الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الفقير الذي يجوز أن يعطى من الصدقة . قال أبو بكر رحمه الله : اختلف أهل العلم في المقدار الذي إذا ملكه الرجل دخل به في حد الغني ، وخرج به من حد الفقير ، وحرمت عليه الصدقة ، فقال قوم : { إذا كان عند أهله ما يغديهم ويعشيهم حرمت عليه الصدقة بذلك ، ومن كان عنده دون ذلك حلت له الصدقة } ، واحتجوا بما رواه عبد الرحمن عن يزيد بن جابر قال : حدثني ربيعة بن يزيد عن أبي كبشة السلولي قال : حدثني سهيل بن الحنظلة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من سأل الناس عن ظهر غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم ، قلت : يا رسول الله ما ظهر غنى ؟ قال : أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم ويعشيهم . وقال آخرون : { حتى يملك أربعين درهما أو عدلها من الذهب } ، واحتجوا بما روى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول لرجل : من سأل منكم ، وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل [ ص: 331 ] إلحافا ، والأوقية يومئذ أربعون درهما . وقالت طائفة : { حتى يملك خمسين درهما أو عدلها من الذهب } ، واحتجوا في ذلك بما روى الثوري عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يسأل عبد مسألة ، وله ما يغنيه إلا جاءت شيئا أو كدوحا أو خدوشا في وجهه يوم القيامة ، قيل : يا رسول الله ، وما غناه ؟ قال : خمسون درهما أو حسابها من الذهب . وروى الحجاج عن الحسن بن سعد عن أبيه عن علي وعبد الله قالا : لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهما أو عوضها من الذهب . وعن الشعبي قال : لا يأخذ الصدقة من له خمسون درهما ، ولا نعطي منها خمسين درهما . وقال آخرون : { حتى يملك مائتي درهم أو عدلها من عرض أو غيره فاضلا عما يحتاج إليه من مسكن وخادم وأثاث وفرس } وهو قول أصحابنا . والدليل على ذلك ما روى أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عبد الله بن جعفر قال : حدثني أبي عن رجل من مزينة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : من سأل وله عدل خمس أواق سأل إلحافا . ويدل عليه ما روى الليث بن سعد قال : حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك يقول : إن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا ؟ فقال : اللهم نعم .

وروى يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذا إلى اليمن قال له : أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ، وترد إلى فقرائهم . وروى الأشعث عن ابن أبي جحيفة عن أبيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ساعيا على الصدقة ، فأمره أن يأخذ الصدقة من أغنيائنا فيقسمها في فقرائنا . فلما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الناس صنفين فقراء وأغنياء ، وأوجب أخذ الصدقة من صنف الأغنياء ، وردها في الفقراء ، لم تبق هاهنا واسطة بينهما ، ولما كان الغني هو الذي ملك مائتي درهم ، وما دونها لم يكن مالكها غنيا وجب أن يكون داخلا في الفقراء فيجوز له أخذها ، ولما اتفق الجميع على أن من كان له دون الغداء والعشاء تحل له الصدقة علمنا أنها ليست إباحتها موقوفة على الضرورة التي تحل معها الميتة ، فوجب اعتبار ما يدخل به في حد الغنى ، وهو أن يملك فضلا عما يحتاج إليه مما وصفنا مائتي درهم أو مثلها من عرض أو غيره ، وأما ملك الأربعين درهما ، والخمسين الدرهم على ما روي في الأخبار التي قدمنا فإن هذه الأخبار واردة في كراهة المسألة لا في تحريمها ، وقد تكره المسألة لمن عنده ما يعنيه في الوقت لا سيما في أول ما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة [ ص: 332 ] مع كثرة فقراء المسلمين ، وقلة ذات أيديهم ، فاستحب النبي صلى الله عليه وسلم لمن عنده ما يكفيه ترك المسألة ليأخذها من هو أولى منه ممن لا يجد شيئا ، وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم : من استغنى أغناه الله ، ومن استعف أعفه الله ، ومن لا يسألنا أحب إلينا ممن يسألنا . وقوله صلى الله عليه وسلم : لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه .

وقد روي عن فاطمة بنت الحسين عن الحسين بن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : للسائل حق ، وإن جاء على فرس فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء السائل مع ملكه للفرس والفرس في أكثر الحال تساوي أكثر من أربعين درهما أو خمسين درهما ، وقد روى يحيى بن آدم قال : حدثنا علي بن هاشم عن إبراهيم بن يزيد المكي عن الوليد بن عبيد الله عن ابن عباس قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لي أربعين درهما أفمسكين أنا ؟ قال : نعم . .

وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا يعقوب بن يوسف المطوعي قال : حدثنا أبو موسى الهروي قال : حدثنا المعافى قال : حدثنا إبراهيم بن يزيد الجزري قال : حدثنا الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث عن ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله عندي أربعون درهما أمسكين أنا ؟ قال : نعم ، فأباح له الصدقة مع ملكه لأربعين درهما حين سماه مسكينا ، إذ كان الله قد جعل الصدقة للمساكين ، وروى أبو يوسف عن غالب بن عبيد الله عن الحسن قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل أحدهم الصدقة وله من السلاح والكراع والعقار قيمة عشرة آلاف درهم . وروى الأعمش عن إبراهيم قال : كانوا لا يمنعون الزكاة من له البيت والخادم . وروى شعبة عن قتادة عن الحسن قال : من له مسكن وخادم أعطي من الزكاة .

