الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بعض الأحاديث الواردة في النهي عن النياحة وبيان عقوبة النائحات في الآخرة

وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة، والمستمعة. رواه أبو داود.

أي: التي تنوح على الموتى برفع صوتها، وبيان فضائلهم، والتي تقصد السماع، ويعجبها.

[ ص: 451 ] واللعنة عليهما دليل البعد عن رحمة الله، وأن النوح وسماعه من الكبائر المنهي عنها.

ويزيده إيضاحا، حديث ابن عمر، قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه، وجده في غاشية؛ أي: شدة من الأمراض، فقال: "قد قضى؟"، قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: رحمة عليه، فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم، بكوا، فقال: "ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا"، وأشار إلى لسانه، "أو يرحم، وإن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه". متفق عليه.

وفي حديث المغيرة بن شعبة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من نيح عليه، فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة" متفق عليه.

ويتضح من هذا معنى الحديث السابق.

ولكن قالت عائشة في حديث ابن عمر: لكنه نسي وأخطأ، إنما مر الرسول صلى الله عليه وسلم على يهودية تبكي، فقال: "إنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها" متفق عليه.

قلت: إنما يمشي هذا في حديثه الآخر، وأما حديث الباب، فليس فيه قصة اليهودية أصلا، والحديث مخرج في "الصحيحين"، ويؤيده حديث عمر بن الخطاب بلفظ: "إن الميت ليعذب ببعض بكائه عليه"، ولكن أنكرته عائشة أيضا، كما في الحديث المتفق عليه، ولهذا اختلف العلماء فيه.

فذهب الجمهور على أن الوعيد في حق من أوصى بأن يبكى عليه، ويناح بعد موته، فنفذت وصيته، فهذا يعذب ببكاء أهله عليه، ونوحتهم عليه؛ لأنه سببه.

وأما من بكوا عليه، وناحوا من غير وصية منه، فلا؛ لقوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى .

وقيل: أراد بالميت: المشرف على الموت؛ فإنه يشتد عليه الحال ببكائهم، وصراخهم، وجزعهم، وصياحهم عنده.

[ ص: 452 ] وقيل: هذا في بعض الأموات، كان يعذب في زمان بكائهم عليه.

وهذا الوجه، وما قبله ضعيف؛ لما في رواية: "يعذب في قبره بما نيح عليه"، وفي الأخرى: "الميت يعذب ببكاء الحي إذا قالت النائحة: واعضداه! واناصراه! قيل له: أنت عضدها؟ وأنت ناصرها؟".

ثم أجمعوا على أن المراد بالبكاء: البكاء بصوت ونياحة، لا بمجرد الدمعة.

ذكره علي القاري في "المرقاة".

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" متفق عليه.

ويزيده إيضاحا حديث أبي بردة، قال: أغمي على أبي موسى، فأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة؛ أي: بصوت فيه البكاء، مع ترجيع، ثم أفاق فقال: ألم تعلمي؟ وكان يحدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء ممن حلق"؛ أي: شعره، "وصلق"؛ أي: رفع الصوت بالبكاء والنوحة، "وخرق"؛ أي: قطع ثوبه في المصيبة. متفق عليه، ولفظه لمسلم.

وفي حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب" رواه مسلم.

وعد النياحة في هذا الحديث من أمر الجاهلية.

والمعنى: يسلط على أعضائها الجرب والحكة، فيطلى مواقعه بالقطران ليداوى به، فيكون الدواء أدوى من الداء؛ لاشتماله على لدغة، وحرقة، وإسراع النار إليه، ونتن الريح.

"والقطران": ما يتحلب من شجر يسمى "أبهل" فيطبخ، فيطلى به موضع الجرب، فيحرقه بحره وحدته، وقد تبلغ حرارته الجوف.

"والسرابيل": قميص لا يختص بالنساء، "والدرع": قميص للنساء. وهذه الأحاديث تدل على المنع من هذه الأمور المتقدمة، وعلى أنها من [ ص: 453 ] الكبائر، وأنها مخرجة الفاعلة عن دائرة أهل الإسلام، وأنها من خصال الجاهلية التي نفاها النبي صلى الله عليه وسلم، ونهى عنها نهيا كثيرا في مواضع عديدة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء من أهل هذه الأفعال. وهذا وعيد شديد جدا، لا يقادر قدره.

وقد تنجر هذه المنكرات إلى عذاب الميت المسكين الغريب، فتعود هذه المحبة من النائحات عداوة في حقه، كما يدل له حديث أبي موسى، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من ميت يموت، فيقوم باكيهم فيقول: واجبلاه! واسيداه! ونحو ذلك، إلا وكل الله به ملكين يلهزانه ويقولان: أهكذا أنت؟!" رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، حسن.

وهذا القول منهم يقال له في عرف النساء: بيان، وأنه - في الحقيقة - لها قطران، ولمن نيح عليه خسران، وليس إلا بيان أنه ذهب الإيمان، وحصل لهما نقصان.

فيها أيها المسكين المدعو بالإنسان! عليك أن توصي أهل بيتك بألا ينوحوا عليك بعدما صرت في التراب، وغبت عن الخطاب؛ فإن ضرر ذلك عائد عليك، كما أنه يعود عليهم.

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه، فأخره رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: "مهلا يا عمر"، ثم قال: "إياكن ونعيق الشيطان".

سمى النياحة - هنا -: بالنعيق، وقد سماها فيما تقدم: برنة الشيطان، وكل ذلك ليكشف عن حقيقتها، وينبي عن طريقتها.

فالفاعلة لها أخت الشيطان، والشيطان أخوها. ثم قال: إنه مهما كان من العين ومن القلب، فمن الله - عز وجل -، ومن الرحمة، وما كان من اليد ومن اللسان، فمن الشيطان؛ أي: من إغوائه وإضلاله. رواه أحمد.

فيه جواز البكاء بلا نوح، وإسالة الدمع من العين بلا صوت. وفي البخاري تعليقا: لما مات الحسن بن الحسن بن علي، ضربت امرأته [ ص: 454 ] القبة على قبره سنة، ثم رفعت، فسمعت صائحا يقول: الأهل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه آخر: بل يئسوا فانقلبوا.

وعن ابن عمر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتبع جنازة معها رانة؛ أي: نائحة، صائحة. رواه أحمد، وابن ماجه.

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن النوائح يجعلن يوم القيامة صفين في جهنم، صف عن يمينهم، وصف عن يسارهم، فينبحن على أهل النار، كما ينبح الكلاب" رواه الطبراني في "الأوسط".

هذا بعض الأحاديث الواردة في وعيد النياحة وأهلها، والمقام لا يسع الكل.

وهذا المنكر أيضا مما شاع في عامة المسلمين وخاصتهم، والمانعون منه، الناهون عنه، قليل جدا.

وقد رفع هذا الأمر الملعون السنن المأثورة في هذا الباب؛ من الصبر والصلاة، والاستعانة بهما، والبكاء بالدمع فقط، والاسترجاع، ونحوها، فرحم الله امرأ عرف الحق وأجراه في ملكه، فإن لم يقدر، ففي بلده، فإن لم يقدر، ففي محلته، وإلا، فلا يعذر إذا لم يمحه من داره وبيته، فإنه مسؤول عن ذلك لا محالة؛ لأنه أمير منزله وأهله، بلا ريب وشبهة.

التالي السابق


الخدمات العلمية