الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر دخول يزيد بن المهلب البصرة

وخلعه يزيد بن عبد الملك


قيل : وفي هذه السنة هرب يزيد بن المهلب من حبس عمر بن عبد العزيز ، على ما تقدم ، فلما مات عمر وبويع يزيد بن عبد الملك كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن وإلى عدي بن أرطاة يأمرهما بالتحرز من يزيد ويعرفهما هربه ، وأمر عديا أن يأخذ من بالبصرة من آل المهلب ، فأخذهم وحبسهم ، فيهم : المفضل ، وحبيب ، ومروان بنو المهلب ، وأقبل يزيد حتى ارتفع على القطقطانة ، وبعث عبد الحميد جندا إليهم ، عليهم هشام بن مساحق العامري ، عامر بني لؤي ، فساروا حتى نزلوا العذيب ، ومر يزيد قريبا منهم فلم يقدموا عليه .

ومضى يزيد نحو البصرة ، وقد جمع عدي بن أرطاة أهل البصرة وخندق عليها ، وبعث على خيل البصرة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل الثقفي ، وجاء يزيد في أصحابه [ ص: 124 ] الذين معه ، فالتقاه أخوه محمد بن المهلب فيمن اجتمع إليه من أهله وقومه ومواليه ، فبعث عدي على كل خمس من أخماس البصرة رجلا ، فبعث على الأزد : المغيرة بن زياد بن عمرو العتكي ، وبعث على تميم : محرز بن حمران السعدي ، وعلى خمس بكر : مفرج بن شيبان بن مالك بن مسمع ، وعلى عبد القيس [ مالك بن ] المنذر بن الجارود ، وعلى أهل العالية : عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر ، وأهل العالية قريش ، وكنانة والأزد ، وبجيلة ، وخثعم ، وقيس عيلان كلها ، ومزينة ، وأهل العالية والكوفة يقال لهم ربع أهل المدينة .

فأقبل يزيد لا يمر بخيل ( من خيلهم ، ولا قبيلة من قبائلهم إلا تنحوا له عن طريقه ، وأقبل يزيد حتى نزل داره ) ، فاختلف الناس إليه ، فأرسل إلى عدي : أن ابعث إلي إخوتي ، وإني أصالحك على البصرة ، وأخليك وإياها حتى آخذ لنفسي من يزيد ما أحب . فلم يقبل منه ، فسار حميد بن عبد الملك بن المهلب إلى يزيد بن عبد الملك ، فبعث معه يزيد بن عبد الملك خالدا القسري ، وعمرو بن يزيد الحكمي بأمان يزيد بن المهلب وأهله .

وأخذ يزيد بن المهلب يعطي من أتاه قطع الذهب والفضة ، فمال الناس إليه ، وكان عدي لا يعطي إلا درهمين درهمين ويقول : لا يحل لي أن أعطيكم من بيت المال درهما إلا بأمر يزيد بن عبد الملك ، ولكن تبلغوا بهذه حتى يأتي الأمر في ذلك ، وفي ذلك يقول الفرزدق :


أظن رجال الدرهمين تقودهم إلى الموت آجال لهم ومصارع     وأكيسهم من قر في قعر بيته
وأيقن أن الموت لا بد واقع

وخرجت بنو عمرو بن تميم من أصحاب عدي فنزلوا المربد ، وبعث إليهم يزيد بن المهلب مولى له يقال له دارس ، فحمل عليهم فهزمهم .

[ ص: 125 ] وخرج يزيد حين اجتمع الناس له حتى نزل جبانة بني يشكر ، وهي النصف فيما بينه وبين القصر ، فلقيه قيس وتميم وأهل الشام واقتتلوا هنيهة ، وحمل عليهم أصحاب يزيد فانهزموا ، وتبعهم ابن المهلب حتى دنا من القصر ، فخرج إليهم عدي بنفسه ، فقتل من أصحابه موسى بن الوجيه الحميري ، والحارث بن المصرف الأودي ، وكان من فرسان الحجاج وأشراف أهل الشام ، وانهزم أصحاب عدي ، وسمع إخوة يزيد ، وهم في محبس عدي ، الأصوات تدنو والنشاب تقع في القصر ، وقال لهم عبد الملك : إني أرى أن يزيد قد ظهر ، ولا آمن من مع عدي من مضر و [ أهل ] الشام أن يأتونا فيقتلونا قبل أن يصل إلينا يزيد ، فأغلقوا الباب وألقوا عليه الرحل . ففعلوا ، فلم يلبثوا أن جاءهم عبد الله بن دينار مولى بني عامر ، وكان على حرس عدي ، فجاء يشتد إلى الباب هو وأصحابه ، وأخذوا يعالجون الباب ، فلم يطيقوا قلعه ، وأعجلهم الناس فخلوا عنهم .

وجاء يزيد بن المهلب حتى نزل دارا لسليمان بن زياد بن أبيه ، إلى جنب القصر ، وأتى بالسلاليم وفتح القصر ، وأتي بعدي بن أرطاة ، فحبسه ، وقال له : لولا حبسك إخوتي لما حبستك .

فلما ظهر يزيد هرب رءوس أهل البصرة من تميم ، وقيس ، ومالك بن المنذر ، فلحقوا بالكوفة ، ولحق بعضهم بالشام ، وخرج المغيرة بن زياد ( بن عمرو العتكي نحو الشام ، فلقي خالدا القسري ، وعمرو بن يزيد الحكمي ، ومعهما حميد بن ) عبد الملك بن المهلب قد أقبلوا بأمان يزيد بن المهلب ، وكل شيء أراده ، فسألاه عن الخبر ، فخلا بهما سرا من حميد ، وأخبرهما وقال : أين تريدان ؟ فأخبراه بأمان يزيد . فقال : إن يزيد قد ظهر على البصرة ، وقتل القتلى وحبس عديا ، فارجعا . فرجعا ، وأخذا حميدا معهما ، فقال لهما حميد : أنشدكما الله أن تخالفا ما بعثتما به ، فإن ابن المهلب [ ص: 126 ] قابل منكما ، وإن هذا وأهل بيته لم يزالوا لنا أعداء ، فلا تسمعا مقالته . فلم يقبلا قوله ورجعا به .

وأخذ عبد الحميد بن عبد الرحمن بالكوفة خالد بن يزيد بن المهلب ، وحمال بن زحر ، ولم يكونا في شيء من الأمر ، فأوثقهما وسيرهما إلى الشام ، فحبسهما يزيد بن عبد الملك ، فلم يفارقا السجن حتى هلكا فيه ، وأرسل يزيد بن عبد الملك إلى الكوفة شيئا على أهلها ويمنيهم الزيادة . وجهز أخاه مسلمة بن عبد الملك ، وابن أخيه العباس بن الوليد بن عبد الملك في سبعين ألف مقاتل من أهل الشام والجزيرة ، وقيل : كانوا ثمانين ألفا ، فساروا إلى العراق . وكان مسلمة يعيب العباس ويذمه ، فوقع بينهما اختلاف ، فكتب إليه العباس :


ألا نفسي فداك أبا سعيد     وتقصر عن ملاحاتي وعذلي
فلولا أن أصلك حين ينمى     وفرعك منتهى فرعي وأصلي
وأني إن رميتك هضت عظمي     ونالتني إذا نالتك نبلي
لقد أنكرتني إنكار خوف     يقصر منك عن شتمي وأكلي
كقول المرء عمرو في القوافي     أريد حياته ويريد قتلي

قيل : إن هذه الأبيات للعباس ، وقيل : إنما تمثل بها .

فبلغ ذلك يزيد بن عبد الملك ، فأرسل إليهما وأصلح بينهما ، وقدما الكوفة ونزلا بالنخيلة ، فقال مسلمة : ليت هذا المزوني ، يعني ابن المهلب ، لا كلفنا اتباعه في هذا البرد . فقال حيان النبطي مولى لشيبان : أنا أضمن لك أنه لا يبره الأرصة ، يريد أضمن أنه لا يبرح العرصة . فقال له العباس : لا أم لك أنت بالنبطية أبصر منك بهذا ! فقال حيان : أنبط الله وجهك أسقر أهمر ليس أليه طابئ الخلافة ، يريد : أشقر أحمر ليس عليه طابع [ ص: 127 ] الخلافة . قال مسلمة : يا أبا سفيان لا يهولنك كلام العباس . فقال : إنه أهمق ، يريد أحمق .

ولما سمع أصحاب بن المهلب وصول مسلمة وأهل الشام راعهم ذلك ، فبلغ ابن المهلب ، فخطب الناس وقال : قد رأيت أهل العسكر وخوفهم ، يقولون : جاء أهل الشام ومسلمة ، وما أهل الشام ؟ هل هم إلا تسعة أسياف ، سبعة منها إلي وسيفان علي ؟ وما مسلمة إلا جرادة صفراء ، أتاكم في برابرة ، وجرامقة ، وجراجمة ، وأنباط ، وأبناء فلاحين وأوباش ، وأخلاط ، أوليسوا بشرا يألمون كما تألمون ، وترجون من الله ما لا يرجون ؟ أعيروني سواعدكم تصفقون بها وجوههم وقد ولوا الأدبار . واستوسقوا أهل البصرة ليزيد بن المهلب ، وبعث عماله على الأهواز وفارس وكرمان ، وبعث إلى خراسان مدرك بن المهلب ، وعليها عبد الرحمن بن نعيم ، فقال لأهلها : هذا مدرك قد أتاكم ليلقي بينكم الحرب وأنتم في بلاد عافية وطاعة ، فسار بنو تميم ليمنعوه ، وبلغ الأزد بخراسان ذلك ، فخرج منهم نحو ألفي فارس ، فلقوا مدركا على رأس المفازة ، فقالوا له : إنك أحب الناس إلينا ، وقد خرج أخوك ، فإن يظهر ، فإنما ذلك لنا ، ونحن أسرع الناس إليكم وأحقه بذلك ، وإن تكن الأخرى ، فما لك في أن تغشينا البلاء راحة . فانصرف عنهم ، فلما استجمع أهل البصرة ليزيد خطبهم ، وأخبرهم أنه يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه ويحثهم على الجهاد ، ويزعم أن جهاد أهل الشام أعظم ثوابا من جهاد الترك والديلم .

