وهو كذلك قال ابن بطال أجمع العلماء أن التخلف عن الجماعة في شدة المطر والظلمة والريح وما أشبه ذلك مباح .



                                                            (الثانية) استدل به بعضهم على أن الجماعة ليست بواجبة وتقديره : أن الذي رخص فيه للمطر إتيان الجماعة .

                                                            وأما الجماعة في البيوت والرحال فليس المطر عذرا فيها فلما قال صلوا في الرحال وأطلق ذلك دل على أن الجماعة لا تجب إذ لو وجب ذلك بينه لهم ؛ لأنه وقت البيان .

                                                            (الثالثة) أمره صلى الله عليه وسلم للمؤذن أن يقول : ألا صلوا في الرحال ليس هو أمر عزيمة حتى يشرع لهم الخروج إلى الجماعة وإنما هو راجع إلى مشيئتهم فمن شاء صلى في رحله ، ومن شاء خرج إلى الجماعة بدليل ما رواه مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فمطرنا فقال : ليصل من شاء منكم في رحله فوكل ذلك إلى مشيئتهم .



                                                            (الرابعة) أطلق مالك في روايته الموضع الذي يقول فيه المؤذن ألا صلوا في الرحال هل يقولها بعد فراغه [ ص: 319 ] أم في أثناء الأذان ؟ لكن الإتيان بالفاء في قوله فقال ألا صلوا يقتضي تعقيبه للأذان وقد صرح به عبيد الله بن عمر العمري في روايته عن نافع عن ابن عمر أنه نادى بالصلاة في ليلة ذات مطر وريح وبرد فقال في آخر ندائه : ألا صلوا في رحالكم لفظ مسلم فقيدها في أذان ابن عمر بآخر ندائه وأطلقها في المرفوع .

                                                            وقد قيده البخاري في الركوع فقال وأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر مؤذنا يؤذن ، ثم يقول على أثره ألا صلوا في الرحال .

                                                            (الخامسة) قد بينا أن في حديث ابن عمر أن محل قول المؤذن صلوا في الرحال بعد فراغه من الأذان وفي حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور في بقية الباب أنه يقولها موضع حي على الصلاة .

                                                            وقد أشار صاحب المفهم إلى الجمع بينهما بأن قال : ويحتمل أن يكون في آخر رواية قبل الفراغ ويكون هذا مثل حديث ابن عباس (قلت) هذا الجمع الذي ذكره وإن احتمل أن يكون ذلك بالنسبة لرواية مسلم فإنه لا يتأتى في رواية البخاري فإنه قال ، ثم يقول على أثره .

                                                            وأيضا فقد ورد من حديث أبي هريرة التصريح بكونه بعد الأذان وهو ما رواه أبو أحمد بن عدي من حديثه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت ليلة باردة أو مطيرة أمر المؤذن فأذن الأذان الأول فإذا فرغ نادى : الصلاة في الرحال أو في رحالكم .

                                                            (السادسة) ذهب جماعة من أصحاب الشافعي أن المؤذن مخير بين أن يقول ذلك بعد الأذان أو بعد الحيعلة نقله النووي في الروضة من زوائده فقال قال صاحب العدة : إذا كانت ليلة مطيرة وذات ريح وظلمة يستحب أن يقول إذا فرغ من أذانه ألا صلوا في رحالكم فإن قاله في أثناء الأذان بعد الحيعلة فلا بأس ، وكذا قاله الصيدلاني والبندنيجي والشاشي وغيرهم ، قال واستبعد إمام الحرمين .

                                                            قوله في أثناء الأذان وليس هو ببعيد بل هو الحق والسنة فقد نص عليه الشافعي في آخر أبواب الأذان في الأم وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لمؤذنه في يوم مطير : إذا قلت أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة وقل صلوا في بيوتكم فذكر بقية الحديث .

                                                            (السابعة) ما استدل عليه النووي بحديث ابن عباس ليس مطابقا له ؛ لأن حديث ابن عباس يدل [ ص: 320 ] على أنه يقول ذلك مكان حي على الصلاة والذي .

                                                            قاله أصحابنا أنه يقولها بعد الحيعلة فهو مخالف لحديث ابن عباس وما اقتضاه حديث ابن عباس من كونه يجعلها مكان حي على الصلاة هو المناسب من حيث المعنى ؛ لأن قوله صلوا في رحالكم يخالف قوله حي على الصلاة فلا يحسن أن يقول المؤذن تعالوا ، ثم يقول لا تجيئوا ولكن البخاري قد بوب على بعض طرق حديث ابن عباس : باب الكلام في الأذان .

                                                            وإذا حملناه على أنه أذان كامل زاد فيه صلوا في رحالكم فيكون تأويل قول ابن عباس إذا قلت أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة أي لا تقلها بعد الشهادتين بل قل صلوا في بيوتكم أولا وأتم الأذان بعد ذلك وفيه نظر .



                                                            (الثامنة) قال صاحب المفهم استدل بهذين الحديثين يريد حديث ابن عمر وحديث ابن عباس من أجاز الكلام في الأذان وهم أحمد والحسن وعروة وقتادة وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن أبي حازم من المالكية قال : ولا حجة لهم في ذلك ، ثم ذكر حديث أبي هريرة من عند ابن عدي في التصريح بكونها تقال بعد الأذان قال والحديث الثاني أي حديث ابن عباس لم يسلك فيه مسلك الأذان ألا تراه قال لا تقل حي على الصلاة وإنما أراد إشعار الناس بالتخفيف عنهم للعذر كما فعل من التثويب للأمراء قال وقد كره الكلام في الأذان مالك والشافعي وأبو حنيفة وعامة الفقهاء انتهى . وما أول القرطبي به حديث ابن عباس يبطل الاستدلال به على الكلام في الأذان فإنه لم يجعله أذانا وحديث ابن عمر صرح فيه أن ذلك بعد الأذان .



                                                            (التاسعة) في قوله ليلة باردة ذات مطر ما يقتضي أن الترخص باجتماع البرد والمطر فلا يكون فيه أن أحدهما رخصة ولكن في رواية مسلم التي تليها أو ذات مطر ، وكذا في رواية البخاري في الليلة الباردة أو المطيرة وهذا يقتضي أن أحدهما عذر ولكن كلا الروايتين التي أتى فيها بأو مقيدة بالسفر وفي رواية البيهقي إذا كانت ليلة باردة أو ذات مطر أو ذات ريح في سفر الحديث .

                                                            فلقائل أن يقول لما كان السفر لا تتأكد فيه الجماعة ويشق الاجتماع لأجلها اكتفى فيه بأحد الأمور بخلاف الحضر فإن المشقة فيه أخف من السفر والجماعة فيه آكد ولكن لا أعلم قائلا [ ص: 321 ] بالفرق في ذلك بين الحضر والسفر فتحمل رواية الواو على رواية أو لزيادة الفائدة فيها والله أعلم .



                                                            (العاشرة) ظاهر حديث ابن عمر أن محل الرخصة في المطر والبرد والريح إنما هو الليل فقط دون النهار من قوله إذا كانت ليلة باردة ذات مطر .

                                                            أصحاب الشافعي قائلون بالتفرقة بين الليل والنهار في الريح فقط دون المطر والبرد فقالوا في المطر والبرد : إن كلا منهما عذر في الليل والنهار وقالوا في الريح العاصفة : إنها عذر في الليل دون النهار هكذا جزم الرافعي وتبعه النووي وحكى ابن الرفعة وجها آخر في الريح أنها عذر في النهار وللأصحاب أن يجيبوا عن الحديث بأن التقييد بالليل مفهوم لقب وليس بحجة على المشهور والعلة إنما هي البرد والمطر وفي حديث ابن عباس المتفق عليه في يوم مطير .

                                                            وقد ذكرته بعد حديث ابن عمر في الأصل وأما البرد في النهار فروى أبو داود من حديث ابن عمر في الليلة المطيرة والغداة القارة ففيه التصريح بأن البرد عذر في النهار ولكن قد يقال : قيده بالغداة دون بقية النهار لما في الغداة من البرد دون وسط النهار وهذه الرواية من طريق ابن إسحاق عن نافع هكذا بالعنعنة وهو مدلس فلا يحتج بها .

                                                            (الحادية عشرة) إن قال قائل قد ذكرتم أن في الصحيحين في حديث ابن عمر التقييد بكونه في السفر ، وكذا حديث جابر عند مسلم أنهم كانوا في سفر . وقد تقدم وهكذا حديث أبي المليح عن أبيه عند أصحاب السنن أنهم كانوا في سفر فكان ينبغي حمل الرواية المطلقة على المقيدة بالسفر حتى إنه لا يكون المطر والبرد والريح رخصة في التخلف عن الجماعة في الحضر ولم يقولوا به فما الجواب عن ذلك ؟ (والجواب) أن في بعض طرقه عند أبي داود نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك في المدينة في الليلة المطيرة والغداة القارة فصرح بأن ذلك بالمدينة ليس في سفر ولكن هذه الطرق من طريق ابن إسحاق عن نافع بالعنعنة كما تقدم ولكن قصة عتبان بن مالك تدل على الترخيص بالمطر في الحضر أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنها تكون الظلمة والسيل [ ص: 322 ] وأنا رجل ضرير البصر فصل يا رسول الله في بيتي مكانا أتخذه مصلى فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أين تحب أن أصلي ؟ فأشار إلى مكان من البيت فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه الشيخان ولقائل أن يقول لا يلزم من كونه رخص لعتبان في ذلك الترخيص لغيره فإنه علل أيضا بكونه ضرير البصر فلعله من جملة العلة والله أعلم .

                                                            (الثانية عشرة) ضجنان المذكور في حديث ابن عمر بفتح الضاد المعجمة وسكون الجيم وبنونين بينهما ألف قال أبو موسى المديني في ذيله على كتاب الغريبين للهروي : إنه موضع أو جبل بين مكة والمدينة .



                                                            (الثالثة عشرة) فيه أن الأعذار المذكورة رخصة في مطلق الجماعة سواء فيه الجمعة وغيرها وقد صرح في حديث ابن عباس أنه في يوم جمعة ولم يفرق أصحابنا في أصحاب الأعذار بين الجمعة والجماعة إلا ما حكاه صاحب العدة عن أئمة طبرستان أنهم أفتوا أن الوحل الشديد عذر في الجماعة دون الجمعة والصحيح أنه عذر فيهما معا ، ومن فرق بينهما محجوج بحديث ابن عباس وهو متفق عليه من رواية عبد الله بن الحارث قال خطبنا ابن عباس في يوم ذي ردغ الحديث . في أمره مؤذنه أن يقول صلوا في بيوتكم والردغ والرزغ الطين وقال في بعض طرقه في الصحيحين : إنالجمعة عزمة وإني كرهت أن أخرجكم فتمشون في الطين والدحض .

                                                            (الرابعة عشرة) فيه حجة على رواية مالك حيث ذهب إلى أن المطر والوحل ليسا بعذر في الجمعة وعنه رواية أن المطر الشديد والوحل عذر فيها .

                                                            وقال أحمد بن حنبل إن المطر الوابل عذر ، وقيد أصحابنا الوحل بالشديد وأطلق أكثرهم المطر ولم يقيدوه بالشديد وقيد بعضهم بما يحصل به أذى وقد أطلق المطر والردغ في حديث ابن عباس لكن في بعض طرقه عند البخاري أن ابن عباس قال كرهت أن أؤمكم فتجيئون تدوسون الطين إلى ركبكم ، فهذا يدل على شدة الوحل والمطر ، لكن يجوز أن يكون بعد انقطاع المطر وهو الظاهر من سياق الحديث ويستدل لما قاله أصحابنا من إطلاقهم المطر في عذر الجمعة والجماعة ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من رواية أبي المليح عن أبيه أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في يوم جمعة [ ص: 323 ] وأصابهم مطر لم يبل أسفل نعالهم فأمرهم أن يصلوا في رحالهم لفظ أبي داود ولقائل أن يقول في بعض طرقه عند أبي داود : إن ذلك كان يوم حنين وإذا كان كذلك فلم يكونوا مقيمين ولم ينقل أنهم صلوا الجمعة فيكون ظهرا فلا يبقى فيها دلالة على الجمعة .



                                                            (الخامسة عشرة) حكى ابن بطال عن المهلب أن قوله الصلاة في الرحال أباح التخلف عن الجماعة ، وقوله إنها عزمة يدل على أنه صلى الجمعة وحدها ولم يصل بعدها العصر قال ففيه حجة لمالك أنه لا يجوز الجمع بين الظهر والعصر بعذر المطر انتهى .

                                                            وليس كما قال من كونه حجة على ما ذكره فإن الجمعة لا تجمع مع العصر إنما يجمع معها الظهر ، فاستدلاله بعدم جمع العصر مع الجمعة لا يدل على ترك الجمع بين الظهر والعصر على أنا نقول : لقائل أن يقول لا يلزم من عدم نقل الجمع عدم وقوعه لو كان جائزا والله أعلم .



                                                            (السادسة عشرة) فيه استحباب الأذان في السفر وهو قول أكثر العلماء وإليه ذهب أبو حنيفة وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وقال مالك لا أذان على مسافر وإنما الأذان على من يجتمع إليه لتأديته وروي عن جماعة من التابعين أنه يقيم المسافر ولا يؤذن روي ذلك عن مكحول والحسن والقاسم .

                                                            والأحاديث الصحيحة حجة لمن استحب الأذان للمسافر من ذلك حديث أبي قتادة الطويل عند مسلم في نومهم عن الصلاة في الوادي .

                                                            وحديث أبي سعيد الخدري عند البخاري إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو في باديتك فأذنت فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مد صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة .

                                                            وحديث مالك أبو الحويرث في الصحيحين وإذا خرجتما فأذنا وأقيما الحديث بل زاد بعضهم على هذا وقال بوجوب الأذان في السفر وهو عطاء بن أبي رباح فقال : إذا كنت في سفر ولم تؤذن ولم تقم فأعد الصلاة .

                                                            وقال مجاهد إذا نسي الإقامة في السفر أعاد قال ابن بطال والحجة لهما قوله أذنا وأقيما وأمره على الوجوب قال والعلماء على خلاف قول عطاء ومجاهد والأمر محمول عند العلماء على الاستحباب .




                                                            الخدمات العلمية