الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  173 39 - حدثني حفص بن عمر ، قال: حدثنا شعبة ، عن ابن أبي السفر ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم ، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا أرسلت كلبك المعلم فقتل فكل، وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسكه على نفسه قلت: أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال: فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب آخر.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  أخرج البخاري هذا الحديث ليستدل به لمذهبه في طهارة سؤر الكلب، وهو مطابق لقوله: وسؤر الكلب في أول الباب.

                                                                                                                                                                                  ( بيان رجاله ) وهم خمسة: الأول حفص بن عمر، الثاني شعبة بن الحجاج، الثالث ابن أبي السفر بفتح السين المهملة وفتح الفاء اسمه عبد الله، وأبو السفر اسمه سعيد بن محمد، ويقال: أحمد الهمداني الكوفي، الرابع الشعبي واسمه عامر كلهم ذكروا.

                                                                                                                                                                                  الخامس عدي بن حاتم بن عبد الله الطائي أبو طريف بفتح الطاء الجواد بن الجواد، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في سنة سبع، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة وستون حديثا، ذكر البخاري ومسلم منها ثلاثة، وانفرد مسلم بحديثين نزل الكوفة، ومات بها زمن المختار وهو ابن عشرين ومائة سنة، ويقال: مات بقرقيسيا، وكان أعور. وقال أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين قالوا: عاش عدي بن حاتم مائة وثمانين سنة.

                                                                                                                                                                                  ( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة، ومنها أن رواته ما بين بصري وكوفي، ومنها أن كلهم أئمة أجلاء .

                                                                                                                                                                                  ( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في البيوع والصيد والذبائح، وأخرجه مسلم في الصيد عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأخرجه أبو داود فيه عن هناد بن السري، وأخرجه ابن ماجه فيه عن علي بن المنذر.

                                                                                                                                                                                  ( بيان الإعراب والمعنى ) قوله: قال أي عدي، قوله: سألت النبي صلى الله عليه وسلم جملة من الفعل والفاعل والمفعول، ذكر المسئول عنه ولم يذكر المسئول واكتفى بالجواب; لأنه كان يحتمل أن يكون علم أصل الإباحة، ولكنه حصل عنده شك في بعض أمور الصيد فاكتفى بالجواب، والتقدير سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم صيد الكلاب، وقد صرح البخاري به في روايته الأخرى في كتاب الصيد، ويحتمل أن يكون قام عنده مانع من الإباحة التي علم أصلها.

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم: حذف لفظ السؤال اكتفاء بدلالة الجواب، قلت: المحذوف ليس لفظ السؤال وإنما المحذوف لفظ المسئول كما قلنا. قوله: قال فقال فاعل قال الأولى هو عدي، وفاعل فقال هو النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "كلبك المعلم" قال الكرماني : المعلم هو الذي ينزجر بالزجر ويسترسل بالإرسال، ولا يأكل من الصيد لا مرة بل مرارا. قلت: كون الكلب معلما مفوض إلى رأي المعلم عند أبي حنيفة ; لأنه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، وعند أبي يوسف ومحمد بترك أكله ثلاث مرات، وعند الشافعي بالعرف، وعند مالك بالانزجار، وأما اشتراط التعلم فلقوله تعالى: وما علمتم من الجوارح

                                                                                                                                                                                  قوله: فقتل أي فقتل الكلب الصيد، وطوى ذكر المفعول للعلم به. قوله: "فلا تأكل" أي الصيد الذي أكل منه الكلب وعلل بقوله: فإنما أمسكه على نفسه والفاء فيه للتعليل. قوله: قلت قائله عدي هو سؤال آخر.

                                                                                                                                                                                  ( بيان استنباط الأحكام ) الأول أن البخاري احتج به لمذهبه في طهارة سؤر الكلب، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام أذن لعدي رضي الله عنه في أكل ما صاده الكلب، ولم يقيد ذلك بغسل موضع فمه، ومن ثم قال مالك : كيف يؤكل صيده ويكون لعابه نجسا، وأجاب الإسماعيلي بأن الحديث سيق لتعريف أن قتله ذكاته، وليس فيه إثبات نجاسته ولا نفيها، ولذلك لم يقل له: اغسل الدم إذا خرج من جرح نابه، وفيه نظر لأنه يحتمل أن يكون وكل إليه ذلك كما تقرر عنده من وجوب غسل [ ص: 46 ] الدم ويدفع ذلك بأن المقام مقام التعريف، ولو كان ذلك واجبا لبينه عليه الصلاة والسلام، وقال الكرماني : وجه ارتباط هذا الحديث بالترجمة على ما في بعض النسخ من لفظ "وأكلها" بعد لفظ المسجد كما ذكر مالك عند قوله: وسؤر الكلاب وممرها في المسجد .

                                                                                                                                                                                  الثاني: أن في إطلاق الكلب دلالة لإباحة صيد جميع الكلاب المعلمة من الأسود وغيرها، وقال أحمد : لا يحل صيد الكلب الأسود لأنه شيطان، وإطلاق الحديث حجة عليه.

                                                                                                                                                                                  الثالث: أن التسمية شرط لقوله عليه الصلاة والسلام: فإنما سميت على كلبك أي: ذكرت اسم الله تعالى على كلبك عند إرساله، وعلم من ذلك أنه لا بد من شروط أربعة حتى يحل الصيد: الأول الإرسال، والثاني كونه معلما، والثالث الإمساك على صاحبه بأن لا يأكل منه، والرابع أن يذكر اسم الله عليه عند الإرسال.

                                                                                                                                                                                  واختلف العلماء في التسمية فذهب الشافعي إلى أنها سنة، فلو تركها عمدا أو سهوا يحل الصيد والحديث حجة عليه، وقالت الظاهرية: التسمية واجبة، فلو تركها سهوا أو عمدا لم يحل، وقال أبو حنيفة : لو تركها عمدا لم يحل ولو تركها سهوا يحل، وسيجيء مزيد الكلام فيه في كتاب الذبائح.

                                                                                                                                                                                  الرابع فيه إباحة الاصطياد للاكتساب والحاجة والانتفاع به بالأكل وغيره ودفع الشر والضرر، واختلفوا فيمن صاد للهو والتنزه، فأباحه بعضهم وحرمه الأكثرون. وقال مالك : إن فعله ليذكيه فمكروه، وإن فعله من غير نية التذكية فحرام لأنه فساد في الأرض وإتلاف نفس .

                                                                                                                                                                                  الخامس: فيه التصريح بمنع أكل ما أكل منه الكلب.

                                                                                                                                                                                  السادس فيه أن مقتضى الحديث عدم الفرق بين كون المعلم بكسر اللام ممن تحل ذكاته أو لا، وذكر ابن حزم في المحلى عن قوم اشتراط كونه ممن تحل ذكاته، وقال قوم: لا يحل صيد جارح علمه من لا يحل أكل ما ذكاه، وروي في ذلك آثار منها عن يحيى بن عاصم، عن علي رضي الله تعالى عنه أنه كره صيد باز المجوسي وصقره، ومنها عن ابن الزبير، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: لا يؤكل صيد المجوسي ولا ما أصابه سهمه، ومنها عن خصيف قال: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا تأكل ما صيد بكلب المجوسي، وإن سميت فإنه من تعليم المجوسي، قال تعالى: تعلمونهن مما علمكم الله وجاء هذا القول عن عطاء ومجاهد والنخعي ومحمد بن علي وهو قول سفيان الثوري .

                                                                                                                                                                                  السابع فيه أن الإرسال شرط حتى لو استرسل بنفسه يمنع من أكل صيده، وقالت الشافعية: ولو أرسل كلبا حيث لا صيد فاعترضه صيد فأخذه لم يحل على المشهور عندنا وقيل: يحل ، ثم اعلم أن الصيد حقيقة في المتوحش، فلو استأنس ففيه خلاف العلماء على ما يأتي في كتاب الصيد إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  الثامن الحديث صريح في منع ما أكل منه الكلب، وفي حديث أبي ثعلبة الخشني في سنن أبي داود بإسناد حسن: كله وإن أكل منه الكلب . قلت: التوفيق بين الحديث بأن يجعل حديث أبي ثعلبة أصلا في الإباحة، وأن يكون النهي في حديث عدي بن حاتم على معنى التنزيه دون التحريم قاله الخطابي وقال أيضا: ويحتمل أن يكون الأصل في ذلك حديث عدي، ويكون النهي عن التحريم الثابت فيكون المراد بقوله: وإن أكل منه الكلب فيما مضى من الزمان، وتقدم منه لا في هذه الحالة، وذلك لأن من الفقهاء من ذهب إلى أنه إذا أكل الكلب المعلم من الصيد مرة بعد أن كان لا يأكل فإنه يحرم كل صيد كان قد اصطاده فكأنه قال: كل منه، وإن كان قد أكل فيما تقدم إذا لم يكن قد أكل منه في هذه الحالة قلت: هذا الذي ذكره هو قول أبي حنيفة، وأول بهذا التأويل ليكون الحديث حجة عليه، وليس الأمر كذلك فإن في الصحيحين: "إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله تعالى فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل; فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه".




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية