الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      485 حدثنا يحيى بن الفضل السجستاني وهشام بن عمار وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقيان بهذا الحديث وهذا لفظ يحيى بن الفضل السجستاني قالوا حدثنا حاتم بن إسمعيل حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو حزرة عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت أتينا جابرا يعني ابن عبد الله وهو في مسجده فقال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا وفي يده عرجون ابن طاب فنظر فرأى في قبلة المسجد نخامة فأقبل عليها فحتها بالعرجون ثم قال أيكم يحب أن يعرض الله عنه بوجهه ثم قال إن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله قبل وجهه فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبزق عن يساره تحت رجله اليسرى فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا ووضعه على فيه ثم دلكه ثم قال أروني عبيرا فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله فجاء بخلوق في راحته فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله على رأس العرجون ثم لطخ به على أثر النخامة قال جابر فمن هناك جعلتم الخلوق في مساجدكم

                                                                      التالي السابق


                                                                      ( يعقوب بن مجاهد أبو حزرة ) بتقديم الزاء المعجمة وبعدها راء مهملة . قال الحافظ في التقريب : يعقوب بن مجاهد القاص ، يكنى أبا حزرة بفتح المهملة [ ص: 111 ] وسكون الزاء وهو بها أشهر ، صدوق من السادسة مات سنة تسع وأربعين أو بعدها ( وفي يده ) أي النبي صلى الله عليه وسلم ( عرجون بن طاب ) قال العيني : والعرجون بضم العين هو العود الأصغر الذي فيه الشماريخ إذا يبس واعوج وهو من الانعراج وهو الانعطاف وجمعه عراجين ، والواو والنون فيه زائدتان . وابن طاب رجل من أهل المدينة ينسب إليه نوع من تمر المدينة ، ومن عاداتهم أنهم ينسبون ألوان التمر كل لون إلى أحد . انتهى . وقال الخطابي : العرجون عود كباسة النخل وهو العذق ، وسمي عرجونا لانعراجه وهو انعطافه وابن طاب وهو اسم لنوع من أنواع النخل منسوب إلى ابن طاب ، كما نسب ألوان التمر ، فقيل : لون ابن حبيق [ هو بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وبعدها ياء ساكنة على وزن زبير ، وابن حبيق رجل ينسب إليه ألوان التمر ] ولون كذا ولون كذا . انتهى .

                                                                      قلت : قال في المصباح المنير : الكباسة العذق وهو عنقود النخل ، وهو جامع الشماريخ ( فنظر ) أي فطالع ( فرأى في قبلة المسجد نخامة ) قيل هي ما يخرج من الصدر . قال علي القاري : أي جدار المسجد الذي يلي القبلة ، وليس المراد بها المحراب الذي يسميه الناس قبلة ؛ لأن المحاريب من المحدثات بعده صلى الله عليه وسلم ومن ثم كره جمع من السلف اتخاذها والصلاة فيها قال القضاعي : وأول من أحدث ذلك عمر بن عبد العزيز وهو يومئذ عامل للوليد بن عبد الملك على المدينة لما أسس مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهدمه وزاد فيه ، ويسمى موقف الإمام من المسجد محرابا لأنه أشرف مجالس المسجد ، ومنه قيل للقصر محراب لأنه أشرف المنازل ، وقيل المحراب مجلس الملك سمي به لانفراده فيه ، وكذلك محراب المسجد لانفراد الإمام فيه . وقيل سمي بذلك لأن المصلي يحارب فيه الشيطان . قال الطيبي : النخامة البزاقة التي تخرج من أقصى الحلق ومن مخرج الخاء المعجمة ، وهو كذا في النهاية وهو المناسب لقوله الآتي فلا يبزقن ، لكن قوله : من أقصى الحلق غير صحيح إذ الخاء المعجمة مخرجها أدنى الحلق . وقال في المغرب : النخاعة والنخامة ما يخرج من الخيشوم عند التنحنح . وفي القاموس النخاعة النخامة أو ما يخرج من الخيشوم . انتهى .

                                                                      قلت : ما قاله القاري من أن المحاريب من المحدثات بعده صلى الله عليه وسلم فيه نظر ، لأن وجود [ ص: 112 ] المحراب زمن النبي صلى الله عليه وسلم يثبت من بعض الروايات ، أخرج البيهقي في السنن الكبرى من طريق سعيد بن عبد الجبار بن وائل عن أبيه عن أمه عن وائل بن حجر قال : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهض إلى المسجد فدخل المحراب ثم رفع يديه بالتكبير الحديث . وأم عبد الجبار هي مشهورة بأم يحيى كما في رواية الطبراني في معجم الصغير . وقال الشيخ ابن الهمام من سادات الحنفية : ولا يخفى أن امتياز الإمام مقرر مطلوب في الشرع في حق المكان حتى كان التقدم واجبا عليه ، وبنى في المساجد المحاريب‍ من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى . وأيضا لا يكره الصلاة في المحاريب ، ومن ذهب إلى الكراهة فعليه البينة ، ولا يسمع كلام أحد من غير دليل ولا برهان .

                                                                      ( فأقبل عليها ) أي توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى النخامة ( فحتها بالعرجون ) أي حك النخامة بالعرجون . ومضى تفسير العرجون وهذا يدل على أنه باشر بيده بعرجون فيها ، وفي رواية للبخاري : فقام فحكه بيده ( أن يعرض الله ) من الإعراض ( فإن الله قبل وجهه ) قبل بكسر القاف وفتح الباء الموحدة أي جهة . قال الخطابي : تأويله أن القبلة التي أمره الله بالتوجه إليها بالصلاة قبل وجهه فليصنها عن النخامة وفيه إضمار حذف واختصار كقوله تعالى : وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم أي حب العجل ، وكقوله تعالى : واسأل القرية التي كنا فيها يريد أهل القرية ، ومثله في الكلام كثير . وإنما أضيفت تلك الجهة إلى الله تعالى على سبيل التكرمة كما قالوا : بيت الله وناقته وكعبة الله ونحو ذلك من الكلام ، وفيه من الفقه أن النخامة طاهرة ، ولو لم تكن طاهرة لم يكن يأمر المصلي بأن يدلكها بثوبه .

                                                                      ( فلا يبصقن قبل وجهه ) أي لا يبزقن جهة وجهه ( ولا عن يمينه ) تعظيما لليمين وزيادة لشرفها ( عن يساره تحت رجله اليسرى ) بحذف كلمة أو ، ومر بيانه ( فإن عجلت به ) أي بالرجل ( بادرة ) أي حدة ، وبادرة الأمر حدته ، والمعنى إذا غلب عليه البصاق والنخامة ( فليقل بثوبه هكذا ) أي فليفعل بثوبه هكذا ( ووضعه على فيه ثم دلكه ) أي وضع النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه على فمه حتى يتلاشى البزاق فيه ثم دلك الثوب ، وهذا عطف تفسيري لقوله : فليقل بثوبه هكذا ( أروني ) من الإراءة ( عبيرا ) بالباء الموحدة وبعدها [ ص: 113 ] ياء على وزن أمير ، قال ابن الأثير في النهاية : العبير نوع من الطيب ذو لون يجمع من أخلاط ( فقام فتى ) أي شاب ( من الحي ) من القبيلة ( يشتد ) أي يعدو ( فجاء بخلوق ) بفتح الخاء المعجمة . قال ابن الأثير في النهاية : الخلوق طيب معروف مركب يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب وتغلب عليه الحمرة والصفرة ( في راحته ) أي في كفه ( فأخذه ) أي الخلوق ( فجعله ) أي الخلوق ( على رأس العرجون ) مر تفسير العرجون معناه بالفارسية خوشه خرما يا خوشه خرما كه خشك وكج كردد ( ثم لطخ به ) أي لوث النبي صلى الله عليه وسلم بالخلوق الذي على رأس العرجون . قال الحافظ : في الحديث من الفوائد الندب إلى إزالة ما يستقذر أو يتنزه عنه من المسجد ، وتفقد الإمام أحوال المساجد وتعظيمها وصيانتها ، وأن للمصلي أن يبصق وهو في الصلاة ولا تفسد صلاته ، وأن النفخ والتنحنح في الصلاة جائزان لأن النخامة لا بد أن يقع معها شيء من نفخ أو تنحنح ، ومحله ما إذا لم يفحش ولم يقصد صاحبه العبث ولم يبين منه مسمى كلام وأقله حرفان أو حرف ممدود ، وفيه أن البصاق طاهر وكذا النخامة والمخاط خلافا لمن يقول كل ما تستقذره النفس حرام . ويستفاد منه أن التحسين أو التقبيح إنما هو بالشرع ، فإن جهة اليمين مفضلة على اليسار ، وأن اليد مفضلة على القدم وفيه الحث على الاستكثار من الحسنات وإن كان صاحبها مليا لكونه صلى الله عليه وسلم باشر الحك بنفسه وهو دال على عظم تواضعه زاده الله تشريفا وتعظيما صلى الله عليه وسلم انتهى وفيه احترام جهة القبلة ، وفيه إذا بزق يبزق عن يساره ولا يبزق أمامه تشريفا للقبلة ، ولا عن يمينه تشريفا لليمين ، وفيه جواز صنع الخلوق في المساجد . قال المنذري : والحديث أخرجه مسلم مطولا .




                                                                      الخدمات العلمية