الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله والسلطان أو نائبه ) معطوف على المصر ، والسلطان هو الوالي الذي لا والي فوقه ، وإنما كان شرطا للصحة ; لأنها تقام بجمع عظيم وقد تقع المنازعة في التقديم والتقدم ، وقد تقع في غيره فلا بد منه تتميما لأمره ودخل تحت النائبالعبد إذا قلد عمل ناحية فصلى بهم الجمعة جاز ، ولا تجوز الأنكحة بتزويجه ، ولا قضائه ودخل القاضي والشرطي لكن قال في الخلاصة وليس للقاضي أن يصلي الجمعة بالناس إذا لم يؤمر به ويجوز لصاحب الشرط ، وإن لم يؤمر به وهذا في عرفهم ا هـ .

                                                                                        وفيها والي مصر مات ، ولم يبلغ الخليفة موته حتى مضت بهم جمع ، فإن صلى بهم خليفة الميت أو صاحب الشرط أو القاضي أجزأهم ، ولو اجتمعت العامة على تقديم رجل لم يأمره القاضي ، ولا خليفة الميت لم يجز ، ولم تكن جمعة ، ولو لم يكن ثمة قاض ولا خليفة الميت فاجتمع العامة على تقديم رجل جاز للضرورة ، ولو مات الخليفة ، وله ولاة وأمراء على أشياء من أمور المسلمين كانوا على ولايتهم يقيمون الجمع ا هـ . وأطلق في السلطان فشمل العادل والجائر والمتغلب ; ولهذا قال في الخلاصة : والمتغلب الذي لا عهد له أي لا منشور له إن كان سيرته فيما بين الرعية سيرة الأمراء ويحكم فيما بينهم بحكم الولاية تجوز الجمعة بحضرته ا هـ .

                                                                                        والعبرة لأهلية النائب وقت الصلاة لا وقت الاستنابة حتى لو أمر الصبي أو الذمي وفوض إليهما الجمعة قبل يوم الجمعة فبلغ الصبي وأسلم الذمي كان لهما أن يصليا الجمعة ، ولا ينافيه ما ذكره في الخلاصة قبله النصراني إذا أمر على مصر ثم أسلم ليس له أن يصلي الجمعة بالناس حتى يؤمر بعد الإسلام ، وكذا الصبي إذا أمر ثم أدرك ، وكذا لو استقضى صبي أو نصراني ثم أدرك الصبي وأسلم النصراني لم يجز حكمهما ا هـ .

                                                                                        لأنه في الأول فوض إليه أمر الجمعة صريحا ، وفي الثاني لا وظاهر ما في الخانية أن الفرق إنما هو قول بعض المشايخ وأن الراجح عدم الفرق ; لأن التفويض وقع باطلا فعلى هذا المعتبر أهليته وقت الاستنابة ، ولا خفاء في أن من فوض إليه أمر العامة في مصر فإن له أن يقيم الجمعة ، وإن لم يفوضها إليه السلطان صريحا كما في الخلاصة من أن من فوض إليه أمر العامة من أصحاب السلطان فإن له إقامتها ، ولا يخفى أن له الاستنابة كتولية خطيب في جامع كما هو الواقع في الأمصار وهذا متفق عليه ، وإنما وقع الاشتباه في أن الخطيب المقرر من جهة الحاكم هل له أن يستنيب من غير ضرورة فصرح مثلا خسرو في شرح الدرر والغرر بأن الخطيب ليس له الاستنابة إلا أن يفوض إليه ذلك وهذا مما يجب [ ص: 156 ] حفظه والناس عنه غافلون ا هـ .

                                                                                        وقد عمل بذلك بعض القضاة في زماننا حتى أخرج خطيبا من وظيفته بسبب استنابته من غير إذن ، وفي النجعة في تعداد الجمعة للعلامة ابن جرباش أحد شيوخ مشايخي إن إذن السلطان أو نائبه إنما هو شرط لإقامتها عند بناء المسجد ثم بعد ذلك لا يشترط الإذن لكل خطيب فإذا قرر الناظر خطيبا في مسجد فله إقامتها بنفسه وبنائبه وأن الإذن منسحب لكل من خطب وعبارته

                                                                                        والحاصل أن حق التقدم في إمامة الجمعة حق الخليفة إلا أنه لا يقدر على إقامة هذا الحق بنفسه في كل الأمصار فيقسمها غيره بنيابته فالسابق في هذه النيابة في كل بلدة الأمير الذي ولي على تلك البلدة ثم الشرطي ثم القاضي ثم الذي ولاه قاضي القضاة ، وفي العتابية عن ابن المبارك الشرطي أولى من القاضي ، وفي الخانية الإمام إذا أحدث بعدما صلى ركعة من الجمعة فتقدم واحد من القوم لا بتقديم أحد لا تجوز صلاتهم خلفه ، وإن قدمه واحد من جماعة السلطان ممن فوض إليه أمر العامة يجوز وإذ قد عرفت هذا فيتمشى عليه ما وقع في زماننا هذا من استئذان السلطان في إقامة الجمعة فيما يستجد من الجوامع فإن إذنه بإقامتها في ذلك الموضع لربه مصحح لإذن رب الجامع لمن يقيمه خطيبا ولإذن ذلك الخطيب لمن عساه أن يستنيبه ، ولا يكون ذلك إذنا لمجهول ليقع فاسدا على ما توهمه البعض ; لأنه لا بد أن يسأل السلطان في ذلك شخص معين بالضرورة لنفسه أو لغيره ، فبروز الإذن يكون على وجه التعيين لا محالة ; لأن الإذن إن كان للسائل فظاهر وإن كان لغيره فكذلك ; لأن إذنه يقع إذنا للمسئول له وهو معلوم عند السائل معين له بل للإمام أيضا ; لأن السائل يجري ذكره عنده بما يصحح السؤال له ، وهو كاف في صحة الإذن فإن مثل ذلك كاف في تولية القضاة والولاة ، ألا ترى أن شخصا نائبا عن الإمام أو قريبا غائبا عن حضرته لو وصف له بأوصاف حميدة فولاه حال غيبته عنه صح ، ولا يشترط معرفة شخصه في صحة توليته له فما بالك بما نحن فيه وإذا صح الإذن أعطي لمن أذن له حكم الوالي والقاضي في صحة الإقامة منه وممن يأذن له ; لأن المصحح لصحتها ممن سوى الإمام من الإمام والشرطيين والقضاة إنما هو إقامة الإمام لهم وإذنه المحصل لدفع الفتنة الذي هو السبب الداعي لاشتراط الإمام في صحة إقامة الجمعة ، وهو حاصل فيما ذكرنا فلا التفات لمتعنت - والله سبحانه وتعالى أعلم - ا هـ .

                                                                                        كلامه ، وهو كلام حسن لكنه لم يستند فيه إلى نقل عن المشايخ وظاهر كلامهم يدل عليه قال الولوالجي في فتاويه الإمام إذا خطب فأمر من لم يشهد الخطبة أن يجمع بهم فأمر ذلك الرجل من شهد الخطبة فجمع بهم جاز ; لأن الذي لم يشهد الخطبة من أهل الصلاة فصح التفويض إليه لكنه عجز لفقد شرط الصلاة ، وهو سماع الخطبة فملك التفويض إلى الغير ، ولو جمع هو ، ولم يأمر لغيره لا يجوز بخلاف ما لو شرع في الصلاة ثم استخلف من لم يشهد الخطبة فإنه يجوز وكذلك إن تكلم هذا المقدم فاستقبل بهم جاز ; لأنه إنما يؤدي الصلاة بالتحريمة الأولى ا هـ .

                                                                                        ووجه الدلالة أن الإمام إن كان المراد به نائب الوالي وهو الخطيب فقد جوز له الاستنابة في إقامة الجمعة ، ولم يقيده بالحدث ، ولا بالعذر وجوز لنائبه أن يستنيب مع أنه لم يفوض إليه ذلك صريحا ، وإن كان المراد بالإمام الوالي فقد جوز لنائبه أن يستنيب ، وكل منهما يدل على جواز الاستنابة للخطيب من غير إذن ، وقال في الهداية من باب القضاء ، وليس للقاضي أن يستخلف على القضاء إلا أن يفوض إليه ذلك بخلاف المأمور بإقامة الجمعة حيث له أن يستخلف ; لأنه على شرف الفوات لتوقته فكان الأمر به إذنا بالاستخلاف دلالة ولا كذلك القضاء [ ص: 157 ] ا هـ .

                                                                                        فقد جوز للمأموم بإقامتها الاستنابة ، ولم يقيد بالعذر فدل على جوازها مطلقا وأما تقييد الشارح الزيلعي الاستخلاف بأن يكون أحدث فلا دليل عليه والظاهر من عباراتهم الإطلاق وذكر في البدائع أن كل من ملك إقامة صلاة الجمعة فإنه يملك إقامة غيره مقامه ا هـ .

                                                                                        وهو صريح في جواز الاستنابة للخطيب مطلقا أو كالصريح فيه وأيضا ليس الحدث قبل الصلاة من الضروريات لإمكان أن يذهب الخطيب للوضوء ثم يأتي فيصلي ، وقد اتفقت كلمتهم على أن له الاستخلاف بشرط أن يكون النائب شهد الخطبة ليكون كأن النائب خطب بنفسه ، ولم يقيدوا بإذن الحاكم فدل على ما قلنا ، وفي فتاوى الولوالجي إذا أحدث الإمام فقال لواحد فيهم اخطب ، ولا تصل بهم فذهب ، ولم يجئ أجزأه أن يخطب ويصلي بهم ; لأنه نهاه عن الصلاة لكي يأتي فيصلي بهم فإذا لم يأت كان هذا تفويض الصلاة إليه ، وقد وقع لبعض قضاة العساكر في زماننا بالقاهرة أنه كان يرى بأنه لا يصح تقريره في وظيفة الخطابة ، وإنما يقرر فيها الحاكم ، وهو المسمى بالباشا ولعله استند في ذلك إلى ما قدمناه عن الخلاصة من أن القاضي لا يقيمها إلا بإذن لكن قال في الظهيرية بعد نقل ما في الخلاصة وعن أبي يوسف أنه قال أما اليوم فالقاضي يصلي بهم الجمعة ; لأن الخلفاء يأمرون القضاة أن يجمعوا بالناس لكن قيل أراد بهذا قاضي القضاة الذي يقال له قاضي قضاة الشرق والغرب كأبي يوسف في وقته أما في زماننا فالقاضي وصاحب الشرط لا يوليان ذلك ا هـ .

                                                                                        فالحاصل أن السلطان إذا ولى إنسانا قاضي القضاة بمصر فإن له أن يولي الخطباء ولا يتوقف على إذن كما أن له أن يستخلف للقضاء ، وإن لم يؤذن له مع أن القاضي ليس له الاستخلاف إلا بإذن السلطان ; لأن توليته قاضي القضاة إذن بذلك دلالة كما صرح به في فتح القدير من باب القضاء لكن ذكر في التجنيس أن في إقامة الجمعة للقاضي روايتين وبرواية المنع يفتى في ديارنا إذا لم يؤمر به ، ولم يكتب في منشوره وأشار المصنف رحمه الله تعالى إلى أن الإمام إذا منع أهل المصر أن يجمعوا لم يجمعوا كما أن له يمصر موضعا كان له أن ينهاهم قال الفقيه أبو جعفر هذا إذا نهاهم مجتهدا بسبب من الأسباب وأراد أن يخرج ذلك المصر من أن يكون مصرا أما إذا نهاهم متعنتا أو إضرارا بهم فلهم أن يجمعوا على رجل يصلي بهم الجمعة ، ولو أن إماما مصر مصرا ثم نفر الناس عنه لخوف عدو أو ما أشبه ذلك ثم عادوا إليه فإنهم لا يجمعوا إلا بإذن مستأنف من الإمام كذا في الخلاصة ودل كلامهم أن النائب إذا عزل قبل الشروع في الصلاة ليس له إقامتها ; لأنه لم يبق نائبا لكن شرطوا أن يأتيه الكتاب بعزله أو يقدم عليه الأمير الثاني ، فإن وجد أحدهما فصلاته باطلة ، فإن صلى صاحب شرط جاز ; لأن عمالهم على حالهم حتى يعزلوا كذا في الخلاصة وبه علم أن الباشا بمصر إذا عزل فالخطباء على حالهم ، ولا يحتاجون إلى إذن جديد من الثاني إلا إذا عزلهم وقيدنا بكونه علم العزل قبل الشروع ; لأنه لو شرع ثم حضر وال آخر فإنه يمضي في صلاته كرجل أمره الإمام أن يصلي بالناس الجمعة ثم حجر عليه ، وهو في الصلاة لا يعمل حجره ; لأن شروعه صح ، وإن حجر عليه قبل الشروع عمل حجره .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله فصرح مثلا خسرو إلخ ) وعبارته لا يستخلف الإمام للخطبة أصلا والصلاة بدءا بل يجوز بعدما أحدث الإمام إلا إذا أذن أي لا يجوز استخلافه لهما إلا إذا كان مأذونا من السلطان للاستخلاف فحينئذ يجوز ذلك وهذا مما يجب حفظه إلخ ، وقد رد عليه العلامة ابن كمال باشا في رسالة خاصة لكن قيد جواز الاستخلاف بما إذا كان معذورا بعذر يشغله عن إقامة الجمعة في وقتها ، وأما إذا لم يكن معذورا أو كان معذورا لكن يمكنه إزالة عذره وإقامة الجمعة قبل خروج الوقت فلا يجوز الاستخلاف ، ثم قال بقي هنا دقيقة أخرى : وهي أن إقامة الجمعة عبارة عن أمرين الخطبة والصلاة ، والموقوف على الإذن هو الأول دون الثاني إذ لا حاجة فيه إلى الإذن ا هـ .

                                                                                        وما ذكره من التقييد بالعذر تبع فيه صاحب الدرر حيث صرح في أثناء كلامه بأنه لا يجوز خطابه النائب بحضور الأصيل عند عدم الإذن وللشرنبلالي رسالة حافلة في الرد عليهما في جميع ما ذكراه بالنصوص الصريحة قال : ويلزمهما أن لا يصح للسلطان ، ولا نوابه جمعة ، ولا عيد ; لأن السلطان يصلي خلف مأموره مع أنه قادر على الخطبة بنفسه والصلاة ونقل عن التتارخانية التصريح بالجواز ومنع ما ذكره من الدقيقة وأطال في المقام بما ينبغي مراجعته وللشيخ محمد الغزي رسالة في هذه المسألة أيضا [ ص: 156 ]

                                                                                        ( قوله ثم بعد ذلك لا يشترط الإذن لكل خطيب ) أي لا يشترط الإذن من السلطان أو نائبه للخطيب الآخر بعد موت الأول أو غيبته مثلا بل يكتفى بإذن السلطان مرة واحدة ، ثم من أذن له السلطان يستنيب غيره ويأذن له فتصح استنابته وإذنه ، وإن لم يأذن السلطان لهذا الثاني ، وكذلك الثاني يأذن لثالث وهلم جرا ، وليس المراد أن السلطان إذا أذن بإقامة الجمعة في مسجد صار إذنا لكل من أراد الصلاة في ذلك المسجد سواء أذن له الخطيب المقرر فيه أو لم يأذن كما قد يتوهم من قول المؤلف وأن الإذن منسحب لكل من خطب بل معناه أن كل من خطب بالإذن فهذا الإذن إذن له بإقامتها بنفسه وبنائبه ، ولا يشترط لصحة إقامتها من نائبه تجديد الإذن من السلطان كما هو صريح عبارة جرباش الآتية ( قوله فملك التفويض إلى الغير ) مقتضى تفريعه على قوله لكنه عجز إلخ أنه يملك التفويض بسبب العجز وذلك لا يدل على خلاف ما في الدرر فإن صاحب الدرر شرط العجز لجواز الاستنابة في الصلاة وأما الاستنابة في الخطبة فإنه منعها مطلقا كما مر

                                                                                        ( قوله فقد جوز لنائبه أن يستنيب ) لصاحب الدرر أن يقول نعم جوز له ذلك ولكن عند العجز كما علمت [ ص: 157 ] ( قوله فالحاصل إلخ ) فيه نظر ; لأن قاضي القضاة بمصر ليس بمعنى قاضي القضاة المذكور في الظهيرية ; لأنه بالمعنى الأول من يولي القضاة في جميع بلاد السلطان الذي ولاه فولايته عامة وأما قاضي مصر فإنه يولي نوابا عنه في البلدة التي ولاه السلطان الحكم فيها وفي توابعها فلا يلزم من كون الأول مأذونا بإقامة الجمعة أن يكون الثاني كذلك ; لأن الثاني مولى من قبله ( قوله ; لأن توليته قاضي القضاة إذن بذلك ) أي بالاستخلاف للقضاء ووجه الدلالة أن لفظة قاضي القضاة معناها القاضي الذي يولي القضاة ( قوله لكن ذكر في التجنيس إلخ ) قال في النهر يمكن حمل ما في التجنيس على ما إذا لم يول قضاء القضاة أما إن ولي أغنى هذا اللفظ عن التنصيص عليه

                                                                                        ( قوله : ولو أن إماما مصر مصرا إلخ ) قلت فلو قرر خطيب بجامع فهدم ، ثم أعيد هل يحتاج إلى إذن جديد لهذا الأول أم لا وهل يصح تقرير غيره محل تأمل ، وله نظائر في كتاب [ ص: 158 ] الوقف كذا في شرح المقدسي ولينظر ما علة التأمل فإن المسجد بانهدامه لا تزول عنه المسجدية بخلاف المصر وانظر فتاوى ابن الشلبي .




                                                                                        الخدمات العلمية