وكان الحسن البصري يسمع ، فرفع صوته يقول : والله لقد رأيناك واليا ومولى عليك ، فما ينبغي لك ذلك . ووثب أصحابه فأخذوا بفمه وأجلسوه ، ثم خرجوا من المسجد وعلى باب المسجد النضر بن أنس بن مالك يقول : يا عباد الله ما تنقمون من أن تجيبوا إلى كتاب الله وسنة نبيه ، فوالله ما رأينا ذلك [ ولا رأيتموه ] ( منذ ولدتم إلا هذه الأيام ) [ من إمارة ] عمر بن عبد العزيز . فقال الحسن : والنضر أيضا قد شهد .

ومر الحسن بالناس وقد نصبوا الرايات ، وهم ينتظرون خروج يزيد ، وهم يقولون : تدعونا إلى سنة العمرين . فقال الحسن : كان يزيد بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون ، ثم يرسلها إلى بني مروان يريد رضاهم ، فلما غضب نصب قصبا ، ثم وضع عليها خرقا ، ثم قال : إني قد خالفتهم فخالفوهم . قال هؤلاء : نعم ، ثم قال : إني [ ص: 128 ] أعدوهم إلى سنة العمرين ، وإن من سنة العمرين أن يوضع في رجله قيد ، ثم رد إلى محبسه . فقال ناس من أصحابه : لكأنك راض عن أهل الشام ؟ فقال : أنا راض عن أهل الشام ؟ قبحهم الله وبرحهم ! أليس هم الذين أحلوا حرم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقتلون أهله ثلاثا ؟ قد أباحوها لأنباطهم وأقباطهم ، يحملون الحرائر ذوات الدين ، لا ينتهون عن انتهاك حرمة ، ثم خرجوا إلى مال بيت الله الحرام ، فهدموا الكعبة ، وأوقدوا النيران بين أحجارها وأستارها ، عليهم لعنة الله وسوء الدار .

ثم إن يزيد سار من البصرة ، واستعمل عليها أخاه مروان بن المهلب ، وأتى واسطا ، وكان قد استشار أصحابه حين توجه نحو واسط ، فقال له أخوه حبيب وغيره : نرى أن نخرج وننزل بفارس ، فنأخذ بالشعاب والعقاب ، وندنو من خراسان ، ونطاول أهل الشام ، فإن أهل الجبال يأتون إليك ، وفي يدك القلاع والحصون . فقال : ليس هذا برأي ، تريدون أن تجعلوني طائرا على رأس جبل . فقال حبيب : إن الرأي الذي كان ينبغي أن يكون أول الأمر قد فات ، قد أمرتك حيث ظهرت على البصرة أن توجه خيلا عليها بعض أهلك إلى الكوفة ، وإنما بها عبد الحميد ، مررت به في سبعين رجلا فعجز عنك ، فهو عن خيلك أعجز ، فسبق إليها أهل الشام ، وأكثر أهلها يرون رأيك ، ولأن تلي عليهم أحب إليهم من أن يلي عليهم أهل الشام ، ( فلم تطعني ، وأنا أشير الآن برأي ، سرح مع بعض أهلك خيلا كثيرة من خيلك ، فتأتي الجزيرة وتبادر إليها حتى ينزلوا حصنا من حصونهم ، وتسير في أثرهم ، فإذا أقبل أهل الشام ) يريدونك ، لم يدعوا جندك بالجزيرة يقبلون إليك فيقيمون عليهم ، فيحبسونهم عنك حتى تأتيهم ، ويأتيك من بالموصل من قومك ، وينفض إليك أهل العراق وأهل الثغور ، وتقاتلهم في أرض رخيصة السعر ، وقد جعلت العراق كله وراء ظهرك . قال : أكره أن أقطع جيشي . فلما نزل واسطا أقام بها أياما يسيرة ، وخرجت السنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية