الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 378 ] 34 - باب: قول الله -عز وجل - : ولا جناح عليكم فيما عرضتم به إلى قوله : حليم [البقرة : 235 ]

                                                                                                                                                                                                                              أكننتم أضمرتم ، وكل شيء صنته فهو مكنون .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو عبد الله ، وقال طلق : ثنا زائدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - : فيما عرضتم يقول : إني أريد التزويج ، ولوددت أني يسر لي امرأة صالحة . وقال القاسم : يقول : إنك علي كريمة ، وإني فيك لراغب ، وإن الله لسائق إليك خيرا . ونحو هذا . وقال عطاء : يعرض ولا يبوح ، يقول : إن لي حاجة وأبشري ، وأنت بحمد الله نافقة . وتقول هي : قد أسمع ما تقول . ولا تعد شيئا ، ولا يواعد وليها بغير علمها ، وإن واعدت رجلا في عدتها ثم نكحها بعد لم يفرق بينهما . وقال الحسن : لا تواعدوهن سرا [البقرة : 235 ] : الزنا . ويذكر عن ابن عباس : الكتاب أجله [البقرة : 235 ] قال : أن تنقضي العدة . [فتح: 9 \ 178 ] .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الشرح :

                                                                                                                                                                                                                              أما الآية فروى أبو محمد بن حيان في كتاب "النكاح " من حديث عبد الله بن أحمد ، قالت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط : أنكحني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة ثم قتل عني ، فأرسل إلي الزبير بن العوام يقول : احبسي علي نفسك . فقلت : نعم . فنزلت الآية .

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى أكننتم كما ذكره ، والتعليق الأول أخرجه ابن أبي شيبة عن جرير بن عبد الحميد ، عن منصور بلفظ : إني فيك لراغب ، وإني أريد امرأة أمرها كذا وكذا ، ويعرض لها بالقول . وقال أبو الأحوص ، عن منصور بلفظ : يعرض الرجل فيقول : إني أريد أن أتزوج ، ولا ينصب لها في الخطبة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 379 ] وفي حديث عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير ، عنه قال : يقول : إني لراغب ولوددت أني تزوجتك ، حتى يعلمها أنه يريد تزويجها من غير أن يوجب عقدة ، أو يعاهدها على عهد .

                                                                                                                                                                                                                              وقول القاسم أخرجه ابن أبي شيبة أيضا ، عن يزيد بن هارون ، عن يحيى بن سعيد ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه في المرأة يتوفى عنها زوجها ، ويريد الرجل خطبتها وكلامها ، قال : يقول : إني بك لمعجب ، وإني عليك لحريص ، وإني فيك لراغب ، وأشباه ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وثنا أبو خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد ، عن عبد الرحمن ، عن أبيه قال : يقول في العدة : إني عليك لحريص . الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              وتعليق عطاء أخرجه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عمرو بن دينار ، عنه ، وقول الحسن أخرجه عبد الرزاق أيضا ، عن معمر ، عن قتادة ، عنه بلفظ : هو الفاحشة . كأنه يريد الفعل ; لأن الزنا لا يجوز المواعدة فيه سرا ولا جهرا ، وهو لفظ مستعمل مشهور على ألسنة العرب .

                                                                                                                                                                                                                              وعند ابن أبي شيبة ، عن أبي أسامة ، عن عمران بن جرير ، عن أبي مجلز والحسن : هو الزنا ، وكذا قاله إبراهيم وأبو الشعثاء .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الشعبي : هو أن يأخذ عليها عهدا وميثاقا ألا تتزوج غيره ، وقال مجاهد : سرا يخطبها في عدتها .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن سيرين : يلقى الولي فيذكر رغبة وحرصا .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 380 ] وقال الضحاك : لا (يقاضيها ) أن لا تتزوج غيره . وكذا قال سعيد بن جبير .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الشافعي : هو الجماع ، وهو التصريح فيما لا يحل له في حالته تلك .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (ويذكر عن ابن عباس ) إلى آخره ، هذا التعليق أخرجه إسماعيل بن أبي زياد في "تفسيره " ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عنه ، وعند ابن أبي شيبة جواز التعريض ، عن مجاهد والحسن وعبيدة السلماني وسعيد بن جبير والشعبي وأبي الضحى ، وقال النخعي : لا بأس بالهدية في تعريض النكاح ، وقال ابن إدريس ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة بنت قيس : "انتقلي إلى أم شريك ولا تفوتينا نفسك " .

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه أبو الشيخ في كتاب "النكاح " من حديث يوسف بن محمد ثنا ابن إدريس ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا به ، ثم قال : وهذا الحديث لم يتابع عليه يوسف أحد ، ثم ساقه من حديث أبي كريب ، ثنا ابن إدريس بإسقاط أبي هريرة .

                                                                                                                                                                                                                              وفي الدارقطني من حديث عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل عن عمته سكينة بنت حنظلة قالت : استأذن علي محمد بن علي بن الحسين ، ولم تنقض عدتي من مهلك زوجي . فقال : قد عرفت قرابتي من رسول

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 381 ] الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقرابتي من علي ، وموضعي في العرب . قالت : فقلت : غفر الله لك أبا جعفر ، أنت رجل يؤخذ عنك ، تخطبني في عدتي ؟ ! قال : إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن علي ، وقد دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أم سلمة وهي متأيمة من أبي سلمة فقال : "لقد علمت أني نبي الله ، وخيرته من خلقه ، وموضعي في قومي " فكانت تلك خطبته .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              حرم الله تعالى عقد النكاح في العدة بقوله : ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ، وهذا من المحكم المجتمع على تأويله ، أن بلوغ أجله : انقضاء العدة ، وأباح الله تعالى التعريض في العدة بقوله : ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء [البقرة : 235 ] ; ولأنه لم يختلف العلماء في إباحة ذلك لما عدا الرخصة ، وإنما منع من العقد فيها ; لأن ذلك ذريعة إلى المواقعة فيها التي هي محبوسة على ماء الميت أو المطلق ، كما منع المحرم بالحج من عقده النكاح ; لأنه مؤد إلى الوقاع ، فحرم عليه السبب والذريعة إلى فساد ما هو فيه وموقوف عليه ، وأباح التعريض في العدة ; خشية أن تفوت نفسها .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              اختلف في ألفاظ التعريض ، والمعنى واحد ، فقال قتادة وسعيد بن جبير في قوله تعالى : ولكن لا تواعدوهن سرا لا يأخذ عهدها في عدتها ألا تنكح غيره قال : إسماعيل بن إسحاق [هذا أحسن ] من قول من تأول في قوله : ولكن لا تواعدوهن سرا : أنه الزنا ; لأن ما قبل الكلام

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 382 ] وما بعده لا يدل عليه ، ويجوز في اللغة أن يسمى الغشيان سرا ، فسمي النكاح سرا ، إذ كان الغشيان يكون فيه كما سمي التزويج نكاحا ، وهو أشبه في المعنى ; لأنه لما أجيز له التعريض فيه ، لم يؤذن لهم في غيره ، فوجب أن يكون كل شيء يجاوز التعريض فهو محذور ، والمواعدة تجاوز التعريض ، فوسع الله على عباده في التعريض في الخطبة ، لما علم منهم .

                                                                                                                                                                                                                              وبلغني عن الشافعي أنه احتج بهذا التعريض في التعريض بالقذف ، وقال : كما لم يجعل هذا التعريض في هذا الموضع بمنزلة التصريح ، كذلك لا يجعل التعريض في القذف بمنزلة التصريح ، واحتج بما هو حجة عليه ، إذ كان التعريض بالنكاح قد فهم عن صاحبه ما أراد ، فكذلك ينبغي أن يكون التعريض بالقذف قد فهم بالمراد ، فإذا فهم أنه قاذف حكم عليه بحكم القذف ، وينبغي له على قوله هذا أن يزعم أن التعريض بالقذف مباح كما أبيح التعريض بالنكاح .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              اختلف في الرجل يخطب المرأة في عدتها جاهلا ، ويواعدها ويعقد بعد العدة : فكان مالك يقول : فراقها أحب إلي ، دخل بها أو لم يدخل ، ويكون بطلقة واحدة ، ويدعها حتى تحل .

                                                                                                                                                                                                                              قال الشافعي : إن صرح بالخطبة ، وصرحت له بالإباحة ، ولم يعقد النكاح حتى تنقضي العدة ، فالنكاح ثابت والتصريح لها مكروه ; لأن النكاح حادث بعد الخطبة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 383 ] واختلفوا إذا تزوجها في العدة ودخل بها : فقال مالك والليث والأوزاعي يفرق بينهما ، ولا تحل له أبدا ، قال مالك والليث : ولا بملك اليمين ، واحتجوا بأن عمر - رضي الله عنه - قال : لا يجتمعان أبدا وتعتد منهما جميعا .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الثوري والكوفيون والشافعي : يفرق بينهما . فإذا انقضت عدتها من الأول فلا بأس أن يتزوجها . واحتجوا بإجماع العلماء أنه لو زنا بها لم يحرم عليه تزويجها ، فكذلك وطؤه إياها في العدة ، وهو قول علي ذكره عبد الرزاق ، وذكر عن ابن مسعود مثله ، وعن الحسن أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر عبد الرزاق عن الثوري ، عن الأشعث ، عن الشعبي ، عن مسروق أن عمر رجع عن ذلك ، وجعلهما يجتمعان .

                                                                                                                                                                                                                              واختلفوا هل تعتد منهما : فروى المدنيون عن مالك أنها تتم بقية عدتها من الأول ، وتستأنف عدة أخرى من الآخر ، روي ذلك عن عمر وعلي ، وهو قول الليث والشافعي وأحمد وإسحاق .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن القاسم عن مالك أن عدة واحدة تكون لها جميعا ، سواء كانت بالحيض أو الحمل أو الشهور ، وهو قول الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة ، وحجتهم الإجماع على أن الأول لا ينكحها في بقية العدة ، فدل ذلك على أنها في عدة من الثاني ; ولولا ذلك لنكحها في عدتها منه ، وهذا غير لازم ; لأن منع الأول من أن ينكحها في بقية عدتها إنما وجب ; لما يتلوها من عدة الثاني ، وهما حقان قد أوجبا عليها لزوجين ،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 384 ] كسائر حقوق الآدميين ، لا يدخل أحدهما في صاحبه .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              قال الشافعي : والعدة التي أذن بالتعريض فيها هي العدة من وفاة الزوج ، ولا أحب ذلك في العدة من الطلاق الثاني احتياطا ، وإنما التي لزوجها عليها رجوع فلا يجوز لأحد أن يعرض لها بالخطبة فيها .

                                                                                                                                                                                                                              وحاصل مذهبه أن التصريح بالخطبة حرام لجميع المعتدات ، وأما التعريض فيحرم للرجعية ، ويحل التعريض في عدة الوفاة والبائن .

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى قوله : (يعرض ولا يبوح ) يريد : ولا يصرح . يقال : باح بسره إذا أفشاه .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن حزم : لا يحل لأحد أن يخطب معتدة من طلاق أو وفاة ، فإن تزوجها قبل تمام العدة فسخ أبدا ، دخل بها أو لم يدخل ، طالت مدته معها أو لم تطل ، ولا توارث بينهما ، ولا نفقة لها عليه ، ولا صداقا ، ولا مهرا ، فإن كان أحدهما عالما فعليه حد الزنا من جلد أو رجم ، وكذلك إن علما جميعا ، ولا يلحق الولد به إن كان عالما ، فإن كانا جاهلين فلا شيء عليهما ، فإن كان الرجل جاهلا لحقه الولد ، فإذا فسخ النكاح وتمت عدتها فله أن يتزوجها إلا أن يكون الرجل طلق امرأته ، فله أن يرجعها في عدتها منه ما لم يكن طلاق ثلاث .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 385 ] فصل :

                                                                                                                                                                                                                              تضمنت آية الباب أربعة أحكام : اثنان ممنوعان وهما النكاح في العدة والمواعدة ، واثنان مباحان : التعريض والإكنان .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              قول عطاء : وإن واعدت رجلا في عدتها إلى آخره هو خلاف ما في "المدونة " من التفريق ، وإن لم يدخل استحبابا ، ونقل أشهب عنه يفرق مطلقا . زاد أشهب في "الموازية " ولا تحل له أبدا . قال عمر بن الخطاب : لا يجتمعان أبدا ، وقد سلف .

                                                                                                                                                                                                                              واختلف إذا دخل بعد العدة ، وقد نكح فيها ، فقال مالك في "المدونة " : يتأبد التحريم . وقال المغيرة : يتزوجها بعد الاستبراء من الماء الفاسد . وذكر ابن الجلاب أنه إذا نكح في العدة ولم يدخل بها روايتان تأبد التحريم وعدمه ، وذكر روايتين أيضا إذا دخل في العدة عالما بالتحريم هل تحل أم لا ويتزوجها إذا انقضت المدة أو تأبد تحريمها عليه ، فتحصلنا على أربع مسائل : تأبده إذا واعد فيها ، وإذا نكح فيها ولم يدخل ، وإذا نكح فيها ودخل بعد ، وإذا نكح فيها ودخل فيها عالما بالتحريم .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية