الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة [ ورود الخطاب مطلقا في موضع ومقيدا في موضع ]

                                                      اعلم أن الخطاب إذا ورد مطلقا لا مقيد له ، حمل على إطلاقه ، أو مقيدا لا مطلق له حمل على تقييده ، وإن ورد مطلقا في موضع ، ومقيدا في آخر ، فالكلام في مقامين : أحدهما : في المقيد هل يجب أن يكون حاله مقصورا على الشرط المقيد به أم لا ؟

                                                      والثاني : في المطلق ، هل يجب حمله على حكم المقيد من جنسه أم لا ؟

                                                      أما الأول : فهو البحث في أن مفهوم الشرط والصفة حجة أم لا كما [ ص: 9 ] سيأتي إن شاء الله تعالى ، فإن قلنا : ليس بحجة ، لم يحمل المطلق عليه ، وإن قلنا : حجة حمل . ولا بد في الحمل من تقديم كون القيد شرطا فيما قيد به . والأصوليون قد أهملوا ذكره هنا لوضوحه ، وإنما تعرض له الماوردي والروياني ، واعتبرا معنى المقيد ، فإن كان خاصا ثبت حكم التقييد ، وإن كان عاما يسقط حكمه ، فالأول كقوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر } إلى قوله : { فلم تجدوا ماء } فتقييد التيمم بالمرض والسفر شرط في إباحته .

                                                      والثاني : كقوله : { وإذا ضربتم في الأرض } إلى قوله : { إن خفتم } فليس الخوف شرطا في القصر .

                                                      وأما الثاني : فهو المقصود بعد ثبوت كون التقييد شرطا في المقيد ، فينقسم المطلق والمقيد إلى أقسام : أحدها : أن يختلفا في السبب والحكم ، فلا يحمل أحدهما على الآخر بالاتفاق ، كتقييد الشهادة بالعدالة ، وإطلاق الرقبة في الكفارة . وشرط الآمدي أن يكونا ثبوتيين ، فإن لم يكن ، كما إذا قال في كفارة الظهار : أعتق رقبة ، وقال : لا تملك رقبة كافرة ، فلا خلاف أن المقيد يوجب تقييد الرقبة المطلقة بالمسلمة في هذه الصورة . واعلم أن الاتفاق في هذا القسم نقله القاضي أبو بكر ، وإمام الحرمين ، وإلكيا ، وابن برهان ، والآمدي وغيرهم ، وذكر الباجي عن القاضي محمد من المالكية أن مذهب مالك في هذا حمل المطلق على المقيد ، وأخذ ذلك من [ ص: 10 ] رواية رويت عنه أنه قال : عجبت من رجل عظيم من أهل العلم يقول : إن التيمم إلى الكوعين ، فقيل له : إنه حمل ذلك على آية القطع ، فقال : وأين هو من آية الوضوء ؟ قال الباجي : وهذا التأويل غير مسلم ، لأنه يحتمل حمله عليه بقياس أو علة ، وإنما الخلاف في الحمل بمقتضى اللفظ . وسيأتي حكاية قول الشافعي في كفارة القتل أنه يجزئ فيها الإطعام كما في الظهار .

                                                      قلت : ومن هذا كله يخرج خلاف في حمل المطلق على المقيد في هذا القسم ، وينبغي التفاته إلى أنه من باب القياس ، أو اللفظ . فإن قلنا من باب القياس امتنع ، لأن من شرط القياس اتحاد الحكم ، والحكم هنا مختلف ، حيث أطلق الإطعام وقيد الصيام .

                                                      القسم الثاني : أن يتفقا في السبب والحكم ، فيحمل أحدهما على الآخر كما لو قال : إن ظاهرت فاعتق رقبة . وقال في موضع آخر : إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة ، وأبو حنيفة يوافق في هذا القسم ، كما قاله أبو زيد في " الأسرار " ، وأبو منصور الماتريدي في تفسيره ، وغيرهما . ولهذا حمل قوله تعالى : { فصيام ثلاثة أيام } على قراءة ابن مسعود : متتابعات . وكذا لو قيل له : تغد عندي اليوم ، فقال : والله لا أتغدى ، حمل على ذلك اليوم ، حتى لا يحنث بغيره . وممن نقل الاتفاق في هذا القسم : القاضيان أبو بكر وعبد الوهاب ، وابن فورك وإلكيا الطبري ، وغيرهم ; وكإطلاق تحريم الدم في موضع ، وتقييده في آخر بالمسفوح ، وكقوله : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } وقال في موضع آخر { منه } . وقوله تعالى : { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها } فإنه لو قيل : [ ص: 11 ] نحن نرى من يطلب الدنيا طلبا حثيثا ، ولا يحصل له شيء قلنا : قال تعالى : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } فعلق ما يؤتيه بالمشيئة والإرادة فحمل المطلق على المقيد ، وكإطلاق المسح في قوله : { يمسح المسافر ثلاثة أيام } والتقييد بقوله : { إذا تطهر فلبس خفيه } ، وقوله : { عمن تمونون } مع قوله : { على كل صغير وكبير ، ذكر وأنثى ، حر وعبد من المسلمين } . وقوله : { لا نكاح إلا بولي } مع قوله : { إلا بولي مرشد } .

                                                      وقال ابن العربي في " المحصول " : هذه المسألة مسألة المفهوم ، كقوله : { في أربعين شاة شاة } وهذا مطلق . وقوله : { في الغنم السائمة الزكاة } [ ص: 12 ] فهذا مقيد بالسوم ، فإن قلنا بالمفهوم ، حملنا المطلق على المقيد على الخلاف ، والسبب واحد ، وهو الملك للمال الباقي ، والحكم واحد ، وهو وجوب الزكاة . ا هـ . وظاهره جريان خلاف الحنفية في هذا القسم منكري المفهوم ، وبه صرح ابن برهان في الأوسط ، فقال : اختلف أصحاب أبي حنيفة في هذا القسم ، فذهب بعضهم إلى أنه لا يحمل ، والصحيح من مذهبهم أنه يحمل . قلت : إلا أنهم لم يحملوا صدقة الفطر كذلك ، بل عملوا بالنصين .

                                                      وقال أبو الوليد الباجي : حمل المطلق على المقيد في هذا القسم من باب دليل الخطاب ، وقد ذكرنا أنه ليس بدليل ، فيجوز التخصيص به . قال : وقد اختلف كلام القاضي أبي بكر في ذلك في " التقريب " ، وحكى الطرسوسي - بالسينين المهملتين - الخلاف فيه عن المالكية أيضا . واستثنى بعض الحنابلة من هذا القسم ما إذا كان المقيد آحادا ، والمطلق متواترا . قال : فيبنى على مسألة الزيادة ، هل هي نسخ ؟ وعلى نسخ المتواتر بالآحاد . والمنع قول الحنفية . وهذا كله في المقيد مطلقا . فإن كانت دلالة المقيد من حيث المفهوم ، فكذلك عند من قال به ، فيقدم خاصه على العموم ، ومن لا يقول بالمفهوم فيعمل بمقتضى الإطلاق .

                                                      قلت : وهكذا فعلت الحنفية في صدقة الفطر ، ولم يفعلوا ذلك في كفارة اليمين ، قالوا : لأنهما في الصوم وردا في حكم يستحيل وجوده بموضعين متضادين مقدما التقييد ، وفي صدقة الفطر في السبب ولا مزاحمة ، وإذا قلنا بالحمل ، فاختلفوا ، فصحح ابن الحاجب وغيره أن الحمل بيان للمطلوب ، أي دال على أنه كان المراد بالمطلق هو المقيد ، وقيل يكون نسخا أي دالا على نسخ حكم المطلق السابق بحكم المقيد الطارئ . واعلم أن ظاهر إطلاقهم أنه لا فرق في هذا القسم في الحمل بين أن يكون المطلق متقدما أو متأخرا أو جهل السابق منهما ، ولهذا قال الغزالي في " المستصفى " بعد تعرضه لهذا : وهذا صحيح على مذهب من لا يرى [ ص: 13 ] بين العام والخاص تقابل الناسخ والمنسوخ ، والقاضي مع مصيره إلى التعارض نقل الاتفاق على تنزيل المطلق على المقيد عند اتحاد الحكم . ا هـ . وفيما ذكره إشارة إلى أن من صار إلى أن العام المتأخر لا يخصص بالخاص المتقدم عند التعارض بل يحمل على النسخ ، ينبغي أن لا يحمل المطلق على المقيد ، ويلزمه أن يقول هاهنا : إن المطلق المتأخر ناسخ للمقيد المتقدم ، لأن المطلق بمثابة العام ، والمقيد بمثابة الخاص ، وعلى هذا يلزم الوقف عند جهل التاريخ ، كما توقف هناك . كذا قال الهندي والأردبيلي ، ويشهد له حكاية ابن الحاجب عن بعضهم أنه إذا كان المقيد متأخرا عن المطلق ، يكون المقيد ناسخا للمطلق ، وزيفه .

                                                      والحق أنه يتجه فيما إذا تأخر المقيد عن وقت العمل بالمطلق ، وإلا فالحمل على النسخ مع إمكان حمله على البيان بعيد ، ثم يلزمه عكسه إن رأى نسخ الخاص بالعام . وقد يقال : لا يلزم القائل في العام بالنسخ أن يقول به هنا في المطلق ، والفرق أن الخاص يناقض العام في جهة مدلوله ، فإن العام يدل على إثبات الحكم في جميع أفراده ظاهرا ، والخاص ينفي الحكم في بعضها . فوقع التعارض بينهما من هذا الوجه . وأما المطلق فلا دلالة له على حكم المقيد . لا بنفي ولا إثبات ، فإن الإيمان مثلا في قوله : ( أعتق رقبة ) مسكوت عنه ، فلا يكون إثباته بقوله : أعتق رقبة مؤمنة منافيا لحكم الإطلاق من جهة المدلول ، فيحمل المطلق على المقيد بكل حال ، فصح نقل الإجماع على ذلك . ولا يخرج على الخلاف في تقابل العام المتأخر والخاص المتقدم لما فيه من الجمع بين الدليلين .

                                                      القسم الثالث : أن يختلفا في السبب دون الحكم ، كإطلاق الرقبة في كفارة الظهار ، وتقييدها بالإيمان في كفارة القتل ، فالحكم واحد ، وهو [ ص: 14 ] وجوب الإعتاق . لكن الظهار والقتل سببان مختلفان ، فهذا هو موضع الخلاف بين الحنفية والشافعية . أما عكسه وهو اتحاد السبب واختلاف الحكم . فظاهر إطلاقهم أنه . لا خلاف فيه . لكن ابن العربي في " المحصول " جعله من موضع الخلاف . وبه تصير الأقسام أربعة ، ومثله بآية الوضوء فإنه قيد فيها غسل اليدين بالمرافق ، وأطلق في آية التيمم ، كقوله : { وأيديكم منه } فإن السبب واحد ، وهو الحدث . وحكى أبو الخطاب من الحنابلة الخلاف في اتحاد السبب واختلاف الحكم . ونقل فيه روايتين عن أحمد ، ومثله بآية الوضوء والتيمم أيضا . وكذا مثل بها القاضي في " التقريب " . .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية