الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين أي : بالسيف والحجة ، وقد تقدم الكلام على هذه الآية في سورة براءة واغلظ عليهم أي : شدد عليهم في الدعوة واستعمل الخشونة في أمرهم بالشرائع .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحسن : أي جاهدهم بإقامة الحدود عليهم ، فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود ومأواهم جهنم أي : مصيرهم إليها ، يعني الكفار والمنافقين وبئس المصير أي المرجع الذي يرجعون إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      ضرب الله مثلا للذين كفروا قد تقدم غير مرة أن المثل قد يراد به إيراد حالة غريبة يعرف بها حالة أخرى مماثلة لها في الغرابة ، أي : جعل الله مثلا لحال هؤلاء الكفرة ، وأنه لا يغني أحد عن أحد امرأة نوح وامرأة لوط هذا هو المفعول الأول ، و " مثلا " المفعول الثاني حسب ما قدمنا تحقيقه ، وإنما أخر ليتصل به ما هو تفسير له وإيضاح لمعناه كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين وهما نوح ولوط ، أي : كانتا في عصمة نكاحهما فخانتاهما أي : فوقعت منهما الخيانة لهما .

                                                                                                                                                                                                                                      قال عكرمة ، والضحاك : بالكفر . وقيل : كانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون ، وكانت امرأة لوط تخبر قومه بأضيافه ، وقد وقع الإجماع على أنه ما زنت امرأة نبي قط .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : كانت خيانتهما النفاق .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : خانتاهما بالنميمة فلم يغنيا عنهما من الله شيئا أي : فلم ينفعهما نوح ولوط بسبب كونهما زوجتين لهما شيئا من النفع ولا دفعا عنهما من عذاب الله من كرامتهما على الله شيئا من الدفع وقيل ادخلا النار مع الداخلين أي : وقيل : لهما في الآخرة ، أو عند موتهما ادخلا النار مع الداخلين لها من أهل الكفر والمعاصي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال يحيى بن سلام : ضرب الله مثلا للذين كفروا يحذر به عائشة وحفصة من المخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين تظاهرتا عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وما أحسن من قال : فإن ذكر امرأتي النبيين بعد ذكر قصتهما ومظاهرتهما على رسول الله [ ص: 1509 ] صلى الله عليه وسلم يرشد أتم إرشاد ويلوح أبلغ تلويح إلى أن المراد تخويفهما مع سائر أمهات المؤمنين ، وبيان أنهما وإن كانتا تحت عصمة خير خلق الله وخاتم رسله ، فإن ذلك لا يغني عنهما من الله شيئا ، وقد عصمهما الله عن ذنب تلك المظاهرة بما وقع منهما من التوبة الصحيحة الخالصة .

                                                                                                                                                                                                                                      وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون الكلام في هذا كالكلام في المثل الذي قبله أي : جعل الله حال امرأة فرعون مثلا لحال المؤمنين ترغيبا لهم في الثبات على الطاعة والتمسك بالدين والصبر في الشدة ، وأن صولة الكفر لا تضرهم كما لم تضر امرأة فرعون ، وقد كانت تحت أكفر الكافرين وصارت بإيمانها بالله في جنات النعيم إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة الظرف متعلق بضرب أو بمثلا ، أي ابن لي بيتا قريبا من رحمتك ، أو في أعلى درجات المقربين منك ، أو في مكان لا يتصرف فيه إلا بإذنك وهو الجنة ونجني من فرعون وعمله أي : من ذاته وما يصدر عنه من أعمال الشر ونجني من القوم الظالمين قال الكلبي : هم أهل مصر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مقاتل : هم القبط .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحسن ، وابن كيسان : نجاها الله أكرم نجاة ورفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب .

                                                                                                                                                                                                                                      ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها معطوف على " امرأة فرعون " ، أي : وضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم ابنة عمران ، أي : حالها وصفتها ، وقيل : إن الناصب لمريم فعل مقدر ، أي : واذكر مريم ، والمقصود من ذكرها أن الله سبحانه جمع لها بين كرامة الدنيا والآخرة واصطفاها على نساء العالمين مع كونها بين قوم كافرين التي أحصنت فرجها أي : عن الفواحش ، وقد تقدم تفسير هذا في سورة النساء .

                                                                                                                                                                                                                                      قال المفسرون : المراد بالفرج هنا الجيب لقوله : فنفخنا فيه من روحنا وذلك أن جبريل نفخ في جيب درعها فحبلت بعيسى وصدقت بكلمات ربها يعني : شرائعه التي شرعها لعباده ، وقيل : المراد بالكلمات هنا هو قول جبريل لها إنما أنا رسول ربك [ مريم : 19 ] الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مقاتل : يعني بالكلمات عيسى .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور وصدقت بالتشديد ، وقرأ حمزة الأموي ، ويعقوب ، وقتادة ، وأبو مجلز ، وعاصم في رواية عنه بالتخفيف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجمهور بكلمات بالجمع ، وقرأ الحسن ، ومجاهد ، والجحدري " بكلمة " بالإفراد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجمهور " وكتابه " بالإفراد ، وقرأ أهل البصرة وحفص وكتبه بالجمع ، والمراد على قراءة الجمهور الجنس ، فيكون في معنى الجمع ، وهي الكتب المنزلة على الأنبياء وكانت من القانتين قال قتادة : من القوم المطيعين لربهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال عطاء : من المصلين ، كانت تصلي بين المغرب والعشاء ، ويجوز أن يراد بالقانتين رهطها وعشيرتها الذين كانت منهم ، وكانوا مطيعين ، أهل بيت صلاح وطاعة ، وقال : من القانتين ولم يقل من القانتات لتغليب الذكور على الإناث .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله : فخانتاهما قال : ما زنتا ، أما خيانة امرأة نوح فكانت تقول للناس : إنه مجنون ، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل على الضيف فتلك خيانتهما .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عنه ، قال : ما بغت امرأة نبي قط ، وقد رواه ابن عساكر مرفوعا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن سلمان قال : كانت امرأة فرعون تعذب بالشمس ، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها ، وكانت ترى بيتها في الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة : أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد وأضجعها على صدرها وجعل على صدرها رحى واستقبل بها عين الشمس ، فرفعت رأسها إلى السماء ، ف قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة إلى قوله : من القوم الظالمين ففرج الله لها عن بيتها في الجنة فرأته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : 32 أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قص الله علينا من خبرها في القرآن قالت رب ابن لي عندك بيتا الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كمل من الرجال كثير ، و لم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج وكيع في الغرر عن ابن عباس في قوله : ونجني من فرعون وعمله قال : من جماعته .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية