الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأيضا فإذا كان المعلول لا يكون إلا مع علته التامة، لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث إلا مع تمام علته ، ولم يحدث حين حدوثه ما يوجب حدوث علة تامة له ، وإن قدر حدوث ذلك لزم حدوث تمام علل ومعلولات في آن واحد ، وهو تسلسل في العلل ، وذلك معلوم الفساد بصريح العقل واتفاق العقلاء، بخلاف تسلسل الحوادث المتعاقبة ، وهو أنه لا يكون حادث إلا بعد حادث، فهذا فيه نزاع مشهور . [ ص: 293 ]

والناس فيه على أربعة أقوال: قيل : يمتنع في الماضي والمستقبل، كقول جهم وأبي الهذيل . ولهذا قال الجهم بفناء الجنة والنار ، وقال أبو الهذيل بفناء حركاتهما .

وقيل : يمتنع في الماضي دون المستقبل ، وهو قول كثير من طوائف أهل الكلام ، كأكثر المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم .

وقيل : يجوز فيهما فيما هو مفتقر إلى غيره كالفلك ، سواء قيل : إنه محتاج إلى مبدع ، كقول ابن سينا وأتباعه ، أو قيل : إنه محتاج إلى ما يتشبه به، كقول أرسطو وأتباعه .

وقيل : يجوز فيهما ، لكن لا يجوز ذلك فيما سوى الرب ، فإنه مخلوق مفعول ، وحوادثه القائمة به لا تحصل إلا من غيره ، فهو محتاج في نفسه وحوادثه إلى غيره ، والمحتاج لا يكون إلا مربوبا ، والمربوب لا يكون إلا مخلوقا محدثا ، والمحدث لا يقوم به حوادث لا أول لها ، فإن ما لم يسبق الحادث المعين والحوادث المحدودة فهو محدث مثلها باتفاق العقلاء ، إذ لو كان لم يسبقها فإما أن يكون معها أو بعدها ، وعلى التقديرين فهو حادث ، بخلاف الرب القديم الأزلي الواجب بنفسه ، فإنه إذا كان لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء ، كان ذلك من كماله ، وكان هذا كما قاله أئمة السنة والحديث . [ ص: 294 ]

والثاني : قول من يقول : إنه فاعل مختار ، لكنه يفعل بوصف الجواز ، فيرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح ، إما بمجرد كونه قادرا ، أو لمجرد كونه قادرا عالما ، أو لمجرد إرادته القديمة التي ترجج مثلا على مثل بلا مرجح ، ويقولون : إن الحوادث تحدث بعد أن لم تكن حادثة من غير سبب يوجب الحدوث ، فيقولون : بتراخي الأثر عن المؤثر التام .

وهذا وإن كان خيرا من الذي قبله -ولهذا ذهب إليه طوائف من أهل الكلام- ففساده أيضا بين ، فإنه إذا قيل : إن المؤثر التام حصل مع تراخي الأثر عنه ، وعند حصول الأثر لم يحصل ما يوجب الحصول ، كان حاله بعد حصول الأثر وقبله [حالا] واحدة متشابهة ، ثم اختص أحد الحالين بالأثر من غير ترجيح [مرجح ، وحدوث] الحادث بلا سبب حادث ، وهذا معلوم الفساد بصريح العقل .

والقول الثالث : قول أئمة [السنة : إنه ما شاء الله] كان وما لم يشأ لم يكن ، فما شاء الله وجب بمشيئته وقدرته ، وما لم يشأه امتنع [ ص: 295 ] لعدم [مشيئته له ، فهو] موجب بمشيئته وقدرته ، لا بذات خالية عن الصفات ، وهو موجب له إذا شاءه ، لا موجب [له في الأزل ، كما] قال إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [سورة يس 82] : وهذا الإيجاب مستلزم لمشيئته وقدرته ، لا مناف لذلك ، بل هو سبحانه يخلق ما يشاء ويختار ، فهو فاعل لما يشاؤه إذا شاء ، وهو موجب له بمشيئته وقدرته .

والله تعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية