الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1824 33 - (حدثنا أبو عاصم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا ينادي في الناس يوم عاشوراء: أن من أكل فليتم أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في جواز نية الصوم بالنهار؛ لأن قوله: " فليتم"، وقوله: " فلا يأكل" يدلان على جواز النية بالصوم في النهار، ولم يشترط التبييت، وهذا الحديث من ثلاثيات البخاري، وهو خامس الثلاثيات له، وأبو عاصم هو الضحاك بن مخلد، ويزيد، من الزيادة، ابن أبي عبيد، بتصغير العبد، مولى سلمة بن الأكوع، واسم الأكوع: سنان بن عبيد الله، والحديث أخرجه البخاري أيضا في الصوم عن مكي بن إبراهيم، وأخرجه في خبر الواحد عن مسدد عن يحيى بن سعيد، وأخرجه مسلم في الصوم أيضا عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن المثنى، عن يحيى.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه) قوله: " عن سلمة بن الأكوع" ، وفي رواية يحيى القطان" عن يزيد بن أبي عبيد، حدثنا سلمة بن الأكوع" كما سيأتي في خبر الواحد. قوله: " بعث رجلا ينادي في الناس" ، وفي رواية يحيى: " قال لرجل من أسلم: أذن في قومك"، واسم هذا الرجل: هند بن أسماء بن حارثة الأسلمي، وأخرج حديثه أحمد وابن أبي خيثمة من طريق ابن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن خبيب بن هند بن أسماء الأسلمي عن أبيه قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومي من أسلم، فقال: مر قومك أن يصوموا هذا اليوم، يوم عاشوراء، فمن وجدته منهم قد أكل في أول يومه فليصم آخره"، وقد احتج أصحابنا بهذا الحديث وبحديث الباب على صحة الصيام لمن لم ينو من الليل، سواء كان رمضان أو غيره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم في أثناء النهار، فدل على أن النية لا تشترط من الليل، وقال بعضهم: وأجيب بأن ذلك يتوقف على أن صيام يوم عاشوراء كان واجبا، والذي يترجح من أقوال العلماء أنه لم يكن فرضا. انتهى. (قلت): روى الشيخان من حديث عائشة قالت: كان يوم عاشوراء يوما [ ص: 304 ] تصومه قريش في الجاهلية، وكان عليه الصلاة والسلام يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان قال: " من شاء صامه ومن شاء تركه" فهذا الحديث ينادي بأعلى صوته أن صوم يوم عاشوراء كان فرضا. وعن عائشة، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة أن صوم يوم عاشوراء كان فرضا قبل أن يفرض رمضان، فلما فرض رمضان، فمن شاء صام ومن شاء ترك، ذكره ابن شداد في أحكامه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أرسل إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم" متفق عليه، وكان صوما واجبا متعينا، وقال الحافظ أبو جعفر الطحاوي رحمه الله: ففي هذه الآثار وجوب صوم عاشوراء، وفي أمره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بصومه بعدما أصبحوا وأمره بالإمساك بعدما أكلوا دليل على وجوبه، إذ لا يأمر صلى الله تعالى عليه وسلم في النفل بالإمساك إلى آخر النهار بعد الأكل ولا بصومه لمن لم يصمه.

                                                                                                                                                                                  وفيه دليل أيضا على أن من كان عليه صوم يوم بعينه ولم يكن نوى صومه من الليل تجزيه النية بعدما أصبح، والأكثرون على أنه كان فرضا، ونسخ بصوم رمضان، (فإن قلت): يعارض ما ذكرتم حديث معاوية: " أنه قال على المنبر: يا أهل المدينة أين علماؤكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هذا يوم عاشوراء، لم يكتب الله عليكم صيامه، فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر، وأنا صائم". (قلت): بعد النسخ لم يبق مكتوبا علينا، ولأن المثبت أولى من النافي، وقال القائل المذكور: والذي يترجح من أقوال العلماء: أنه – أي: إن صوم يوم عاشوراء- لم يكن فرضا، وعلى تقدير أنه كان فرضا فقد نسخ بلا ريب، فقد نسخ حكمه وشرائطه. انتهى. (قلت): هذا مكابرة، فلا يترجح من أقوال العلماء إلا إن كان فرضا، لما ذكرنا من الدلائل، وقوله: فنسخ حكمه وشرائطه غير صحيح، ألا ترى أن التوجه إلى بيت المقدس قد نسخ، ولم تنسخ سائر أحكام الصلاة وشرائطها، وقوله: "وأمره بالإمساك لا يستلزم الإجزاء؛ لأن الأمر بالإمساك يحتمل أن يكون لحرمة الوقت. (قلت): الاحتمال إذا كان ناشئا عن غير دليل لا يعتبر به، فبالاحتمال المطلق لا يثبت الحكم ولا ينفي، ثم استدل هذا القائل في قوله: الأمر بالإمساك لا يستلزم الإجزاء بقوله، كما يؤمر من قدم من سفر في رمضان نهارا، وكما يؤمر من أفطر يوم الشك ثم رؤي الهلال، وكل ذلك لا ينافي أمرهم بالقضاء، بل قد ورد ذلك صريحا في حديث أخرجه أبو داود والنسائي من طريق قتادة عن عبد الرحمن بن سلمة عن عمه " إن أم أسلم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صمتم يومكم هذا؟ قالوا: لا، قال: فأتموا بقية يومكم واقضوه " (قلت) هذا القياس باطل؛ لأن الرمضانية متعينة في الصورة الأولى ونفيت في الثانية، فكيف لا يؤمر بالقضاء بخلاف ما نحن فيه.

                                                                                                                                                                                  والحديث الذي قوى كلامه به غير صحيح من وجوه؛ الأول: أن النسائي أخرجه ولم يذكر: واقضوه، وقال عبد الحق في (الأحكام الكبرى): ولا يصح هذا الحديث في القضاء، وقال ابن حزم في (المحلى): لفظة " واقضوا" موضوعة بلا شك، الثاني: أن البيهقي قال: عبد الرحمن هذا مجهول، ومختلف في اسم أبيه، ولا يدرى من عمه، وقال المنذري: قيل: عبد الرحمن بن مسلمة كما ذكره أبو داود، وقيل: ابن سلمة، وقيل: ابن المنهال بن سلمة، ورواه ابن حزم من طريق شعبة، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن المنهال بن سلمة الخزاعي، عن عمه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسلم: صوموا اليوم، قالوا: إنا قد أكلنا، قال: صوموا بقية يومكم يعني عاشوراء"، وفي رواية أخرى أخرجها ابن حزم أيضا عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة " عن عبد الرحمن بن مسلمة الخزاعي، عن عمه قال: غدونا على رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة عاشوراء، فقال لنا: أصبحتم صياما؟ قلنا: قد تغدينا يا رسول الله، فقال: فصوموا بقية يومكم، ولم يأمرهم بالقضاء"، الثالث: أن شعبة قال: كنت أنظر إلى فم قتادة، فإذا قال: حدثنا، كتبت، وإذا قال: عن فلان، أو قال: فلان، لم أكتبه، وهو مدلس، دلس عن مجهولين، وقال الكرابيسي وغيره: فإذا قال المدلس: حدثنا يكون حجة، وإذا قال: " فلان قال"، أو " عن فلان" لا يكون حجة، فلا يجوز الاحتجاج به، فإذا كانت الرواية - يعني عن الثقة المعروف بالحفظ والضبط- لا تكون حجة فكيف تكون حجة وقد رواه عن مجهول، وقال القاضي عياض: رواية " واقضوا" قاطعة لحجة المخالف، ونص ما يقوله الجمهور: وجوب اعتبار النية من الليل، وأن نيته من النهار غير معتبرة، ورد عليه بأنه كيف يحتج بما ليس بحجة على خصمه مع علمه، ويعتقد أنه يخفى، وذكر ما ذكرنا من الوجوه ثم قال هذا القائل: واحتج الجمهور [ ص: 305 ] لاشتراط النية في الصوم من الليل بما أخرجه أصحاب السنن من حديث عبد الله بن عمر، عن أخته حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له " لفظ النسائي، ولأبي داود والترمذي: " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له "، واختلف في رفعه ووقفه، ورجح الترمذي والنسائي الموقوف بعد أن أطنب في تخريج طرقه، وحكى الترمذي في العلل عن البخاري ترجيح وقفه، وعمل بظاهر الإسناد جماعة من الأئمة فصححوا الحديث المذكور، منهم ابن خزيمة ، وابن حبان ، والحكم ، وابن حزم ، وروى له الدارقطني طريقا أخرى وقال: رجالها ثقات، وأبعد من خصه من الحنفية بصيام القضاء والنذر، وأبعد من ذلك تفرقة الطحاوي بين صوم الفرض إذا كان في يوم بعينه كعاشوراء، فتجزي النية في النهار أولا في يوم بعينه كرمضان، فلا يجزي إلا بنية من الليل، وبين صوم التطوع فيجزي في الليل وفي النهار، وقد تعقبه إمام الحرمين بأنه كلام غث لا أصل له. انتهى. (قلت): قال الترمذي: حديث حفصة حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، يعني من الوجه الذي رواه عن إسحاق بن منصور، عن ابن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن أبي بكر، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن حفصة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له "، وفي بعض النسخ تفرد به يحيى بن أيوب قال: وقد روي عن نافع عن ابن عمر، قوله: وهو أصح، ورواه النسائي عن أحمد بن الأزهر، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، وقال النسائي : ورواية حمزة الصواب عندنا موقوف ولم يصح رفعه؛ لأن يحيى بن أيوب ليس بالقوي، وحديث ابن جريج عن الزهري غير محفوظ، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                  وقال شيخنا: وأما الموقوف الذي ذكر الترمذي أنه أصح، فقد رواه مالك في (الموطأ) كذلك عن نافع، عن ابن عمر.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ومن طريقه" رواه النسائي، ورواه النسائي أيضا من رواية عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قوله: وقد جاء من طرق موقوفا على حفصة، رواه النسائي من رواية عبيد الله بن عمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن حفصة، ومن رواية يونس ومعمر، وابن عيينة، عن الزهري، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن أبيه، عن حفصة، ومن رواية ابن عيينة عن الزهري، عن حمزة، عن حفصة، لم يذكر ابن عمر، ومن طريق مالك عن ابن شهاب، عن عائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهما قولهما: مرسلا.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه إسحاق بن حازم، عن عبد الله ابن أبي بكر، عن سالم، عن أبيه، عن حفصة مرفوعا " لا صيام لمن لم ينو من الليل "، ورواه يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن أبي بكر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن حفصة مرفوعا، قلت له: أيهما أصح؟ قال: لا أدري، لأن عبد الله بن أبي بكر أدرك سالما وروى عنه، ولا أدري سمع هذا الحديث منه أو سمعه من الزهري، عن سالم، وقد روي هذا عن الزهري، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن حفصة قولها: وهو عندي أشبه، وقال أبو عمر : في إسناد هذا الحديث اضطراب، وفيه يحيى بن أيوب الغافقي، قال النسائي: ليس بالقوي، والصواب فيه: موقوف، ولذلك لم يخرجه الشيخان، وقال أبو حاتم الرازي : لا يحتج به، وذكره أبو الفرج في الضعفاء والمتروكين، وقال أحمد: هو سيئ الحفظ، وهم يردون الحديث بأقل من هذا، والجرح مقدم على التعديل، ولا يلتفت إلى قول الدارقطني: وهو من الثقات الرفعاء.

                                                                                                                                                                                  وأما قول هذا القائل وأبعد من خصه من الحنفية بصيام القضاء والنذر فكلام ساقط لا طائل تحته؛ لأن من لم يخص هذا الحديث بصيام القضاء والنذر المطلق وصوم الكفارات يلزم منه النسخ لمطلق الكتاب بخبر الواحد، فلا يجوز ذلك، بيانه أن قوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى قوله: ثم أتموا الصيام إلى الليل مبيح للأكل والشرب والجماع في ليالي رمضان إلى طلوع الفجر، ثم الأمر بالصيام عنها بعد طلوع الفجر متأخر عنه؛ لأن كلمة " ثم" للتعقيب مع التراخي، فكان هذا أمرا بالصيام متراخيا عن أول النهار، والأمر بالصوم أمر بالنية؛ إذ لا صوم شرعا بدون النية، فكان أمرا بالصوم بنية متأخرة عن أول النهار، وقد أتى به فيخرج عن العهدة.

                                                                                                                                                                                  وفيه دلالة أن الإمساك في أول النهار يقع صوما وجدت فيه النية أو لم توجد؛ لأن إتمام الشيء يقتضي سابقة وجود بعض شيء منه، فإذا شرطنا النية في أول الليل بخبر الواحد يكون نسخا لمطلق الكتاب، فلا يجوز ذلك، فحينئذ يحمل ذلك على الصيام [ ص: 306 ] الخاص المعين، وهو الذي ذكرناه؛ لأن مشروع الوقت في هذا متنوع، فيحتاج إلى التعيين بالنية بخلاف شهر رمضان؛ لأن الصوم فيه غير متنوع، فلا يحتاج فيه إلى التعيين، وكذلك النذر المعين، فهذا هو السر الخفي في هذا التخصيص الذي استبعده من لا وقوف له على دقائق الكلام ومدارك استخراج المعاني من النصوص، ولم يكتف المدعي بعد هذا الكلام لبعد إدراكه حتى ادعى الأبعدية في تفرقة الطحاوي بين صوم الفرض وصوم التطوع، فهذه دعوى باطلة؛ لأن حامل الطحاوي على هذه التفرقة ما رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها" قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: يا عائشة هل عندكم شيء؟ قالت: فقلت: لا يا رسول الله، ما عندنا شيء، قال: فإني صائم"، وبنحوه روي عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي طلحة رضي الله تعالى عنهم، ثم إن هذا القائل نقل عن إمام الحرمين كلاما لا يوجد أسمج منه؛ لأن من يتعقب كلام أحد إن لم يذكر وجهه بما يقبله العلماء يكون كلامه هو غثاء لا أصل له، وأجاب بعض أصحابنا عن الحديث المذكور، أعني حديث حفصة رضي الله تعالى عنها بعد التسليم بصحته وسلامته عن الاضطراب بأنه محمول على نفي الفضيلة والكمال كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد".




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية