الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون

"إذ" نصبت بإضمار فعل مقدر، تقديره: واذكر إذ قال ربك، و "البشر" ها هنا آدم، وهو مأخوذ من البشرة، وهي وجه الجلد في الأشهر من القول، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "وأنقوا البشرة" . وقيل: البشرة ما يلي اللحم، ومنه قولهم في المثل: "إنما يعاتب الأديم ذو البشرة"، لأن تلك الجهة هي التي تبشر، وأخبر الله تعالى الملائكة بعجب عندهم، وذلك أنهم كانوا مخلوقين من نور، فهي أجسام لطاف، فأخبرهم أنه لا يخلق جسما حيا ذا بشرة، وأنه يخلقه من صلصال، والبشر والبشارة أيضا أصلهما البشرة لأنهما فيها يظهران.

و"سويته" معناه: كملته وأتقنته حتى إذا استوت أجزاؤه على ما يجب، وقوله: من روحي إضافة خلق وملك إلى خالق مالك، أي: من الروح الذي هو لي، ولفظة الروح هنا للجنس، وقوله: "فقعوا" من وقع يقع، وفتحت القاف لأجل حرف الحلق، وهذه اللفظة تقوي أن سجود الملائكة إنما كان على المعهود عندنا، لا أنه خضوع وتسليم وإشارة كما قال بعض الناس، وشبهوه بقول الشاعر :

[ ص: 290 ]

فكلتاهما خرت وأسجد رأسها ... كما سجدت نصرانة لم تحنف



وهذا البيت يشبه أن يكون السجود فيه كالمعهود عندنا، وحكى الطبري في تفسير هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "خلق الله ملائكة وأمرهم بالسجود لآدم فأبوا، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق آخرين فكذلك، ثم خلق آخرين فأمرهم بالسجود فأطاعوا إلا إبليس فإنه كان من الأولين"، وقوله: "من الأولين" يحتمل أن يريد: من الأولين في حالهم وكفرهم، ويحتمل أن يريد في أنه بقي منهم.

وقوله: كلهم أجمعون هو عند سيبويه تأكيد بعد تأكيد، يتضمن الآخر ما تضمن الأول، وقال غيره: "كلهم" لو وقف عليه لصلحت للاستثناء، وصلحت على معنى المبالغة مع أن يكون البعض لم يسجد، وهذا كما يقول القائل: "كل الناس يعرف كذا"، وهو يريد أن المذكور أمر مشتهر، فلما قال: "أجمعون" رفع الاحتمال في أن يبقى منهم أحد، واقتضى الكلام أن جميعهم سجد، وقال المبرد : لو وقف على" كلهم" لاحتمل أن يكون سجودهم في مواطن كثيرة، فلما قال: "أجمعون" دل على أنهم سجدوا في موطن واحد.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

واعترض قول المبرد بأنه جعل قوله تعالى: "أجمعون" حالا. بمعنى "مجتمعين"، ويلزمه -على هذا- أن يكون "أجمعون" هنا على أن يقرب من التنكير إذ هو معرفة لكونه يلزم اتباع المعارف، والقراءة بالرفع تأبى قوله.

وقوله تعالى: إلا إبليس ، قيل: إنه استثناء من الأول، وقيل: إنه ليس من [ ص: 291 ] الأول، وهذا متركب على الخلاف في إبليس، هل هو من الملائكة أم لا؟ والظاهر من كثير من الأحاديث ومن هذه الآية أنه من الملائكة، وذلك أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود، ولو لم يكن إبليس من الملائكة لم يذنب في ترك السجود، وقد روي عن الحسن بن أبي الحسن أن إبليس إنما كان من قبيل الجن، ولم يكن قط ملكا، ونسب ابن فورك القول إلى المعتزلة، وتعلق من قال هذا بقوله تعالى في صفته: " كان من الجن " ، وقالت الفرقة الأخرى: لا حجة في هذا لأن الملائكة قد تسمى جنا لاستتارها وقد قال تعالى: وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا .

وقوله تعالى: قال يا إبليس ، قيل: إنه حينئذ سماه إبليس، وإنما كان اسمه قبل عزازيل، وهو من الإبلاس، وهو الإبعاد، أي: يا مبعد. وقالت طائفة: إبليس كان اسمه، وليس باسم مشتق، بل هو أعجمي، ويقضي بذلك أنه لا ينصرف، ولو كان عربيا مشتقا لكان كإجفيل، من أجفل، وغيره، ولكان منصرفا، قاله أبو علي الفارسي. وقوله: ألا تكون ، "أن" في موضع نصب، وقيل: في موضع خفض، والأصل: "مالك ألا تكون"، وقول إبليس: لم أكن لأسجد لبشر ليس هذا موضع كفره عند الحذاق، لأن إبايته إنما هي معصية فقط، وأما تعليله فإنما يقتضي أن الله خلق خلقا مفضولا وكلف خلقا أفضل منه أن يذل له، فكأنه قال: "وهذا جور"، وذلك أن إبليس لما ظن أن النار أفضل من الطين ظن أن نفسه أفضل من آدم من حيث النار يأكل الطين، فقاس وأخطأ في قياسه، وجهل أن الفضائل إنما هي حيث جعلها الله المالك للجميع، لا رب غيره.

التالي السابق


الخدمات العلمية