الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه الرابع : أن يقال : لم لا يجوز أن يكون بعض تلك الأجزاء واجبا وبعضها ممكنا ؟

قوله: "الموقوف على الممكن أولى بالإمكان" .

قيل : متى إذا كان الجزء الممكن من مقتضيات الجزء الواجب أو بالعكس . وهذا كما أن مجموع الوجود : بعضه واجب لنفسه ، وبعضه ممكن . والممكن منه من مفعولات الواجب لنفسه ، ولا يلزم من ذلك أن يكون مجموع الموجودات أولى بالإمكان من الموجودات الممكنة .

وهذا الجواب يقوله من يقوله في مواضع: أحدها في الذات مع الصفات .

فإذا قيل له : الذات والصفات مجموع مركب من أجزاء ، فإما أن تكون واجبة كلها ، أو بعضها واجب وبعضها ممكن -أمكنه أن يقول : الذات واجبة ، والصفات ممكنة بنفسها، وهي واجبة بالذات ، كما يجيب بمثل ذلك طائفة من الناس . [ ص: 263 ]

فإذا قيل : المجموع متوقف على الممكن .

قال : إن ذلك الممكن من مقتضيات الواجب بنفسه .

وهذا يقوله هؤلاء إذا فسر إمكان الصفات بأنها تفتقر إلى محل . فالذات لا تفتقر إلى محل ، فالذات لا تفتقر إلى فاعل ولا محل ، والصفات لا بد لها من محل . وإن فسر الواجب بما لا يفتقر إلى موجب فالصفات أيضا لا تفتقر إلى موجب . لكنه قد يسلم لهم هؤلاء أن الصفات لها موجب ، وهو الذات .

وقولهم : "إن الشيء الواحد لا يكون فاعلا وقابلا" من أفسد الكلام ، كما قد بسط في موضعه. فيقول هؤلاء: الذات موجبة للصفات ومحل لها ، والذات واجبة بنفسها ، والصفات واجبة بها ، والمجموع واجب ، وإن توقف على الممكن بنفسه الواجب بغيره ، لأن الواجب بنفسه مستلزم للصفات ، ولاجتماع المجموع .

وأيضا فيقوله من يقول : إنه يقوم بذاته أمور متعلقة بمشيئته وقدرته ، فإن تلك [أيضا] ممكنة بنفسها ، وقد تدخل في مسمى أسمائه .

ففي الجملة ليس معهم حجة تمنع كون الجموع فيه ما هو واجب موجب لغيره .

وإذا قيل : المحتاج إلى الغير أولى بالاحتياج . [ ص: 264 ]

قيل : هب أن الأمر كذلك ، لكن إذا كان الغير من لوازم الجزء الواجب بنفسه ، كان المجموع من لوازم الجزء بنفسه ، وحاصله أن في الأمور المجتمعة ما هو مستلزم لسائرها .

وإذا قيل : فحينئذ لا يكون الواجب بنفسه إلا ذلك الملزوم .

قيل : هذا نزاع لفظي ، فإن الممكنات لا بد لها من فاعل غني عن الفاعل ، والدليل دل على هذا ، وليس فيما ذكرتموه ما ينفي أن تكون ذاته مستلزمة لأمور لازمة له ، واسمه يتناول الملزوم واللازم جميعا ، وإن سمي الملزوم واجبا بنفسه ، واللازم واجبا بغيره ، كما قاله من قاله في الذات والصفات .

فيقول المنازع له: فهذه مجموع الأدلة التي ذكرها هو وغيره على نفي كون الواجب بنفسه جسما أو جوهرا ، قد تبين أنه لا دلالة في شيء منها ، بل هي على نقيض مطلوبهم أدل منها على المطلوب .

وهذا ذكرناه لما أحال عليه قوله : "إن الحروف إذا قام كل منها بمحل غير [محل] الآخر يلزم التركيب" وقد أبطلناه في إبطال التجسيم .

ثم قال: "الوجه الثاني : أنه قال: ليس اختصاص بعض الأجزاء ببعض الحروف دون البعض أولى من العكس" . [ ص: 265 ]

ولقائل أن يقول: هذا الوجه في غاية الضعف ، وذلك أنه إذا كانت الحروف مقدورة له ، حادثة بمشيئته ، كما ذكرته عن منازعيك، فتخصيص كل منها بمحله ، كتخصيص جميع الحوادث بما اختصت به من الصفات والمقادير والأمكنة والأزمنة .

وهذا إما أن يرد إلى محض المشيئة، وإما إلى حكمة جلية أو خفية. وقد تنازع الناس في الحروف التي في كلام الآدميين: هل بينها وبين المعاني مناسبة تقتضي الاختصاص ؟ على قولين مشهورين . وأما اختصاصها بمحالها في حق الآدميين بسبب يقتضي الاختصاص ، فهذا لا نزاع فيه . فعلم أن الاختصاص منه بالمحل أولى منه بالمعنى .

وأما قوله : "إن قالوا باجتماع الحروف بذاته مع اتحاد الذات ، فيلزم منه اجتماع المتضادات في شيء واحد" فهذا قد تقدم أن للناس فيه قولين ، وأن القائلين باجتماع ذلك: إن كان قولهم فاسدا، فقول من يقول باجتماع المعاني المتعاقبة ، وأنها شيء واحد، وأن الصفات المتنوعة شيء واحد أعظم فسادا .

وأما قوله : "وإن لم يقولوا باجتماع حروف القول في ذاته، فيلزم منه مناقضة أصلهم في أن ما اتصف به الرب يستحيل عروه عنه" فكلام صحيح . ولكن تناقضهم لا يستلزم صحة قول منازعيهم إذا كان ثم قول ثالث، وهذا اللازم فيه نزاع معروف ، وقد حكي النزاع عنهم أنفسهم . [ ص: 266 ]

فمن قال: إن ما اتصف به من الأصوات والأفعال ونحو ذلك يجوز عروه ، لم يكن مناقضا .

والذين قالوا منهم: إنه لا يجوز عروه عما اتصف به ، عمدتهم أنه لو جاز عروه عنه لم يمكن ذلك إلا بحدوث ضد ، ثم ذلك الضد الحادث لا يزول إلا بضد حادث، فيلزم تسلسل الحوادث بذاته . وهذا يجيب عنه بعضهم بأنه يجوز عدمه بدون حدوث ضد ، ويجيب عنه بعضهم بالتزام التسلسل في مثل ذلك في المستقبل .

التالي السابق


الخدمات العلمية