الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون

لما تقدم وصف الأصنام جاء الخبر الحق بالوحدانية، وهذه مخاطبة لجميع الناس معلمة بأن الله تعالى متحد وحدانية تامة، لا يحتاج لكمالها إلى مضاف إليها، ثم أخبر عن إنكار قلوب الكافرين، وأنهم يعتقدون إلهية أشياء أخر، ويستكبرون عن رفض معتقدهم فيها واطراح طريقة آبائهم في عبادتها، ووسمهم بأنهم لا يؤمنون بالآخرة، إذ هي أقوى رتب الكفر، أعني الجمع بين التكذيب بالله تبارك وتعالى وبالبعث، لأن كل صدق بالبعث فمحال أن يكذب بالله تبارك وتعالى.

وقوله تعالى: لا جرم عبرت فرقة من اللغويين عن معناها بـ "لا بد، ولا محالة"، وقالت فرقة: معناها: "حق أن الله"، ومذهب سيبويه أن "لا" نفي لما تقدم من الكلام، و"جرم" معناه: وجب أو حق، ونحو هذا من مذهب الزجاج، ولكن مع مذهبهما "لا" ملازمة لـ "جرم"، لا تنفك هذه من هذه، وفي جرم لغات قد تقدم ذكرها في سورة هود، وأنشد أبو عبيدة :


جرمت فزارة



[ ص: 343 ] وقال: معناها: حقت عليهم وأوجبت أن يغضبوا. و"أن" على مذهب سيبويه فاعلة بـ "جرم". وقرأ الجمهور: "أن" مفتوحة، وقرأ عيسى الثقفي: "إن" بكسر الألف على القطع، قال يحيى بن سلام، والنقاش: المراد هنا بـ "ما يسرون" تشاورهم في دار الندوة في قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: "إنه لا يحب المستكبرين" عام في الكافرين والمؤمنين، يأخذ كل واحد منهم بقسطه، وفي الحديث: "لا يدخل الجنة وفي قلبه مثقال حبة من كبر"، وفيه "إن الكبر منع الحق وغمط الناس"، ويروى عن الحسن بن علي أنه كان يجلس مع المساكين ويحدثهم ثم يقرأ: إنه لا يحب المستكبرين ، وروي في الحديث أنه "من سجد لله سجدة من المؤمنين فقد برئ من الكبر".

وقوله تعالى: وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم الآية. الضمير في "لهم" لكفار مكة ، ويقال: إن سبب الآية كان أن النضر بن الحارث سافر عن مكة إلى الحيرة وغيرها، فجاء إلى مكة وكان قد اتخذ كتب التاريخ "كليلة ودمنة"، وأخبار إسفنديار ورستم"، فكان يقول: إنما يحدث محمد بأساطير الأولين، وحديثي أجمل من حديثه. وقوله: "ماذا" يجوز أن تكون (ما) استفهاما و "ذا" بمعنى: الذي، وفي "أنزل" ضمير عائد، ويجوز أن يكون "ما" و"ذا" اسما واحدا مركبا، كأنه قال: أي شيء؟ وقولهم: "أساطير [ ص: 344 ] الأولين" ليس بجواب على السؤال الأول، لأنهم لم يريدوا أنه نزل شيء، ولا أن تم منزلا، ولكنهم ابتدءوا الخبر بأن هذه أساطير الأولين، وإنما الجواب عن السؤال قول المؤمنين في الآية المستقبلة: خيرا، وقولهم: "أساطير الأولين" إنما هو جواب بالمعنى. فأما على السؤال وبحسبه فلا.

واللام في قوله: "ليحملوا" يحتمل أن تكون لام العاقبة، لأنهم لم يقصدوا بقولهم: "أساطير الأولين" أن يحملوا الأوزار، ويحتمل أن تكون صريح لام كي على معنى: قدر هذا، ويحتمل أن تكون لام الأمر على معنى الحتم عليهم بذلك والصغار الموجب لهم. و "الأوزار: الأثقال، وقوله: "ومن" للتبعيض، وذلك أن هذا الرأس المضل يحمل وزر نفسه كاملا، ويحمل وزرا من أوزار كل مضل بسببه، ولا تنقص أوزار أولئك. وقوله: بغير علم يجوز أن يريد بها المضل، أي: أضل بغير برهان قام عنده، ويجوز أن يريد: بغير علم من المقلدين الذين يضلونهم. ثم استفتح الله تعالى الإخبار عن سوء ما يتحملونه للآخرة، وأسند الطبري وغيره في معنى هذه الآية حديثا نصه: "أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، وأيما داع دعا إلى الهدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء"، و"ساء" فعل مسند إلى "ما"، ولا يحتاج في ذلك هنا إلى صلة.

التالي السابق


الخدمات العلمية