وروى جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير قال : { يعطى من له دار وخادم وفرس وسلاح يعطى من إذا لم يكن له ذلك الشيء واحتاج إليه } . وقد اختلف في ذلك من وجه آخر ، فقال قائلون : { من كان قويا مكتسبا لم تحل له الصدقة وإن لم يملك شيئا } ، واحتجوا بما روى أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن سالم بن أبي الجعد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي ورواه أبو بكر بن عياش أيضا عن أبي جعفر عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

وروى سعد بن إبراهيم عن ريحان بن يزيد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تحل الصدقة لغني ، ولا لقوي مكتسب ، وهذا عندنا على وجه الكراهة لا على جهة التحريم ، على النحو الذي ذكرنا في كراهة المسألة .

فإن قيل : قوله : لا تحل الصدقة لغني على [ ص: 333 ] وجه التحريم وامتناع جواز إعطائه الزكاة ، كذلك القوي المكتسب . قيل له : يجوز أن يريد الغنى الذي يستغني به عن المسألة ، وهو أن يكون له أقل من مائتي درهم ، لا الغنى الذي يجعله في حيز من يملك ما تجب في مثله الزكاة ، إذ قد يجوز أن يسمى غنيا لاستغنائه بما يملكه عن المسألة ، ولم يرد به الغنى الذي يتعلق بملك مثله وجوب الغنى ، فكان قوله : لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي على وجه الكراهة للمسألة لمن كان في مثل حاله .

وعلى أن حديث أبي هريرة هذا في قوله : لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي مختلف في رفعه ، فرواه أبو بكر بن عياش مرفوعا على ما قدمنا ، ورواه أبو يوسف عن حصين عن أبي حازم عن أبي هريرة من قوله غير مرفوع ، وحديث عبد الله بن عمرو رواه شعبة ، والحسن بن صالح عن سعد بن إبراهيم عن ريحان بن يزيد عن عبد الله بن عمرو موقوفا عليه من قوله ، وقال : لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي . ورواه سفيان عن سعد بن إبراهيم عن ريحان بن يزيد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب ، فاختلفوا في رفعه ، وظاهر قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء والمساكين عام في سائرهم من قدر منهم على الكسب ، ومن لم يقدر ، وكذلك قوله تعالى : في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم يقتضي وجوب الحق للسائل القوي المكتسب ، إذ لم تفرق الآية بينه وبين غيره ، ويدل أيضا قوله تعالى : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ولم يفرق بين القوي المكتسب وبين من لا يكتسب من الضعفاء . فهذه الآيات كلها قاضية ببطلان قول القائل بأن الزكاة لا تعطى الفقير إذا كان قويا مكتسبا ، ولا يجوز تخصيصها بخبر أبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو اللذين ذكرنا لاختلافهم في رفعه ، واضطراب متنه ؛ لأن بعضهم يقول : { قوي مكتسب } وبعضهم : { لذي مرة سوي } . وقد رويت أخبار هي أشد استفاضة ، وأصح طرقا من هذين الحديثين معارضة لهما ، منها حديث أنس وقبيصة بن المخارق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الصدقة لا تحل إلا في إحدى ثلاث فذكر إحداهن فقر مدقع ، وقال : أو رجل أصابته فاقة أو رجل أصابته جائحة ، ولم يشرط في شيء منها عدم القوة والعجز عن الاكتساب ، ومنها حديث سليمان أنه حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة ، فقال لأصحابه : كلوا ولم يأكل ، ومعلوم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أقوياء مكتسبين ، ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم بها من كان منهم زمنا أو عاجزا عن [ ص: 334 ] الاكتساب . ومنها حديث عروة بن الزبير عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين من العرب حدثاه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه من الصدقة ، فصعد فيهما البصر وصوبه فرآهما جلدين فقال : إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب فلما قال لهما : إن شئتما أعطيتكما ، ولو كان محرما ما أعطاهما مع ما ظهر له من جلدهما وقوتهما وأخبر . مع ذلك أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ، فدل على أنه أراد بذلك كراهة المسألة ، ومحبة النزاهة لمن كان معه ما يغنيه أو قدر على الكسب فيستغني به عنها ، وقد يطلق مثل هذا على وجه التغليظ لا على وجه تحقيق المعنى ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس بمؤمن من يبيت شبعانا وجاره جائع ، قال : لا دين لمن لا أمانة له ، وقال : ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان ، ولم يرد به نفي المسكنة عنه رأسا حتى تحرم عليه الصدقة ، وإنما أراد ليس حكمه كحكم الذي لا يسأل ، وكذلك قوله : ولا حق فيها لغني ، ولا لقوي مكتسب على معنى أنه ليس حقه فيها كحق الزمن العاجز عن الكسب ، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم فعم سائر الفقراء الزمنى منهم والأصحاء . وأيضا قد كانت الصدقات والزكاة تحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعطيها فقراء الصحابة من المهاجرين والأنصار وأهل الصفة ، وكانوا أقوياء مكتسبين ، ولم يكن يخص بها الزمنى دون الأصحاء ، وعلى هذا أمر الناس من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا يخرجون صدقاتهم إلى الفقراء الأقوياء والضعفاء منهم لا يعتبرون منها ذوي العاهات والزمانة دون الأقوياء الأصحاء ، ولو كانت الصدقة محرمة وغير جائزة على الأقوياء المكتسبين الفروض منها أو النوافل لكان من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف للكافة عليه لعموم الحاجة إليه ، فلما لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف للكافة على حظر دفع الزكاة إلى الأقوياء من الفقراء والمتكسبين من أهل الحاجة ؛ لأنه لو كان منه توقيف للكافة لورد النقل به مستفيضا ، دل ذلك على جواز إعطائها الأقوياء المتكسبين من الفقراء كجواز إعطائها الزمنى والعاجزين عن الاكتساب .

التالي السابق


الخدمات العلمية