الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وعامة نظار أهل الإسلام وغيرهم ردوا ذلك عليهم، وبينوا فساد [ ص: 281 ] كلامهم ، وأن الحد إنما يراد به التمييز بين المحدود وغيره ، وأنه يحصل بالخواص التي هي لازمة ملزومة ، لا يحتاج إلى ذكر الصفات العامة ، بل منعوا أن يذكر في الحد الصفات المشتركة بينه وبين غيره ، بل وأكثرهم منعوا تركيب الحد ، كما هو مبسوط في موضعه ، وقد صنف في ذلك متكلمو الطوائف ، كأبي هاشم وغيره من المعتزلة ، وابن النوبخت وغيره من الشيعة ، والقاضي أبي بكر وغيره من مثبتة الصفات .

وأما أبو حامد الغزالي فإنه -وإن وافقهم على صحة الأصول المنطقية ، وخالف بذلك فحول النظار الذين هم أقعد بتحقيق النظر في الإلهيات ونحوها من أهل المنطق ، واتبعه على ذلك من سلك سبيله كالرازي وذويه ، وأبي محمد بن البغدادي صاحب ابن المثنى وذويه- فقد بين في كتابه "تهافت الفلاسفة" وغيره من كتبه فساد قولهم في الإلهيات ، مع وزنه لهم بموازينهم المنطقية ، حتى [أنه] بين أنه لا حجة لهم على نفي التجسيم بمقتضى أصولهم المنطقية ، فضلا عن أن يكون لهم حجة على نفي الصفات مطلقا ، وإن كان أبو حامد قد يوجد في كلامه ما يوافقهم عليه تارة أخرى ، وبهذا [ ص: 282 ] تسلط عليه طوائف من علماء الإسلام ، ومن الفلاسفة أيضا، كابن رشد وغيره ، حتى أنشد فيه .


يوما يمان إذا ما جئت ذا يمن . . . وإن لقيت معديا فعدناني



فالاعتبار من كلامه وكلام غيره بما يقوم عليه الدليل ، وليس ذلك إلا فيما وافق فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يقوم دليل صحيح على مخالفة الرسول ألبتة .

وهذا كما أن ابن عقيل يوجد في كلامه ما يوافق المعتزلة والجهمية تارة ، وما يوافق به المثبتة للصفات -بل للصفات الخبرية- أخرى فالاعتبار من كلامه وكلام غيره بما يوافق الدليل ، وهو الموافق لما جاء به الرسول .

والمقصود هنا أن نبين أن فحول النظار بينوا فساد طرق من نفى الصفات ، أو العلو بناء على نفي التجسيم . وكذلك فحول الفلاسفة -كابن سينا ، وأبي البركات، وابن رشد ، وغيرهم- بينوا فساد طرق أهل الكلام -من الجهمية والمعتزلة والأشعرية- التي نفوا بها التجسيم ، حتى [أن] ابن رشد في "تهافت التهافت" بين فساد ما اعتمد عليه هؤلاء ، كما بين أبو حامد في "التهافت" فساد ما اعتمد عليه الفلاسفة . [ ص: 283 ]

ولهذا كان في عامة طوائف النظار من يوافق أهل الإثبات على إثبات الصفات ، بل وعلى قيام الأمور الاختيارية في ذاته وعلى العلو ، كما يوجد فيهم من يوافقهم على أن الله خالق أفعال العباد ، فأحذق متأخري المعتزلة هو أبو الحسين البصري ، ومن عرف حقيقة كلامه علم أنه يوافق على إثبات كونه حيا عالما قادرا ، وعلى أن كونه حيا ليس هو كونه عالما ، وكونه عالما ليس كونه قادرا، لكنه ينازع مثبتة الأحوال الذين يقولون : ليست موجودة ولا معدومة .

وهذا الذي اختاره هو قول أكثر مثبتة الصفات ، فنزاعه معهم نزاع لفظي ، كما أنه يوافق على أن الله يخلق الداعي في العبد ، وعند وجود الداعي والقدرة يجب وجود المقدور .

وهذا قول أئمة أهل الإثبات وحذاقهم الذين يقولون : إن الله خالق أفعال العباد . وهو أيضا يقول : إنه سبحانه مع علمه بما سيكون، فإنه إذا كان يعلمه كائنا فعالميته متجددة .

وابن عقيل يوافق على ذلك ، وكذلك الرازي وغيره ، وهذا موافق لقول من يقول بقيام الحوادث به .

وبعض حذاق المعتزلة نصر القول بعلو الله ومباينته لخلقه بالأدلة العقلية ، وأظنه من أصحاب أبي الحسين . [ ص: 284 ]

وقد حكى ابن رشد ذلك عن أئمة الفلاسفة . وأبو البركات وغيره من الفلاسفة يختارون قيام الحوادث به كإرادات وعلوم متعاقبة ، وقد ذكروا ذلك وما هو أبلغ منه عن متقدمي الفلاسفة ، كما ذكرت أقوالهم في غير هذا الموضع ، [وتقدم بعضها] .

والمقصود هنا أن جميع ما احتج به النفاة قدح فيه بعض النفاة قدحا يبين بطلانه ، كما بين غير واحد فساد طرق الفلاسفة .

التالي السابق


الخدمات العلمية