الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين وقل إني أنا النذير المبين كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون

قال ابن عباس رضي الله عنهما، وابن مسعود ، وابن عمر، ومجاهد ، وابن جبير : السبع هنا هي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، [ ص: 316 ] والمص، والأنفال مع براءة، وقال ابن جبير : بل السابعة يونس: وليست الأنفال وبراءة منها. و"المثاني" - على قول هؤلاء- القرآن كله، كما قال تعالى: كتابا متشابها مثاني ، وسمي بذلك لأن القصص والأخبار تثنى فيه وتردد.

وقال عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب ، وابن عباس أيضا، وابن مسعود ، والحسن، وابن أبي مليكة، وعبيد بن عمير، وجماعة: السبع هنا هي آيات الحمد، قال ابن عباس : هن سبع بالبسملة، وقال غيره: هن سبع دون البسملة، وروي في هذا حديث أبي بن كعب ونصه: قال أبي: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أعلمك يا أبي سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها" ؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: "إني لأرجو أن لا تخرج من ذلك الباب حتى تعلمها"، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمت معه، ويدي في يده، وجعلت أبطئ مخافة أن أخرج، فلما دنوت من باب المسجد قلت: يا رسول الله، السورة التي وعدتنيها؟ فقال: "كيف تقرأ إذا قمت في الصلاة؟" قال: فقرأت الحمد لله رب العالمين حتى أكملت فاتحة الكتاب، فقال: "هي هي، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت"، كذا أو نحوه، ذكره مالك في الموطأ، وهو مروي في البخاري ، ومسلم عن أبي سعيد بن المعلى أيضا. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنها السبع المثاني، وأم القرآن، وفاتحة الكتاب"، وفي كتاب الزهراوي : "وليس فيها بسملة". و"المثاني" -على قول هؤلاء- يحتمل أن يكون القرآن، فـ "من" للتبعيض، وقالت فرقة: بل أراد الحمد نفسها، كما قال: الرجس من الأوثان فـ "من" لبيان الجنس، وسميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة، وقيل: سميت بذلك لأنها يثنى بها على الله تعالى، جوزه الزجاج، وفي هذا القول من جهة التصريف نظر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: سميت [ ص: 317 ] بذلك لأن الله تعالى استثناها لهذه الأمة ولم يعطها لغيرها، وقال نحوه ابن أبي مليكة. وقرأت فرقة: "والقرآن" بالخفض عطفا على "المثاني"، وقرأت فرقة: "والقرآن" بالنصب عطفا على قوله "سبعا".

وقال زياد بن أبي مريم: المراد بقوله: "سبعا" أي سبع معان من القرآن خولناك فيها شرف المنزلة في الدنيا والآخرة، وهي: مر، وانه، وبشر، وأنذر، واضرب الأمثال، واعدد النعم، وفض الغيوب.

وقال أبو العالية : السبع المثاني هي آية فاتحة الكتاب، وقد نزلت هذه السورة وما نزل من السبع الطوال شيء.

وقوله تعالى: لا تمدن عينيك الآية. حكى الطبري عن سفيان بن عيينة أنه قال: هذه الآية أمر بالاستغناء بكتاب الله عن جميع زينة الدنيا، وهي ناظرة إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن"، أي: يستغني به، فكأنه قال: ولقد آتيناك عظيما خطيرا، فلا تنظر إلى غير ذلك من أمور الدنيا وزينتها التي متعنا بها أنواعا من هؤلاء الكفرة، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أعطي أفضل مما أعطي فقد عظم صغيرا وصغر عظيما"، وكأن مد العين يقترن به تمن، ولذلك عبر عن الميل إلى زينة الدنيا بمد العين. و "الأزواج" هنا: الأنواع والأشباه.

وقوله: ولا تحزن عليهم ، أي: لا تتأسف لكفرهم وهلاكهم، واصرف وجهك وتحفيك إلى من آمن بك، واخفض لهم جناحك، وهذه استعارة بمعنى: لين جناحك [ ص: 318 ] ووطئ أكنافك. و"الجناح": الجانب والجنب، ومنه قوله: واضمم يدك إلى جناحك ، فهو أمر بالميل إليهم، والجنوح: الميل.

وقل إني أنا النذير المبين ، أي: تمسك بهذا القدر العظيم الذي وهبناك، والكاف من قوله: "كما" متعلقة بفعل محذوف تقديره: وقل إني أنا النذير بعذاب كالذي أنزلناه على المقتسمين، والكاف اسم في موضع نصب، هذا قول المفسرين، وهو عندي غير صحيح; لأن "كما" ليست مما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو من قول الله تعالى له، فينفصل الكلام، وإنما يترتب هذا القول بأن نقدر أن الله تعالى قال له: تنذر عذابا كما، والذي أقول في هذا: إن المعنى: وقل أنا النذير كما قال قبلك رسلنا، وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك. ويحتمل أن يكون المعنى: وقل أنا النذير كما أنزلنا في الكتب أنك ستأتي نذيرا، وهذا على أن "المقتسمين" أهل الكتاب.

واختلف الناس في "المقتسمين". من هم؟ -فقال ابن زيد : هم قوم صالح الذين اقتسموا بالله لنبيتنه وأهله، فالمقتسمون -على هذا- من القسم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويقلق هذا التأويل مع قوله تعالى: الذين جعلوا القرآن عضين .

وقال ابن عباس ، وسعيد بن جبير : المقتسمون هم أهل الكتاب الذين فرقوا دينهم، وجعلوا كتاب الله أعضاء، آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وقال نحوه مجاهد .

وقالت فرقة: المقتسمون هم من كفار قريش الذين اقتسموا الطرق وقت المواسم ليعرفوا الناس بحال محمد صلى الله عليه وسلم، وجعلوا القرآن سحرا وشعرا وكهانة، فعضهوه بهذا وعضوه أعضاء بهذا التقسيم.

[ ص: 319 ] وقال عكرمة : المقتسمون هم قوم كانوا يستهزئون بسور القرآن، ويقول الرجل منهم: هذه السورة لي، ويقول الآخر: وهذه لي.

وقوله: "عضين" مفعول ثان، و"جعلوا" بمعنى "صيروا"، أي بألسنتهم ودعواهم، وأظهر ما فيه أنه جمع عضة، وهي الفرقة من الشيء، والجماعة من الناس كثبة وثبين، وعزة وعزين، وأصلها عضهة وثوبة، فالياء والنون عوض من المحذوف، كما قالوا سنة وسنون، إذ أصلها سنهة. وقال ابن عباس وغيره: "عضين" مأخوذ من الأعضاء، أي عضوه فجعلوه أقساما وأعضاء، ومن ذلك قول الراجز:


وليس دين الله بالمعضى.



وهذا هو اختيار أبي عبيدة. وقال قتادة : "عضين" مأخوذ من العضه وهو السب المفحش، فقريش عضهوا كتاب الله بقولهم: هو شعر، هو سحر، هو كهانة، وهذا هو اختيار الكسائي . وقالت فرقة: "عضين" جمع عضة، وهي اسم للسحر خاصة بلغة قريش ، ومنه قول الراجز:


للماء من عضاتهن زمزمه.



وقال هذا القول عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: العضه: السحر، [ ص: 320 ] وهم يقولون للساحرة: العاضهة، وفي الحديث: "لعن الله العاضهة والمستعضهة"، وهو اختيار الفراء.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ومن قال: "جعلوه أعضاء" فإنما أراد: قسموه كما تقسم الجزور أعضاء.

وقوله تعالى: فوربك لنسألنهم أجمعين إلى آخر الآية، ضمير عام، ووعيد محض يأخذ كل أحد منه بحسب جرمه وعصيانه، فالكافر يسأل عن "لا إله إلا الله"، وعن الرسل، وعن كفره وقصده، والمؤمن العاصي يسأل عن تضييعه، والإمام عن رعيته، وكل مكلف عما كلف القيام به، وفي هذا أحاديث.

وقال أبو العالية في تفسير هذه الآية: يسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة. عما كانوا يعبدون، وبماذا أجابوا المرسلين . وقال في تفسيرها أنس بن مالك ، وابن عمر، ومجاهد : إن السؤال عن "لا إله إلا الله"، وذكره الزهراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن عباس في قوله تعالى: فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ، قال: يقال لهم: لم عملتم كذا وكذا؟ قال: وقوله تعالى: فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان معناه: لا يقال له: ما أذنبت؟ لأن الله تعالى أعلم بذنبه منه، ونفي السؤال هو نفي الاستفهام المحض، وإيجاب السؤال هو على جهة التقرير لهم والتوبيخ.

التالي السابق


الخدمات العلمية