الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وإذا حاصر الإمام بلدا أو قلعة في دار الحرب ، ثم صالحهم على تحكيم رجل من المسلمين ، ليحكم فيهم بما يؤديه اجتهاده إليه إذا كان من أهل الاجتهاد مستوفيا لشروط الحكام ، وهي البلوغ ، والعقل ، والحرية ، والإسلام ، والذكورية ، والعلم .

                                                                                                                                            [ ص: 280 ] فإذا استكمل هذه الشروط السبعة صح أن يحكم فيهم برأيه كما حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ في بني قريظة ، فحكم أن من جرت عليه الموسى قتل ، ومن لم تجر عليه استرق ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هذا حكم الله من فوق سبع أرقعة ، وهي سبع سماوات ، وإن أخل بشرط منها لم يجز أن يحكم فيهم ، فإن كان هذا المحكم فيهم أعمى جاز تحكيمه ، وإن كان لا يجوز أن يكون حاكما في عموم الأحكام : لأنه يحكم بما اشتهرت فيه أحوالهم ، وتظاهرت به أخبارهم ، فاستوى فيها الأعمى والبصير ، كما يستويان في الشهادة بما تعلق باستفاضة الأخبار ، فإن صولحوا على تحكيم غير معين ، ليقع الاختيار له ، أو التعيين عليه من بعد لم يخل من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون موقوفا على اختيار المسلمين له ، فيصح .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون موقوفا على اختيار المشركين له ، فلا يصح .

                                                                                                                                            والثالث : أن يكون موقوفا على اختيار المسلمين والمشركين ، فيصح : لأن بني قريظة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحكيم سعد بن معاذ فأجابهم إليه ، فإن اتفق المسلمون والمشركون على اختياره انعقد تحكيمه ونفذ فيهم حكمه ، وإن اختلفوا لم ينعقد تحكيمه وأعيدوا إلى مأمنهم حتى يستأنفوا اختيارا أو صلحا ، فإن صولحوا على تحكيم أسير في أيديهم نظر .

                                                                                                                                            فإن كان في وقت اختياره للتحكيم أسيرا لم يصح تحكيمه : لأنه مقهور لا ينفذ حكمه ، وإن كان قد أطلق قبل تحكيمه كرهناه حذرا للممايلة وصح تحكيمه لأن دينه يمنعه من الممايلة ، وهكذا لو عقد التحكيم على رجل منهم قد أسلم قبل التحكيم جاز وإن كره .

                                                                                                                                            وإذا انعقد الصلح على تحكيم رجلين جاز : لأن اجتهادهما أقوى ونفذ حكمهما إن اتفقا عليه ، ولم ينفذ إن اختلفا فيه ، وإذا مات الحكم قبل حكمه ، أو استعفى واعتزل أعيدوا إلى مأمنهم حتى يستأنفوا صلحا على تحكيم غيره .

                                                                                                                                            فإذا تقررت هذه الجملة وانعقد التحكيم على رجل بعينه اجتهد رأيه في الأصلح للمسلمين دون المشركين : لعلو الإسلام على الشرك ، فإن أداه اجتهاده إلى قتل رجالهم ، وسبي ذراريهم جاز ولزمهم حكمه كالذي حكم له سعد في بني قريظة ، فإن رأى الإمام بعد ذلك المن على من حكم بقتله من رجالهم جاز ، وإن رأى المن على من حكم بسبيه من ذراريهم نظر .

                                                                                                                                            فإن كان بعد استرقاقهم لم يجز إلا بمراضاة الغانمين كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبي هوازن حين من ، وإن كان قبل استرقاقهم جاز : لأن سعدا لما حكم في بني قريظة [ ص: 281 ] بالقتل والسبي ، جاء ثابت الأنصاري ، فقال : يا رسول الله ، إن الزبير بن باطأ اليهودي عندي ، وقد سأل أن نهب له دمه وماله ، ففعل ووهب له دمه وماله .

                                                                                                                                            وإن رأى الإمام أن يسترق رجالهم أو يأخذ فداهم لم يجز إلا عن مراضاتهم : لأنه نقض حكم نفذ بالاستئناف لحكم مجدد ، ولو كان المحكم فيهم قد حكم بالمن على رجالهم وذراريهم نفذ حكمه إذا أداه اجتهاده إليه ، ولم يجز للإمام أن يفسخ حكمه عليه ، وإن حكم عليه بالفداء لم يلزمهم حكمه إن كان المال غير مقدور عليه : لأنه عقد معاوضة لا يلزم إلا عن مراضاة ، ولزمهم حكمه إن كان المال مقدورا عليه : لأنه حكم منه بغنيمة ذلك المال ، فنفذ حكمه به ، وإن حكم باسترقاقهم صاروا بحكمه رقيقا ولم يجز للإمام أن يمن عليهم إلا باستطابة نفوس الغانمين ، وإن حكم عليهم بالجزية وأن يكونوا أهل ذمة لم يلزمهم حكمه بذلك : لأنها عقد معاوضة لا يصح إلا عن مراضاة ، ولو حكم بقتلهم ، فأسلموا سقط القتل عنهم ، ولم يجز استرقاقهم ، ولو حكم استرقاقهم ، فأسلموا لم يسقط استرقاقهم : لأنه يجوز استرقاقهم بعد إسلامهم ، ولا يجوز قتلهم بعد إسلامهم وبالله التوفيق .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية