الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر مقتل قتيبة

قيل : وفي هذه السنة قتل قتيبة بن مسلم الباهلي بخراسان .

وكان سبب قتله أن الوليد بن عبد الملك أراد أن ينزع أخاه سليمان من ولاية العهد ، ويجعل [ بدله ] ابنه عبد العزيز ، فأجابه إلى ذلك الحجاج وقتيبة على ما تقدم . فلما مات الوليد وولي سليمان خافه قتيبة ، وخاف أن يولي سليمان يزيد بن المهلب خراسان ، فكتب قتيبة إلى سليمان كتابا يهنئه بالخلافة ويذكر بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد ، وأنه له مثل ذلك إن لم يعزله عن خراسان ، وكتب إليه كتابا آخر يعلمه فيه فتوحه ونكايته ، وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته في صدورهم ، وعظم صولته فيهم ، ويذم أهل المهلب ، ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنه . وكتب كتابا ثالثا فيه خلعه ، وبعث الكتب مع رجل من باهلة ، فقال له : ادفع الكتاب الأول إليه ، فإن كان يزيد حاضرا فقرأه ثم ألقاه إلى يزيد فادفع إليه هذا الثاني ، فإن قرأه ودفعه إلى يزيد ، فادفع إليه هذا الثالث ، فإن قرأ الكتاب الأول ولم يدفعه إلى يزيد فاحبس الكتابين الآخرين .

فقدم رسول قتيبة على سليمان وعنده يزيد بن المهلب ، فدفع إليه الكتاب ، فقرأه وألقاه إلى يزيد ، فدفع إليه الكتاب الآخر ، فقرأه ، وألقاه إلى يزيد ، فأعطاه الكتاب الثالث ، فقرأه ، فتغير لونه وختمه وأمسكه بيده .

وقيل : كان في الكتاب الثالث : لئن لم تقرني على ما كنت عليه وتؤمنني لأخلعنك ، ولأملأنها عليك رجالا وخيلا .

[ ص: 73 ] ثم أمر سليمان برسول قتيبة فأنزل ، فأحضره ليلا فأعطاه دنانير جائزته ، وأعطاه عهد قتيبة على خراسان ، وسير معه رسولا بذلك ، فلما كانا بحلوان بلغهما خلع قتيبة ، فرجع رسول سليمان .

وكان قتيبة لما هم بخلع سليمان استشار إخوته ، فقال له أخوه عبد الرحمن : اقطع بعثا فوجه فيه كل من تخافه ، ووجه قوما إلى مرو ، وسر حتى تنزل سمرقند ، وقل لمن معك : من أحب المقام فله المواساة ، ومن أراد الانصراف فغير مستكره ، فلا يقيم عندك إلا مناصح ، ولا يختلف عليك أحد .

وقال له أخوه عبد الله : اخلعه مكانك ، فلا يختلف عليك رجلان . فخلع سليمان مكانه ، ودعا الناس إلى خلعه ، وذكر أثره فيهم وسوء أثر من تقدمه ، فلم يجبه أحد ، فغضب وقال : لا أعز الله من نصرتم ! ثم والله اجتمعتم على عنز ما كسرتم قرنها ! يا أهل السافلة ، ولا أقول يا أهل العالية ، أوباش الصدقة ( جمعتكم كما تجمع إبل الصدقة ) من كل أوب ! يا معشر بكر بن وائل ! يا أهل النفخ والكذب والبخل ! بأي يوميكم تفخرون ؟ بيوم حربكم ، أو بيوم سلمكم ! يا أصحاب مسيلمة ! يا بني ذميم ، ولا أقول تميم ! يا أهل الجور والقصف ، كنتم تسمون الغدر في الجاهلية كيسان ! يا أصحاب سجاح ! يا معشر عبد القيس القساة ، تبدلتم بتأبير النخل أعنة الخيل ! يا معشر الأزد تبدلتم بقلوس السفن أعنة الخيل ! إن هذا بدعة في الإسلام ، الأعراب وما الأعراب ! لعنة الله عليهم ! يا كناسة المصرين ، جمعتكم من منابت الشيح والقيصوم ، تركبون البقر والحمر ، فلما جمعتكم قلتم كيت وكيت ! أما والله إني لابن أبيه وأخو [ ص: 74 ] أخيه ! والله لأعصبنكم عصب السلمة ! إن حول الصليان لزمزمة ! يا أهل خراسان أتدرون من وليكم ؟ [ وليكم ] يزيد بن ثروان . كأني بأمير جاءكم فغلبكم على فيئكم وظلالكم ! ارموا غرضكم القصي ! حتى متى يتبطح أهل الشام بأفنيتكم ! يا أهل خراسان انسبوني تجدوني عراقي الأم والمولد والرأي والهوى والدين ، وقد أصبحتم فيما ترون من الأمن والعافية ! قد فتح الله لكم البلاد وآمن سبلكم ، فالظعينة تخرج من مرو إلى بلخ بغير جواز ، فاحمدوا الله على العافية واسألوه الشكر والمزيد .

ثم نزل فدخل بيته ، فأتاه أهله وقالوا : ما رأيناك كاليوم قط ، ولاموه . فقال : لما تكلمت فلم يجبني أحد غضبت فلم أدر ما قلت . وغضب الناس ، وكرهوا خلع سليمان ، فأجمعوا على خلع قتيبة وخلافه ، وكان أول من تكلم الأزد ، فأتوا حضين بن المنذر ( بضاد معجمة ) ، فقالوا : إن هذا قد دعا إلى خلع الخليفة ، وفيه فساد الدين والدنيا وقد شتمنا ، فما ترى ؟ فقال : إن مضر بخراسان كثيرة ، وتميم أكثرها ، وهم فرسان خراسان ، ولا يرضون أن يصير الأمر في غير مضر ، فإن أخرجتموهم منه أعانوا قتيبة . فأجابوه إلى ذلك وقالوا : من ترى من تميم ؟ قال : لا أرى غير وكيع . فقال حيان النبطي مولى بني شيبان : إن أحدا لا يتولى هذا غير وكيع ، فيصلى بحره ، ويبذل دمه ، ويتعرض للقتل ، فإن قدم أمير أخذه بما جنى ، فإنه لا ينظر في عاقبة ، وله عشيرة تطيعه ، وهو موتور يطلب قتيبة برياسته التي صرفها عنه ، وصيرها لضرار بن حصين الضبي ، فمشى الناس بعضهم إلى بعض سرا .

وقيل لقتيبة : ليس يفسد أمر الناس إلا حيان ، فأراد أن يغتاله ، وكان حيان يلاطف [ ص: 75 ] خدم الولاة ، فدعا قتيبة رجلا فأمره بقتل حيان ، وسمع بعض الخدم فأتى حيان فأخبره ، فلما جاء رسوله يدعوه تمارض . وأتى الناس وكيعا وسألوه أن يلي أمرهم ، ففعل .

وبخراسان يومئذ من أهل البصرة والعالية من المقاتلة تسعة آلاف ، ومن بكر سبعة آلاف ، ورئيسهم حضين بن المنذر ، ومن تميم عشرة آلاف ، وعليهم ضرار بن حصين ، وعبد القيس أربعة آلاف ، وعليهم عبد الله بن علوان ، والأزد عشرة آلاف ، وعليهم عبد الله بن حوذان ، ومن أهل الكوفة سبعة آلاف ، وعليهم جهم بن زحر ، والموالي سبعة آلاف ، عليهم حيان ، وهو من الديلم ، وقيل : من خراسان ، وإنما قيل له نبطي للكنته .

فأرسل حيان إلى وكيع : إن أنا كففت عنك وأعنتك أتجعل لي الجانب الشرقي من نهر بلخ [ و ] خراجه ما دمت حيا ، وما دمت أميرا ؟ قال : نعم . فقال حيان للعجم : هؤلاء يقاتلون على غير دين ، فدعوهم يقتل بعضهم بعضا . ففعلوا فبايعوا وكيعا سرا .

وقيل لقتيبة : إن الناس يبايعون وكيعا . فدس ضرار بن سنان الضبي إلى وكيع ، فبايعه سرا ، فظهر لقتيبة أمره ، فأرسل يدعوه ، فوجده قد طلى رجليه بمغرة ، وعلق على رأسه حرزا ، وعنده رجلان يرقيان رجله ، فقال للرسول : قد ترى ما برجلي . فرجع فأخبر قتيبة ، فأعاده إليه يقول له : لتأتيني محمولا . قال : لا أستطيع . فقال قتيبة لصاحب شرطته : انطلق إلى وكيع فأتني به ، فإن أبى فاضرب عنقه ، ووجه معه خيلا ، وقيل : أرسل إليه شعبة بن ظهير التميمي ، فقال له وكيع : يا ابن ظهير ، البث قليلا تلحق الكتائب . ولبس سلاحه ونادى في الناس ، فأتوه ، وركب فرسه وخرج ، فتلقاه رجل ، فقال : ممن أنت ؟ قال : من بني أسد . قال : ما اسمك ؟ قال : ضرغامة . قال : ابن من ؟ قال : ابن ليث ، فأعطاه رايته ، وقيل كانت مع عقبة بن شهاب المازني . وأتاه الناس أرسالا من كل وجه ، ، فتقدم بهم وهو يقول :

قرم إذا حمل مكروهة شد الشراسيف لها والحزيم واجتمع إلى قتيبة أهل بيته وخواص أصحابه وثقاته ، منهم إياس بن بيهس بن [ ص: 76 ] عمرو ، وهو ابن عم قتيبة ، فأمر قتيبة رجلا فنادى : أين بنو عامر ؟ فقال له محقر بن جزء العلائي ، وهو قيسي أيضا ، وكان قتيبة قد جفاهم : نادهم حيث وضعتهم . قال قتيبة : ناد : أذكركم الله والرحم . قال محقر : أنت قطعتها . قال : ناد : لكم العتبى . قال محقر : لا أقالنا الله إذن ، فقال قتيبة عند ذلك :


يا نفس صبرا على ما كان من ألم إذ لم أجد لفضول العيش أقرانا

ودعا ببرذون له مدرب ليركبه ، فجعل يمنعه حتى أعيا . فلما رأى ذلك عاد إلى سريره فجلس عليه وقال : دعوه ، إن هذا أمر يراد . وجاء حيان النبطي في العجم وقتيبة واجد عليه ، فقال عبد الله أخو قتيبة لحيان : احمل عليهم ، فقال حيان : لم يأن بعد . فقال عبد الله : ناولني قوسي . فقال حيان : ليس هذا بيوم قوس . وقال حيان لابنه : إذا رأيتني قد حولت قلنسوتي ومضيت نحو عسكر وكيع ، فمل بمن معك من العجم إلي .

فلما حول حيان قلنسوته مالت الأعاجم إلى عسكر وكيع وكبروا . فبعث قتيبة أخاه صالحا إلى الناس ، فرماه رجل من بني ضبة ، وقيل : من بلعم ، فأصاب رأسه ، فحمل إلى قتيبة ورأسه مائل ، فوضع في مصلاه ، وجلس قتيبة عنده ساعة .

وتهايج الناس ، وأقبل عبد الرحمن أخو قتيبة نحوهم ، فرماه أهل السوق والغوغاء فقتلوه ، وأحرق الناس موضعا كانت فيه إبل لقتيبة ودوابه ، ودنوا منه . فقاتل عنه رجل من باهلة ، فقال له قتيبة : انج بنفسك . فقال : بئس ما جزيتك إذا ، وقد أطعمتني الجردق ، وألبستني النرمق . وجاء الناس حتى بلغوا فسطاطه فقطعوا أطنابه ، وجرح قتيبة جراحات كثيرة ، فقال جهم بن زحر بن قيس لسعد : انزل فخذ رأسه ، فنزل سعد فشق الفسطاط ، واحتز رأسه ، وقتل معه من أهل إخوته : عبد الرحمن ، وعبد الله ، وصالح ، وحصين ، [ ص: 77 ] وعبد الكريم ، ومسلم ، وقتل كثير ابنه ، وقيل : قتل عبد الكريم بقزوين .

وكان عدة من قتل مع قتيبة من أهل بيته أحد عشر رجلا ، ونجا عمر بن مسلم أخو قتيبة ، نجاه أخواله . وكانت أمه الغبراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة القيسية . فلما قتل قتيبة صعد وكيع المنبر ، فقال : مثلي ومثل قتيبة كما قال الأول :


من ينك العير ينك نياكا



أراد قتيبة قتلي وأنا قتال


قد جربوني ثم جربوني     من غلوتين ومن المئين
حتى إذا شبت وشيبوني     خلوا عناني وتنكبوني

أنا أبو مطرف ! ثم قال :


أنا ابن خندف تنميني قبائلها     بالصالحات وعمي قيس عيلانا

ثم أخذ بلحيته فقال :


شيخ إذا حمل مكروهة     شد الشراسيف لها والحزيم

والله لأقتلن ثم لأقتلن ! ولأصلبن ثم لأصلبن ! إن مرزبانكم هذا ابن الزانية قد أغلى أسعاركم ! والله ليصيرن القفيز بأربعة دراهم أو لأصلبنه ! صلوا على نبيكم . ثم نزل ، وطلب وكيع رأس قتيبة وخاتمه ، فقيل له : إن الأزد أخذته . فخرج وكيع مشهرا وقال : والله الذي لا إله إلا هو ، لا أبرح حتى أوتى بالرأس ، أو يذهب رأسي معه . فقال له حضين : اسكن يا أبا مطرف فإنك تؤتى به . وذهب حضين إلى الأزد ، وهو سيدهم ، فأمرهم بتسليم الرأس إلى وكيع ، فسلموه إليه ، فسيره إلى سليمان مع نفر ليس فيهم تميمي ، ووفى وكيع لحيان النبطي بما كان ضمن له .

فلما أتي سليمان برأس قتيبة ورءوس أهله كان عنده الهذيل بن زفر بن الحارث ، [ ص: 78 ] فقال له : هل ساءك هذا يا هذيل ؟ فقال : لو ساءني لساء قوما كثيرا . فقال سليمان : ما أردت هذا كله . وإنما قال سليمان هذا للهذيل ; لأنه هو وقتيبة من قيس عيلان ، ثم أمر بالرءوس فدفنت ، ولما قتل قتيبة قال رجل من أهل خراسان : يا معشر العرب قتلتم قتيبة ، والله لو كان منا فمات لجعلناه في تابوت ، فكنا نستسقي به ونستفتح به إذا غزونا ، وما صنع أحد بخراسان قط ما صنع قتيبة ، إلا أنه غدر ، وذلك أن الحجاج كتب إليه : أن اختلهم واقتلهم لله .

وقال الإصبهبذ : قتلتم قتيبة ويزيد بن المهلب وهما سيدا العرب . قيل له أيهما كان أعظم عندكم وأهيب ؟ قال : لو كان قتيبة بأقصى جحر في الغرب مكبلا ويزيد معنا في بلادنا وال علينا ، لكان قتيبة أهيب في صدورنا وأعظم من يزيد . وقال الفرزدق في ذلك :


أتاني ورحلي في المدينة وقعة     لآل تميم أقعدت كل قائم

وقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلي يرثي قتيبة :


كأن أبا حفص قتيبة لم يسر     بجيش إلى جيش ولم يعل منبرا
ولم تخفق الرايات والجيش حوله     وقوف ولم يشهد له الناس عسكرا
دعته المنايا فاستجاب لربه     وراح إلى الجنات عفا مطهرا
فما رزئ الإسلام بعد محمد     بمثل أبي حفص فبكيه عبهرا

وعبهر : أم ولد له . قيل : وقال شيوخ من غسان : كنا بثنية العقاب ، إذا نحن برجل معه عصا وجراب ، قلنا : من أين أقبلت ؟ قال : من خراسان . قلنا : هل كان بها من خبر ؟ قال : نعم ، قتل بها قتيبة بن مسلم أمس . فعجبنا لقوله ، فلما رأى إنكارنا قال : أين [ ص: 79 ] يروني الليلة من إفريقية ؟ وتركنا ومضى ، فاتبعناه على خيولنا ، فإذا هو يسبق الطرف .

التالي السابق


الخدمات العلمية