الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي ، رحمه الله تعالى : " ولو ركع مع الإمام ثم زحم فلم يقدر على السجود حتى قضى الإمام سجوده تبع الإمام إذا قام واعتد بها ، فإن كان ذلك في الأولى فلم يمكنه السجود حتى يركع الإمام في الثانية لم يكن له أن يسجد للركعة الأولى إلا أن يخرج من إمامته لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إنما سجدوا للعذر قبل ركوع الثانية فيركع معه في الثانية وتسقط الأخرى ، وقال في الإملاء : فيها قولان : أحدهما لا يتبعه ولو ركع حتى يفرغ مما بقي عليه والقول الثاني : إن قضى ما فات لم يعتد به وتبعه فيما سواه . ( قال المزني ) : قلت أنا : الأول عندي أشبه بقوله قياسا على أن السجود إنما يحسب له إذا جاء والإمام يصلي بإدراك الركوع ويسقط بسقوط إدراك الركوع ، وقد قال إن سها عن ركعة ركع الثانية معه ثم قضى التي سها عنها وفي هذا من قوله لأحد قوليه دليل وبالله التوفيق " .

                                                                                                                                            [ ص: 416 ] قال الماوردي : صورة المسألة : في رجل أحرم مع الإمام بصلاة الجمعة ، وركع بركوعه ، ثم زحم عن السجود معه ، فله حالان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يمكنه السجود على ظهر إنسان ، فيلزمه السجود عليه ، نص الشافعي رضي الله عنه عليه في القديم . لما ورد عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : إذا زحم أحدكم في الصلاة فليسجد على ظهر آخر ، وليس له في الصحابة مخالف ، ولأن صفة السجود في الأداء معتبرة بالإمكان كالمريض .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن لا يمكنه السجود على ظهر إنسان حتى يرفع الإمام من سجوده فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون متى سجد أدرك ركوع الثانية مع الإمام ، فهذا عليه أن يسجد أولا ، ثم يركع مع الإمام ، سواء أدركه قائما في الثانية ، أو راكعا فيها : لأنه لم يؤخذ عليه مفارقة الإمام في أفعاله ، وإنما أخذ عليه اتباعه فيها ، ألا ترى أن الذين حرسوا النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته بعسفان سجدوا بعد قيامه .

                                                                                                                                            وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صلى الله عليه وسلم : مهما أسبقتكم به إذا ركعت تدركوني إذا رفعت ؛ لأنني بدنت أي كبرت .

                                                                                                                                            فإذا سجد نظر في حاله : فإن أدرك قراءة الفاتحة في الثانية ، والركوع مع الإمام قبل رفعه منه ، صحت صلاته . وإن لم يدرك قراءة الفاتحة :

                                                                                                                                            فإن قيل ليس على المأموم أن يقرأ خلف إمامه فقد صحت صلاته أيضا ، وإن قيل عليه أن يقرأ خلف إمامه فعلى وجهين : أصحهما يجزئه ، ويصير بمثابة من أدرك إمامه راكعا فيحتمل عنه القراءة فيها . والوجه الثاني : لا يجزئه : لأنه قد أدرك محل القراءة ، فصار كالناسي .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون متى سجد فاته ركوع الثانية مع الإمام ، فهل يأتي بالسجود أو يتبع الإمام في الركوع ؟ على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : نص عليه في الجديد وهو أحد قوليه في " الإملاء " وبه قال أبو حنيفة : يأتي بالسجود الذي عليه من الأولى ، ولا يتبع الإمام في ركوع الثانية ووجه هذا : قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا صلاة لمن عليه صلاة وقوله صلى الله عليه وسلم : إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا سجد فاسجدوا " [ ص: 417 ] فأمر باتباعه ، واتباعه أن يفعل مثل ما فعل ، وقد فعل السجود ، فوجب أن يتبعه فيه ، فيأتي به : ولأن في اتباع الإمام موالاة بين ركوعين ، وإيقاع زيادة في الصلاة لا يعتد بها ، فلم يجز أن يتبعه ، ولزمه أن يأتي بما فاته ، ولأنه إذا اشتغل بقضاء ما عليه فقد انتقل من فرض إلى فرض ، وهو من الركوع إلى السجود ، وإذا اشتغل باتباع الإمام فقد انتقل من فرض إلى ما ليس بفرض ، ولا نفل ، وهو الركوع الثاني .

                                                                                                                                            والقول الثاني : وبه قال مالك : أنه يتبع الإمام في الركوع ولا يشتغل بالسجود ووجه هذا قوله صلى الله عليه وسلم : لا تختلفوا فتختلف قلوبكم فمنع من مخالفته في أفعاله الظاهرة ، وفي اشتغاله بالسجود مخالفة في أفعاله ، فوجب أن يكون ممنوعا منه ، ولأن ترتيب الصلاة قد سقط خلف الإمام بوجوب اتباعه ، ألا تراه لو أدركه ساجدا أو متشهدا أحرم وتبعه ، وإن لم يكن من فرضه عقب الإحرام ، ولا يجوز أن يفعله لو كان منفردا ، فكذا أيضا يلزمه اتباعه في الركوع وإن فاته السجود : ولأنه لا خلاف بين أصحابنا أنه لو لها عن السجود وسها حتى ركع الإمام أن عليه أن يتبعه فيه ، ولا يشتغل بالسجود ، فكذلك لو أدركه بزحام ، إذ لا فرق بينهما ، مع كونه معذورا فيهما .

                                                                                                                                            فصل : وإذا قلنا : عليه أن يأتي بما فاته من السجود فسجد نظر في حاله : فإن سجد قبل سلام الإمام : فقد حصلت له ركعة يدرك بها الجمعة ، ويأتي بركعة ثانية ، وقد تمت صلاته . وإن سجد بعد سلام الإمام أو شك لم يكن مدركا للجمعة ، وأتمها ظهرا أربعا .

                                                                                                                                            وإذا قلنا عليه أن يتبع الإمام في الركوع فتبع وركع معه وسجد : فقد حصلت له ركعة ، وهل هي الثانية بكمالها أم الأولى مجبورة بسجود الثانية ؟ على وجهين : أحدهما : وهو ظاهر نصه ها هنا أنها الثانية بكمالها دون الأولى : لتكون الركعة مرتبة لا يتخللها ركوع مقصود ولا يعتد به .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو ظاهر نصه في سجود السهو أنها الأولى مجبورة بسجود الثانية : لأن ما فعله في الأولى قد كان معتدا به قبل زحامه ، ولأنه قد أتى في الأولى بقيام وقراءة لم يأت بهما في الثانية ، فكانت الأولى أولى في الاعتداد بها من الثانية .

                                                                                                                                            فإذا قيل بالوجه الأول : إنها الركعة الثانية بكمالها ، فقد حصلت له ركعة يدرك بها الجمعة ، فيأتي بركعة ، وقد تمت صلاته .

                                                                                                                                            وإذا قيل إنها الأولى مجبورة بسجود الثانية فهل يدرك بها الجمعة أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول أبي إسحاق المروزي : يدرك بها الجمعة : لقوله صلى الله عليه وسلم : من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة .

                                                                                                                                            [ ص: 418 ] فعلى هذا يأتي بركعة أخرى ، وقد تمت صلاته .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه لا يدرك الجمعة بركعة ملفقة من ركعتين ، وإنما يدركها بركعة كاملة غير ملفقة : لأن الجمعة كاملة الأوصاف ، فاعتبر في إدراكها ركعة كاملة ، فعلى هذا لا يكون مدركا للجمعة ، وتكون ظهرا في وقت الجمعة ، ومذهب الشافعي : أن من صلى الظهر في وقت الجمعة معذورا جاز وإن كان غير معذور فعلى قولين ، وإذا كان ذلك كذلك فقد اختلف أصحابنا في الزحام هل هو معذور به أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه معذور به ، فعلى هذا يتم صلاته ظهرا أربعا .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه غير معذور به : لأن أعذار الجمعة أمراض مانعة ، وليس الزحام منها ، فعلى هذا في صلاته قولان : أحدهما : وهو القديم جائزة ، ويبني على الظهر أربع ركعات .

                                                                                                                                            والثاني : وهو الجديد باطلة ، وعليه أن يستأنفها ظهرا أربعا .

                                                                                                                                            فصل : فأما إن أمرناه أن يأتي بما عليه من السجود فخالف وتبع الإمام في الركوع فله حالان : أحدهما : أن يكون عالما بفرضه . والثاني : أن يكون جاهلا به . فإن كان عالما بفرضه وأن ما فعله مع الإمام لا يجوز فصلاته باطلة : لإخلاله بركن من صلاته عامدا ، ثم عليه أن يستأنف الإحرام وراء الإمام : فإن أدركه راكعا وسجد معه فقد أدرك ركعة يدرك بها الجمعة ، فيأتي بركعة أخرى وقد تمت صلاته . فإن لم يدركه راكعا وأدركه ساجدا أو متشهدا لم يكن مدركا للجمعة ، وصلاها ظهرا أربعا .

                                                                                                                                            وإن كان قد تبع الإمام جاهلا بالحكم مقدرا جواز ذلك ألغى هذا الركوع ، ولم يعتد به : لأن فرضه السجود ، ولم تبطل صلاته به : لأنها زيادة من جنسها على وجه السهو ، فإذا سجد معه احتسب له بهذا السجود ، وقد حصلت له ركعة ملفقة بركوع من الأولى وسجود من الثانية ، فعلى قول أبي إسحاق يكون مدركا للجمعة ، وعلى قول أبي علي بن أبي هريرة لا يكون مدركا للجمعة ، ويكون الجواب فيه على ما مضى في الفصل قبله .

                                                                                                                                            فصل : فأما إن أمرناه باتباع الإمام في الركوع ، فخالف واشتغل بقضاء ما فاته من السجود ، لم تخل حاله من أحد أمرين : إما أن يكون جاهلا بفرضه أو عالما به . فإن كان جاهلا بأن فرضه اتباع الإمام لم تبطل صلاته : لأنها زيادة من جنس الصلاة على وجه السهو ، ولم يعتد بما فعله من السجود ، وتبع الإمام فيما بقي من الصلاة ، فإذا تبعه نظر فيما أدركه معه ، فلا يخلو فيه من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يدركه راكعا فيركع معه ويسجد ، فهذا يكون كمن أمر باتباع الإمام فتبعه ، [ ص: 419 ] فتحصل له ركعة ، ولا يحتسب له السجود الذي فعله ، ثم هل تكون هذه الركعة الثانية بكمالها أو الأولى مجبورة بسجود الثانية ؟ على الوجهين الماضيين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها الثانية ، فعلى هذا يدرك بها الجمعة .

                                                                                                                                            والثاني : أنها الأولى مجبورة بسجود الثانية ، فعلى هذا هل يدرك بها الجمعة أم لا ؟ على الوجهين . ثم الجواب فيه على ترتيب ما مضى .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يدركه في السجود فيسجد معه : فهذا تحصل له الركعة الأولى مجبورة بالثانية وجها واحدا ، ثم هل يدرك بها الجمعة أم لا ؟ على وجهين : أحدهما : وهو قول أبي إسحاق يدرك بها الجمعة .

                                                                                                                                            والثاني : وهو قول أبي علي لا يدرك بها الجمعة ، ويكون الجواب فيه على ما مضى .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن يدركه بعد السجود متشهدا ، فعليه أن يتبعه في التشهد ، فإذا سلم الإمام فقد بقي من الركعة سجدتان ، فعليه أن يسجدهما بعد سلام الإمام ، وقد حصلت له ركعة ، أدرك بعضها مع الإمام ، فهذا غير مدرك للجمعة وجها واحدا ، وهل يبني على الظهر أو يستأنفها ؟ على ما مضى في الجواب والتفصيل .

                                                                                                                                            فأما إذا اشتغل بالسجود عالما أن فرضه اتباع الإمام فله حالان : أحدهما : أن يقصد بذلك إخراج نفسه من إمامته ، والثاني : أن يكون مقيما على الائتمام به .

                                                                                                                                            فإن كان مقيما على الائتمام به : فصلاته باطلة : لما عمده من فعل ما ليس منها ، ثم عليه أن يستأنف الإحرام بالصلاة ، فإن استأنفه بعد سلام الإمام صلى ظهرا أربعا وإن أحرم قبل سلام الإمام ، ونوى الائتمام به فإن أدركه في الركوع فقد أدرك معه ركعة يدرك بها الجمعة وجها واحدا : لأنها ركعة غير ملفقة ، وإن أدركه بعد رفعه من الركوع بنى على الظهر قولا واحدا .

                                                                                                                                            وإن قصد إخراج نفسه من إمامته : فإن كان لعذر غير الزحام فصلاته جائزة ، ويبني على الظهر ، ويجزئه قولا واحدا ، وإن لم يكن له عذر غير الزحام فهل يكون الزحام عذرا له أم لا ؟ على وجهين مضيا :

                                                                                                                                            أحدهما : يكون عذرا له ، فعلى هذا صلاته جائزة ، ويتمها ظهرا أربعا .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه ليس بعذر ، فعلى هذا قد اختلف قول الشافعي فيمن أخرج نفسه من صلاة إمامه غير معذور ، فله في صلاته قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : باطلة ، فعلى هذا القول عليه أن يستأنف صلاته ظهرا أربعا .

                                                                                                                                            والقول الثاني : جائزة ، فعلى هذا القول يكون هذا مصليا للظهر في وقت الجمعة من غير عذر ، فيكون مبنيا على اختلاف قوليه فيمن صلى الظهر في وقت الجمعة غير معذور : أحدهما :

                                                                                                                                            [ ص: 420 ] وهو القديم ، صلاته جائزة ، ويتمها ظهرا أربعا . والقول الثاني : وهو الجديد ، صلاته باطلة وعليه أن يستأنفها ظهرا أربعا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية