الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                7224 7225 ص: فإن قال قائل : فقد قال الله -عز وجل - : وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ثم

                                                [ ص: 221 ] قال : ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن فجعل ما ملكت أيمانهن كذي الرحم المحرم فيهن قيل له : ما جعلهن كذلك ولكنه ذكر جماعة مستثنين من قوله -عز وجل - : ولا يبدين زينتهن فذكر البعول وذكر الآباء ومن ذكر معهم مثل ما ذكره وما ملكت أيمانهم ، فلم يكن جمعه بينهم بدليل على استواء أحكامهم ، لأنا قد رأينا البعل قد يجوز له أن ينظر من امرأته إلى ما لا ينظر إليها أبوها منها .

                                                ثم قال : أو ما ملكت أيمانهن فلا يكون ضمه أولئك مع ما قبلهم بدليل أن حكمهم مثل حكمهم ، ولكن الذي أبيح بهذه الآية للمملوكين من النظر إلى النساء إنما هو ما ظهر من الزينة وهو الوجه والكفان ، وفي إباحته ذلك للمملوكين وليسوا بذوي أرحام محرمة دليل على أن الأحرار الذين ليسوا بذوي أرحام محرمة من النساء في ذلك كذلك ، وقد بين هذا المعنى ما في حديث عبد بن زمعة من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسودة : " : " احتجبي منه " فأمرها بالحجاب منه وهو ابن وليدة أبيها ، وليس يخلو أن يكون أخاها أو ابن وليدة أبيها فيكون مملوكا لها ولسائر ورثة أبيها ، فعلمنا أن النبي -عليه السلام - لم يحجبها منه ; لأنه أخوها ولكن لأنه غير أخيها وهو في ذلك الحال مملوك فلم يحل له -برقه - النظر إليها ، فقد ضاد هذا الحديث حديث أم سلمة ، وخالفه ، وصارت الآية التي ذكرنا على قول هذا الذاهب إلى حديث سودة أنها على سائر النساء دون أمهات المؤمنين ، وأن عبيد أمهات المؤمنين كانوا في حكم النظر إليهن في حكم الغرباء منهن الذين لا رحم بينهم وبينهن ، لا في حكم ذوي الأرحام منهن المحرمة ، فكل من كان بينهن وبينهم محرم فهو عندنا في حكم ذوي الأرحام منهن المحرمة في منع ما وصفنا .

                                                [ ص: 222 ] ثم رجعنا إلى النظر لنستخرج به من القولين قولا صحيحا ، فرأينا ذا الرحم لا بأس أن ينظر إلى المرأة التي هو لها محرم إلى وجهها وصدرها وشعرها وما دون ركبتيها ، ورأينا القريب منها ينظر إلى وجهها وكفيها فقط ، ثم رأينا العبد حرام عليه -في قولهم جميعا - أن ينظر إلى صدر المرأة مكشوفا أو إلى ساقيها ، وسواء كان رقه لها أو لغيرها ،

                                                فلما كان فيما ذكرنا كالأجنبي منها لا كذي رحمها المحرم عليها ; كان في النظر إلى شعرها أيضا كالأجنبي لا كذي رحمها المحرم عليها .

                                                فهذا هو النظر في هذا الباب ، وهو قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، -رحمهم الله - ، وقد وافقهم في ذلك من المتقدمين الحسن ، والشعبي . .

                                                حدثنا صالح بن عبد الرحمن ، قال : ثنا سعيد بن منصور ، قال : ثنا هشيم ، قال : أنا مغيرة ، عن الشعبي ، ويونس ، عن الحسن : " ، أنهما كرها أن ينظر العبد إلى شعر مولاته " .

                                                التالي السابق


                                                ش: تقرير السؤال أن يقال : إن قوله تعالى : وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن الآية يدل على جواز نظر العبد إلى شعر مولاته ; وذلك لأن الله تعالى قال : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ثم استثنى من ذلك البعولة والآباء ومن ذكر معهم ، وذكر في جملة ذلك أو ما ملكت أيمانهن فجعل ما ملكت أيمانهن كذي الرحم المحرم منهن .

                                                وتقرير الجواب أن يقال : لا نسلم أنه جعل ما ملكت أيمانهن كذلك ، بل ذكر جماعة واستثناهم من قوله : ولا يبدين زينتهن فذكر البعولة وهو جمع بعل وهو الزوج ، وكذلك ذكر الآباء وجماعة معهم قبل ذكر قوله : أو ما ملكت أيمانهن وليس جمعه إياهم في الذكر دليلا على استواء أحكامهم ، ألا ترى أن البعل الذي هو الزوج قد يجوز له أن ينظر من امرأته إلى ما لا يجوز له نظر أبيها إليه منها ، يدل ذلك على أن الجمع بينهم في الذكر لا يدل على استواء الحكم .

                                                [ ص: 223 ] وقال الجصاص في هذه الآية : قال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب : إن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته ، وهو مذهب أصحابنا إلا أن يكون ذا رحم محرم منها ، وتأولوا قوله تعالى : أو ما ملكت أيمانهم على الإماء ; لأن العبد والحر في التحريم سواء ، فهي وإن لم يجز لها أن تتزوجه وهو عبدها ; فإن ذلك تحريم عارض ، ثم قال : فإن قال قائل : هذا يؤدي إلى إبطال فائدة ذكر ملك اليمين في هذا الموضع .

                                                قيل له : ليس كذلك ; لأنه قد ذكر النساء في الآية بقوله : أو نسائهن وأراد بهن الحرائر المسلمات ، فجاز أن يظن ظان أن الإماء لا يجوز لهن النظر إلى شعر مولاتهن وإلى غيره مما يجوز للمحرم النظر إليه منها ، فأبان الله تعالى أن الأمة والحرة في ذلك سواء ، وإنما خص نساءهن بذكر في هذا الموضع ; لأن جميع من ذكر قبلهن هم الرجال ، بقوله : ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن إلى آخر ما ذكر ، فكان جائز أن يظن ظان أن الرجال مخصوصون بذلك إذا كانوا ذوي محارم ، فأبان تعالى إباحة النظر إلى هذه المواضع من نسائهن سواء كن ذوات محارم أو غير ذوات محارم ، ثم عطف على ذلك الإماء بقوله : أو ما ملكت أيمانهم لئلا يظن ظان أن الإباحة مقصورة على الحرائر من النساء ، إذ كان ظاهر قوله : أو نسائهن يقتضي الحرائر دون الإماء ، كما كان قوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم على الحرائر دون المماليك ، وقوله : شهيدين من رجالكم فإن على الحرائر ، ثم عطف عليهن الإماء ، فأباح لهن مثل ما أباح في الحرائر . انتهى .

                                                قوله : "وليسوا بذوي أرحام " الواو فيه للحال .

                                                قوله : "وقد بين هذا المعنى " أراد به المعنى الذي ذكره بقوله : "وفي إباحة ذلك للمملوكين . . . . " إلى آخره .

                                                [ ص: 224 ] قوله : "وهو ابن وليدة أبيها " أي ابن أمة أبيها ، وهذا باب فيه كلام كثير يأتي تحقيقه في باب : الأمة يطأها مولاها ثم يموت . إن شاء الله تعالى .

                                                قوله : "فقد ضاد هذا الحديث " أراد به حديث عبد بن زمعة ، وأراد بحديث أم سلمة هو الحديث المذكور في أول الباب الذي احتجت به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من جواز نظر العبد إلى شعر مولاته .

                                                وجه التضاد بينهما ظاهر يعلم بأدنى تأمل .

                                                قوله : "ثم رجعت إلى النظر " أي إلى وجه النظر والقياس "لنستخرج به " أي بالنظر والرأي "من القولين " وهما قول أهل المقالة الأولى المحتجين بحديث أم سلمة ، وقول أهل المقالة الثانية .

                                                قوله : "وقد وافقهم في ذلك " أي : وقد وافق أبا حنيفة وصاحبيه فيما ذهبوا إليه من المتقدمين : الحسن البصري وعامر بن شراحيل الشعبي .

                                                وخرج ذلك عنهما بإسناد صحيح ، عن صالح بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن منصور ، عن هشيم بن بشير ، عن المغيرة بن مقسم الضبي الكوفي عن عامر الشعبي وعن المغيرة عن يونس بن عبيد بن دينار البصري ، عن الحسن البصري .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه " : عن أبي الأحوص ، عن مغيرة نحوه .




                                                الخدمات العلمية