الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة السادسة والعشرون : قوله تعالى : { وامسحوا } : المسح : عبارة عن إمرار اليد على الممسوح خاصة ، وهو في الوضوء عبارة عن إيصال الماء إلى الآلة الممسوح بها ، والغسل عبارة عن إيصال الماء إلى المغسول ; وهذا معلوم من ضرورة اللغة ، وبيانه يأتي إن شاء الله .

                                                                                                                                                                                                              المسألة السابعة والعشرون : قوله تعالى : { برءوسكم } : والرأس عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ، ومنها الوجه ، فلما ذكره الله سبحانه في الوضوء وعين الوجه للغسل بقي باقيه للمسح . ولو لم يذكر الغسل أولا فيه [ ص: 60 ] للزم مسح جميعه : ما عليه شعر من الرأس ، وما فيه العينان والأنف والفم ; وهذا انتزاع بديع من الآية . وقد أشار مالك إلى نحوه ، فإنه سئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء ؟ فقال : أرأيت لو ترك بعض وجهه أكان يجزئه ؟ ومسألة مسح الرأس في الوضوء معضلة ، ويا طالما تتبعتها لأحيط بها حتى علمني الله تعالى بفضله إياها ; فخذوها مجملة في علمها ، مسجلة بالصواب في حكمها ; واستيفاؤها في كتب المسائل : اختلف العلماء في مسح الرأس على أحد عشر قولا :

                                                                                                                                                                                                              الأول : أنه إن مسح منه شعرة واحدة أجزأه .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : ثلاث شعرات .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : ما يقع عليه الاسم . ذكر لنا هذه الأقوال الثلاثة فخر الإسلام بمدينة السلام في الدرس عن الشافعي .

                                                                                                                                                                                                              الرابع : قال أبو حنيفة : يمسح الناصية .

                                                                                                                                                                                                              الخامس : قال أبو حنيفة : إن الفرض أن يمسح الربع .

                                                                                                                                                                                                              السادس : قال أيضا في روايته الثالثة : لا يجزيه إلا أن يمسح الناصية بثلاث أصابع أو أربع .

                                                                                                                                                                                                              السابع : يمسح الجميع ; قاله مالك .

                                                                                                                                                                                                              الثامن : إن ترك اليسير من غير قصد أجزأه ; أملاه علي الفهري .

                                                                                                                                                                                                              التاسع : قال محمد بن مسلمة : إن ترك الثلث أجزأه .

                                                                                                                                                                                                              العاشر : قال أبو الفرج : إن مسح ثلثه أجزأه .

                                                                                                                                                                                                              الحادي عشر : قال أشهب : إن مسح مقدمة أجزأه .

                                                                                                                                                                                                              فهذه أحد عشر قولا ، ومنزلة الرأس في الأحكام منزلته في الأبدان ، وهو عظيم الخطر فيهما جميعا ; ولكل قول من هذه الأقوال مطلع من القرآن والسنة : [ ص: 61 ] فمطلع الأول : أن الرأس وإن كان عبارة عن العضو فإنه ينطلق على الشعر بلفظه ، قال الله تعالى : { ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله } . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { احلق رأسك } ، والحلق إنما هو في الشعر ، إذا ثبت هذا تركب عليه : المطلع الثاني : وهو أن إضافة الفعل إلى الرأس ينقسم في العرف والإطلاق إلى قسمين : أحدهما : أنه يقتضي استيفاء الاسم .

                                                                                                                                                                                                              والثاني : يقتضي بعضه ; فإذا قلت : " حلقت رأسي " اقتضى في الإطلاق العرفي الجميع . وإذا قلت : مسحت الجدار أو رأس اليتيم أو رأسي اقتضى البعض ، فيتركب عليه : المطلع :

                                                                                                                                                                                                              الثالث : وهو أن البعض لا حد له مجزئ منه ما كان قال لنا الشاشي : لما قال الله تعالى : { ولا تحلقوا رءوسكم } وكان معناه شعر رءوسكم ، وكان أقل الجمع ثلاثا . قلنا : إن حلق ثلاث شعرات أجزأه ، وإن مسحها أجزأه ، والمسح أظهر ، وما يقع عليه الاسم أقله شعرة واحدة .

                                                                                                                                                                                                              المطلع الرابع : نظر أبو حنيفة إلى أن الوضوء إنما شرعه الله سبحانه فيما يبدو من الأعضاء في الغالب ، والذي يبدو من الرأس تحت العمامة الناصية ، ولا سيما وهذا يعتضد بالحديث الصحيح { أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح ناصيته وعمامته } . [ ص: 62 ]

                                                                                                                                                                                                              المطلع الخامس : أنه إذا ثبت مسح الناصية فلا يتيقن موضعها ; وإنما المقصود تعلق العبادة بالرأس ; فقد ثبت مسح النبي صلى الله عليه وسلم الناصية ، وهي نحو الربع فيتقدر الربع منه أين كان ، ومطلع الربع بتقدير الأصابع يأتي إن شاء الله ، ومطلع الجميع أن الله سبحانه وتعالى علق عبادة المسح بالرأس ، كما علق عبادة الغسل بالوجه ; فوجب الإيعاب فيهما بمطلق اللفظ .

                                                                                                                                                                                                              وقول الشافعي : إن مطلق القول في المسح لا يقتضي الإيعاب عرفا ، فما علق به ليس بصحيح ; إنما هو مبني على الأغراض وبحسب الأحوال ، تقول : مسحت الجدار ، فيقتضي بعضه من أجل أن الجدار لا يمكن تعميمه بالمسح حسا ، ولا غرض في استيعابه قصدا ، وتقول : مسحت رأس اليتيم لأجل الرأفة ، فيجزئ منه أقله بحصول الغرض به . وتقول : مسحت الدابة فلا يجزئ إلا جميعها ; لأجل مقصد النظافة فيها ، فتعلق الوظيفة بالرأس يقتضي عمومه بقصد التطهير فيه ; ولأن مطلق اللفظ يقتضيه ; ألا ترى أنك تقول : مسحت رأسي كله فتؤكده ، ولو كان يقتضي البعض لما تأكد بالكل ; فإن التأكيد لرفع الاحتمال المتطرق إلى الظاهر في إطلاق اللفظ . ومطلع من قال إن ترك اليسير من غير قصد أجزأه : أن تحقق عموم الوجه بالغسل ممكن بالحس ، وتحقق عموم المسح غير ممكن ; فسومح بترك اليسير منه دفعا للحرج . وهذا لا يصح ; فإن مرور اليد على الجميع ممكن تحصيله حسا وعادة . ومطلع من قال : إن ترك الثلث من غير قصد أجزأه : قريب مما قبله ، إلا أنه رأى الثلث يسيرا ، فجعله في حد المتروك لما رأى الشريعة سامحت به في الثلث وغيره . ومطلع من قال : إن مسح ثلثه أجزأه إلى أن الشرع قد أطلق اسم الكثير على الثلث في قوله من حديث سعد : " الثلث والثلث كثير " . [ ص: 63 ] ولحظ مطلع أبي حنيفة في الناصية حسبما جاء في الحديث ، ودل عليه ظاهر القرآن في تعلق العبادات بالظاهر . ومطلع قول أشهب في أن من مسح مقدمة أجزأه إلى نحو من ذلك تناصف ليس يخفى على اللبيب عند اطلاعه على هذه الأقوال والأنحاء المطلعات أن القوم لم يخرج اجتهادهم عن سبيل الدلالات في مقصود الشريعة ، ولا جاوزوا طرفيها إلى الإفراط ; فإن للشريعة طرفين : أحدهما : طرف التخفيف في التكليف . والآخر : طرف الاحتياط في العبادات . فمن احتاط استوفى الكل ، ومن خفف أخذ بالبعض . قلنا : في إيجاب الكل ترجيح من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                              أحدهما : الاحتياط .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : التنظير بالوجه ، لا من طريق القياس ; بل من مطلق اللفظ في ذكر الفعل وهو الغسل أو المسح ، وذكر المحل ; وهو الوجه أو الرأس .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أن كل من وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أنه مسح رأسه كله . فإن قيل : فقد ثبت أنه مسح ناصيته وعمامته ، وهذا نص على البعض ؟ قلنا : بل هو نص على الجميع ; لأنه لو لم يلزم الجميع لم يجمع بين العمامة والرأس . فلما مسح بيده على ما أدرك من رأسه وأمر يده على الحائل بينه وبين باقيه أجراه مجرى الحائل من جبيرة أو خف ، ونقل الفرض إليه كما نقله في هذين . [ ص: 64 ] جواب آخر : وهو أن هذا الخبر حكاية حال وقضية في عين ; فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مزكوما فلم يمكنه كشف رأسه ; فمسح البعض ومر بيده على جميع البعض ، فانتهى آخر الكف إلى آخر الناصية ، فأمر اليد على العمامة ، فظن الراوي أنه قصد مسح العمامة ، وإنما قصد مسح الناصية بإمرار اليد ; وهذا مما يعرف مشاهدة ، ولهذا لم يرو عنه قط شيء من ذلك في أطواره بأسفاره على كثرتها .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثامنة والعشرون : ظن بعض الشافعية وحشوية النحوية أن الباء للتبعيض ، ولم يبق ذو لسان رطب إلا وقد أفاض في ذلك حتى صار الكلام فيها إجلالا بالمتكلم ، ولا يجوز لمن شدا طرفا من العربية أن يعتقد في الباء ذلك ، وإن كانت ترد في موضع لا يحتاج إليها فيه لربط الفعل بالاسم ، فليس ذلك إلا لمعنى ; تقول : مررت بزيد ، فهذا لإلصاق الفعل بالاسم ، ثم تقول : مررت زيدا فيبقى المعنى . وفي ذلك خلاف بيانه في ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين " .

                                                                                                                                                                                                              وقد طال القول في هذا الباب ، وترامت فيه الخواطر في المختصر حتى أفادني فيه بعض أشياخي في المذاكرة والمطالعة فائدة بديعة : وذلك أن قوله : { فامسحوا } يقتضي ممسوحا ، وممسوحا به . والممسوح الأول هو ما كان . والممسوح الثاني هو الآلة التي بين الماسح والممسوح ، كاليد والمحصل للمقصود من المسح ، وهو المنديل ; وهذا ظاهر لا خفاء به ; فإذا ثبت هذا فلو قال : امسحوا رءوسكم لأجزأ المسح باليد إمرارا من غير شيء على الرأس لا ماء ولا سواه ، فجاء بالباء لتفيد ممسوحا به ، وهو الماء ، فكأنه قال : فامسحوا برءوسكم الماء ، من باب المقلوب ، والعرب تستعمله ، وقد أنشد سيبويه : كنواح ريش حمامة نجدية ومسحت باللثتين عصف الإثمد مثله : " مثل القنافذ " . ومثله : { من فضة قدروها تقديرا } . [ ص: 65 ]

                                                                                                                                                                                                              واللثة : هي الممسوحة بعصف الإثمد ، فقلب . ولكن الأمر بين والفصاحة قائمة ، وإلى هذا النحو أشار أبو حنيفة في شرطه الرابع بالثلاثة الأصابع أو الأربع ; فإنه قال : لا بد أن يكون هنالك ممسوح به لأجل الباء ، فكأنه تعالى قال : فامسحوا بأكفكم رءوسكم . والكف خمس أصابع ومعظمها ثلاث وأربع ، والمعظم قائم مقام الكل على مذهبه في أصول الشريعة ، ففطن أن إدخال الباء لمعنى ، وغفل عن أن لفظ المسح يقتضي اليد لغة وحقيقة ; فجعل فائدة الباء التعلق باليد . وهذه عثرة لفهمه لا يقالها ، ووفق الله هذا الإمام الذي أفادني هذه الفائدة فيها ، إن شاء الله ، والله ينفعني وإياكم برحمته .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية