الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 432 ] بيان معنى الإسراف وقال تعالى: ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين [الأعراف: 31]. قال: في فتح البيان" : أصل الإسراف في اللغة: الخطأ، والإسراف في النفقة: التبذير.

وقال سفيان: ما أنفقت في غير طاعة الله، فهو سرف، وإن كان قليلا. قال السدي: معناه: لا تعطوا أموالكم، وتقعدوا فقراء.

قال الزجاج: وعلى هذا، لو أعطى الإنسان كل ماله، ولم يوصل إلى عياله شيئا، فقد أسرف; لأنه قد صح الحديث: "ابدأ بمن تعول" .

وقال سعيد بن المسيب: معناه: لا تمنعوا الصدقة.

أي: لا تجاوزوا الحد في البخل، والإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة.

وعلى هذين القولين، المراد بالإسراف: مجاوزة الحد، إلا أن الأول في البذل والإعطاء والثاني في الإمساك والبخل.

وقال مقاتل: معناه: لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام. وقال الزهري: لا تنفقوا في معصية الله. وقال ابن زيد: هو خطاب للولاة، يقول لهم: لا تأخذوا فوق حقكم من رب المال.

وقيل: المعنى: لا تأخذوا الشيء بغير حقه، وتضعونه في غير مستحقه.

وفي الآية زجر عن الإسراف في كل شيء، ووعيد شديد عليه; لأن من لا يحبه الله، فهو من أهل النار.

وعن ابن جرير، قال: نزلت في ثابت بن قيس، جد نخلا، فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته، فأطعم حتى أمسى، وليس له تمرة، فأنزل الله هذه الآية.

[ ص: 433 ] وعن مجاهد، قال: لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهبا في طاعة الله، لم يكن إسرافا، ولو أنفقت صاعا في معصية الله، كان إسرافا.

وللسلف في هذا مقالات طويلة. انتهى ما في "الفتح" .

قلت: وإذا تأملت في صنائع أهل الدولة، وأصحاب الثروة والرفاهية; من الملوك والأمراء والولاة ونحوهم، وجدت أكثرهم مسرفين، لا يبذلون أموالهم إلا في معاصي الله; من إحداث العمائر المرتفعة، وجمع الملابس الفاخرة، وتزويج المناكح المتجاوزة عن الحد، وتزيين الأفراس، والأفيال، والبغال بالحلي، وتربية الطيور والسباع والدواب، وتجهيز العساكر للموكب لا لغرض شرعي، وتكثير الحدائق، وإقراء الخلق رياء وسمعة وشهرة ورفعة للاسم، وكل ذلك سرف لا خير فيه.

ومنهم من يصرف في الخير، لكن على ما دعته إليه نفسه، لا على الوجه الواجب والطريق المأثور، ومن يرزق النمل، ويوكل الفساق والكلاب والسنور ونحوها، ويربي الأجانب، ويحرم الأقارب.

ومنهم من يصرف في الأعراس وشرب الخمور، ويبقى صفر اليدين.

ومنهم من يذهب ماله في شغل الرقص والأطراب، وسماع الملاهي والمعازف وسفاح المومسات، إلى غير ذلك من المنكرات التي يعرفها كل ذي بصيرة، بل ذي بصر، ولا يأتي عليه الحصر.

والحاصل: أن كل نفقة ليست على أساس الملة الحقة، أو لم يأذن بها الله ورسوله، ولم يرد بها دليل، فهو السرف.

[ ص: 434 ] وما كان منها في طاعة الله على الوجه المأمور به، أو فيما أباحه الشرع، وجوزه الإسلام، فهو خارج عن السرف.

ولكن أين مثل هؤلاء في هذا الزمان، وقد فسد الحال، وظهرت الفتن في جميع الأجيال والأقيال، وعاد الإسلام غريبا، وصار الطبيب مريضا، وأنكر كل معروف، وعرف كل منكر ؟!!فإنا لله وإنا إليه راجعون.

التالي السابق


الخدمات العلمية