الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        296 - الحديث الثاني : عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال { جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت : يا رسول الله ، قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال ، ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : لا قلت : فالشطر يا رسول الله ؟ قال : لا قلت : فالثلث قال : الثلث ، والثلث كثير إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها ، حتى ما تجعل في [ ص: 546 ] في امرأتك قال قلت : يا رسول الله أخلف بعد أصحابي ؟ قال : إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ، ويضر بك آخرون . اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة }

                                        التالي السابق


                                        فيه دليل على عيادة الإمام أصحابه ، ودليل على ذكر شدة المرض لا في معرض الشكوى وفيه دليل على استحباب الصدقة لذوي الأموال وفيه دليل على مبادرة الصحابة ، وشدة رغبتهم في الخيرات ، لطلب سعد التصدق بالأكثر



                                        ، وفيه دليل على تخصيص الوصية بالثلث وفيه دليل على أن الثلث في حد الكثرة في باب الوصية وقد اختلف مذهب مالك في الثلث بالنسبة إلى مسائل متعددة ، ففي بعضها جعل في حد الكثرة ، وفي بعضها جعل في حد القلة ، فإذا جعل في حد الكثرة استدل بقوله صلى الله عليه وسلم { والثلث كثير } إلا أن هذا يحتاج إلى أمرين أحدهما : أن لا يعتبر السياق الذي يقتضي تخصيص كثرة الثلث بالوصية ، بل يؤخذ لفظا عاما والثاني : أن يدل دليل على اعتبار مسمى الكثرة في ذلك الحكم فحينئذ يحصل المقصود ، بأن يقال : الكثرة معتبرة في هذا الحكم ، والثلث كثير فالثلث معتبر ، ومتى لم تلمح كل واحدة من هاتين المقدمتين : لم يحصل المقصود .

                                        مثال من ذلك : ذهب بعض أصحاب مالك إلى أنه إذا مسح ثلث رأسه في الوضوء : أجزأه ; لأنه كثير للحديث فيقال له : لم قلت إن مسمى الكثرة معتبر في المسح ؟ فإذا أثبته قيل له : لم قلت إن مطلق الثلث كثير ، وإن كل ثلث فهو كثير بالنسبة إلى كل حكم ؟ وعلى هذا فقس سائر المسائل ، فيطلب فيها تصحيح كل [ ص: 547 ] واحدة من المقدمتين



                                        وفيه دليل على أن طلب الغني للورثة راجح على تركهم فقراء عالة يتكففون الناس ومن هذا : أخذ بعضهم استحباب الغض من الثلث ، وقالوا أيضا : ينظر إلى قدر المال في القلة والكثرة ، فتكون الوصية بحسب ذلك اتباعا للمعنى المذكور في الحديث ، من ترك الورثة أغنياء



                                        وفيه دليل على أن الثواب في الإنفاق : مشروط بصحة النية في ابتغاء وجه الله وهذا دقيق عسر ، إذا عارضه مقتضى الطبع والشهوة ، فإن ذلك لا يحصل الغرض من الثواب ، حتى يبتغي به وجه الله . ويشق تخليص هذا المقصود مما يشوبه من مقتضى الطبع والشهوة



                                        وقد يكون فيه دليل على أن الواجبات المالية إذا أديت على قصد الواجب وابتغاء وجه الله : أثيب عليها فإن قوله " حتى ما تجعل في في امرأتك " لا تخصيص له بغير الواجب ، ولفظة " حتى " ههنا تقتضي المبالغة في تحصيل هذا الأجر بالنسبة إلى المغيا ، كما يقال : جاء الحاج حتى المشاة ، ومات الناس حتى الأنبياء فيمكن أن يقال : سبب هذا : ما أشرنا إليه من توهم أن أداء الواجب قد يشعر بأنه لا يقتضي غيره ، وأن لا يزيد على تحصيل براءة الذمة ، ويحتمل أن يكون ذلك دفعا لما عساه يتوهم ، من أن إنفاق الزوج على الزوجة ، وإطعامه إياها ، واجبا أو غير واجب : لا يعارض تحصيل الثواب إذا ابتغى بذلك وجه الله كما جاء في حديث زينب الثقفية ، لما أرادت الإنفاق من عندها ، وقالت " لست بتاركتهم " وتوهمت أن ذلك مما يمنع الصدقة عليهم ، فرفع ذلك عنها ، وأزيل الوهم نعم في مثل هذا يحتاج إلى النظر في أنه هل يحتاج إلى نية خاصة في الجزئيات ، أم تكفي نية عامة ؟ وقد دل الشرع على الاكتفاء بأصل النية وعمومها في باب الجهاد ، حيث قال " لو مر بنهر ، ولا يريد أن يسقي به ، فشربت : كان له أجر " أو كما قال : فيمكن أن يعدى هذا إلى سائر الأشياء فيكتفى بنية مجملة أو عامة ولا يحتاج في الجزئيات إلى ذلك .

                                        وقوله عليه السلام " ولعلك أن تخلف إلخ " تسلية لسعد على كراهيته للتخلف بسبب المرض الذي وقع له وفيه إشارة إلى تلمح هذا المعنى ، حيث تقع [ ص: 548 ] بالإنسان المكاره ، حتى تمنعه مقاصد له ، ويرجو المصلحة فيما يفعله الله تعالى وقوله عليه السلام { اللهم أمض لأصحابي هجرتهم } لعله يراد به : إتمام العمل على وجه لا يدخله نقض ، ولا نقض لما ابتدئ به .

                                        وفيه دليل على تعظيم أمر الهجرة ، وأن ترك إتمامها مما يدخل تحت قوله " ولا تردهم على أعقابهم "




                                        الخدمات العلمية