الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 104 ]

                                                                                                                                                                                                                                      6 - سورة الأنعام

                                                                                                                                                                                                                                      ( مكية وهي مائة وخمس وستون آية )

                                                                                                                                                                                                                                      سورة الأنعام

                                                                                                                                                                                                                                      ( مكية غير ست آيات أو ثلاث ، من قوله تعالى : قل تعالوا أتل ، وهي مائة وخمس وستون آية )

                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون

                                                                                                                                                                                                                                      الحمد لله تعليق الحمد المعرف بلام الحقيقة أولا باسم الذات ، الذي عليه يدور كافة ما يوجبه من صفات الكمال ، وإليه يؤول جميع نعوت الجلال والجمال ، للإيذان بأنه عز وجل هو المستحق له بذاته ، لما مر من اقتضاء اختصاص الحقيقة به سبحانه ، لاقتصار جميع أفرادها عليه بالطريق البرهاني .

                                                                                                                                                                                                                                      ووصفه تعالى ثانيا بما ينبئ عن تفصيل بعض موجباته المنتظمة في سلك الإجمال من عظائم الآثار ، وجلائل الأفعال من قوله عز وجل : الذي خلق السماوات والأرض للتنبيه على استحقاقه تعالى له ، واستقلاله به باعتبار أفعاله العظائم ، وآلائه الجسام أيضا ، وتخصيص خلقهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العلوية والسفلية ، وعامة الآلاء الجلية والخفية التي أجلها نعمة الوجود الكافية في إيجاب حمده تعالى على كل موجود ، فكيف بما يتفرع عليها من فنون النعم الأنفسية والآفاقية ، المنوط بها مصالح العباد في المعاش والمعاد ; أي : أنشأهما على ما هما عليه من النمط الفائق والطراز الرائق ، منطويتين من أنواع البدائع وأصناف الروائع ، على ما تتحير فيه العقول والأفكار من تعاجيب العبر والآثار ، تبصرة وذكرى لأولي الأبصار ، وجمع السماوات لظهور تعدد طبقاتها واختلاف آثارها وحركاتها ، وتقديمها لشرفها وعلو مكانها ، وتقدمها وجودا على الأرض كما هي .

                                                                                                                                                                                                                                      وجعل الظلمات والنور عطف على " خلق " مترتب عليه ، لكون جعلهما مسبوقا بخلق منشئهما ، ومحلهما داخل معه في حكم الإشعار بعلة الحمد ، فكما أن خلق السماوات والأرض وما بينهما لكونه أثرا عظيما ونعمة جليلة ، موجب لاختصاص الحمد بخالقهما جل وعلا ، كذلك جعل الظلمات والنور لكونه أمرا خطيرا ونعمة عظيمة ، مقتض لاختصاصه بجاعلهما .

                                                                                                                                                                                                                                      والجعل : هو الإنشاء والإبداع كالخلق ، خلا أن ذلك مختص بالإنشاء التكويني ، وفيه معنى التقدير والتسوية ، وهذا عام له كما في الآية الكريمة ، وللتشريعي أيضا كما في قوله تعالى : ما جعل الله من بحيرة ... الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأيا ما كان فهو إنباء عن ملابسة مفعوله بشيء آخر ، بأن يكون فيه ، أو له ، أو منه ، أو نحو ذلك ملابسة مصححة لأن يتوسط بينهما شيء من الظروف ، لغوا كان أو مستقرا ، لكن لا على أن يكون عمدة في الكلام ، بل قيدا فيه ، كما في قوله عز وجل : وجعل بينهما برزخا ، وقوله تعالى : وجعل فيها رواسي ، وقوله تعالى : واجعل لنا من لدنك وليا ... الآية [ ص: 105 ]

                                                                                                                                                                                                                                      فإن كل واحد من هذه الظروف إما متعلق بنفس الجعل ، أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله تقدمت عليه لكونه نكرة ، وأيا ما كان فهو قيد في الكلام ، حتى إذا اقتضى الحال وقوعه عمدة فيه ، يكون الجعل متعديا إلى اثنين هو ثانيهما ، كما في قوله تعالى : يجعلون أصابعهم في آذانهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وربما يشتبه الأمر فيظن أنه عمدة فيه ، وهو في الحقيقة قيد بأحد الوجهين ، كما سلف في قوله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة ، حيث قيل : إن الظرف مفعول ثان لجاعل ، وقد أشير هناك إلى الذي يقضي به الذوق السليم ، وتقتضيه جزالة النظم الكريم ، أنه متعلق بجاعل ، أو بمحذوف وقع حالا من المفعول ، وأن المفعول الثاني هو خليفة ، وأن الأول محذوف على ما مر تفصيله .

                                                                                                                                                                                                                                      وجمع " الظلمات " لظهور كثرة أسبابها ومحالها عند الناس ، ومشاهدتهم لها على التفصيل ، وتقديمها على " النور " لتقدم الإعدام على الملكات مع ما فيه من رعاية حسن المقابلة بين القرينتين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون معطوف على الجملة السابقة الناطقة بما مر من موجبات اختصاصه تعالى بالحمد المستدعي لاقتصار العبادة عليه ، كما حقق في تفسير الفاتحة الكريمة ، مسوق لإنكار ما عليه الكفرة ، واستبعاده من مخالفتهم لمضمونها ، واجترائهم على ما يقضي ببطلانه بديهة العقول ، والمعنى : أنه تعالى مختص باستحقاق الحمد والعبادة باعتبار ذاته ، وباعتبار ما فصل من شئونه العظيمة الخاصة به ، الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه ، ثم هؤلاء الكفرة لا يعملون بموجبه ويعدلون به سبحانه ; أي : يسوون به غيره في العبادة ، التي هي أقصى غايات الشكر ، الذي رأسه الحمد ، مع كون كل ما سواه مخلوقا له ، غير متصف بشيء من مبادئ الحمد .

                                                                                                                                                                                                                                      وكلمة " ثم " لاستبعاد الشرك بعد وضوح ما ذكر من الآيات التكوينية القاضية ببطلانه ، لا بعد بيانه بالآيات التنزيلية ، والموصول عبارة عن طائفة الكفار ، جار مجرى الاسم لهم من غير أن يجعل كفرهم بما يجب أن يؤمن به كلا أو بعضا عنوانا للموضوع ، فإن ذلك مخل باستبعاد ما أسند إليهم من الإشراك .

                                                                                                                                                                                                                                      والباء متعلقة بيعدلون ، ووضع الرب موضع ضميره تعالى لزيادة التشنيع والتقبيح ، والتقديم لمزيد الاهتمام والمسارعة إلى تحقيق مدار الإنكار والاستبعاد ، والمحافظة على الفواصل ، وترك المفعول لظهوره ، أو لتوجيه الإنكار إلى نفس الفعل بتنزيله منزلة اللازم ، إيذانا بأنه المدار في الاستبعاد والاستنكار ، لا خصوصية المفعول ، هذا هو الحقيق بجزالة التنزيل والخليق بفخامة شأنه الجليل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما جعل الباء صلة لكفروا على أن يعدلون من العدول ، والمعنى : أن الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد ، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته ، فيرده أن كفرهم به تعالى لا سيما باعتبار ربوبيته تعالى لهم أشد شناعة ، وأعظم جناية من عدولهم عن حمده عز وجل ، لتحققه مع إغفاله أيضا ، فجعل أهون الشرين عمدة في الكلام مقصود الإفادة ، وإخراج أعظمهما مخرج القيد المفروغ عنه ، مما لا عهد له في الكلام السديد ، فكيف بالنظم التنزيلي هذا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قيل : إنه معطوف على " خلق السماوات " ، والمعنى : أنه تعالى خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ، ثم هم يعدلون به سبحانه ما لا يقدر على شيء منه ، لكن لا على قصد أنه صلة مستقلة ، ليكون بمنزلة أن يقال : الحمد لله الذي عدلوا به ، بل على أنه داخل تحت الصلة ، بحيث يكون الكل صلة واحدة ، كأنه قيل : الحمد لله الذي كان منه تلك النعم العظام ، ثم من الكفرة الكفر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأنت خبير بأن ما ينتظم في سلك الصلة المنبئة عن موجبات حمده عز [ ص: 106 ] وجل حقه أن يكون له دخل في ذلك الإنباء ولو في الجملة ، ولا ريب في أن كفرهم بمعزل منه وادعاء أن له دخلا فيه ; لدلالته على كمال الجود ، كأنه قيل : الحمد لله الذي أنعم بمثل هذه النعم العظام على من لا يحمده ، تعسف لا يساعده النظام ، وتعكيس يأباه المقام ، كيف لا ومساق النظم الكريم كما تفصح عنه الآيات الآتية تشنيع الكفرة وتوبيخهم ، ببيان غاية إساءتهم مع نهاية إحسانه تعالى إليهم ، لا بيان نهاية إحسانه تعالى إليهم مع غاية إساءتهم في حقه تعالى ، كما يقتضيه الادعاء المذكور .

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذا اتضح أنه لا سبيل إلى جعل المعطوف من روادف المعطوف عليه ، لما أن حق الصلة أن تكون غير مقصودة الإفادة ، فما ظنك بما هو من روادفها ، وقد عرفت أن المعطوف هو الذي سيق له الكلام ، فتأمل وكن على الحق المبين .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية