الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
798 [ ص: 153 ] حديث حاد وخمسون لنافع ، عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور .

التالي السابق


لا خلاف عن مالك في إسناد هذا الحديث ولفظه : حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين العسكري ، حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا الشافعي ، أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور .

[ ص: 154 ] وكذلك رواه ، أيوب وعبيد الله ، وغيرهم ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وكذلك رواه عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر .

ورواه ابن شهاب فاختلف عليه فيه ، فرواه ابن عيينة ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن النبي - عليه السلام - .

ورواه معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، وهذا يمكن أن يكون إسنادا آخر .

ورواه يونس ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن حفصة .

ورواه زيد بن جبير ، عن ابن عمر قال : أخبرتني إحدى نسوة النبي - عليه السلام - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر المحرم بقتل خمس من الدواب ، فذكر مثله سواء .

فأما رواية نافع ، عن ابن عمر لهذا الحديث فمقتصرة على إباحة قتل هذه الخمس المذكورات من الدواب للمحرم في حال إحرامه في الحل والحرم جميعا .

وأما رواية ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه لهذا الحديث ففيها لا جناح على من قتلهن في الحل والحرم ، وهذا أعم [ ص: 155 ] ، لأنه يدخل فيه المحرم ، وغير المحرم في الحل والحرم ومعلوم أنه ما جاز للمحرم قتله فغير المحرم أحرى أن يجوز ذلك له ، ولكن لكل وجه منها حكم سنذكره في هذا الباب - إن شاء الله - .

قرأت على محمد بن إبراهيم أن محمد بن معاوية حدثهم ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا عبيد الله بن سعيد ، قال : حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، قال : أخبرني نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : خمس من الدواب لا جناح على من قتلهن ، وهو حرام الحدأة والغراب والفأرة والكلب العقور والعقرب .

وكذلك رواه أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله سواء وزاد ، قيل لنافع فالحية ؟ قال : الحية لا شك في قتلها ، وقال بعضهم عن أيوب : قلت لنافع : الحية ؟ قال : الحية لا يختلف في قتلها .

قال أبو عمر : ليس كما قال نافع ، وقد اختلف العلماء في جواز قتل الحية للمحرم ولكنه شذوذ ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلها للمحرم ، وغير المحرم في الحرم [ ص: 156 ] ، وغيره من وجوه سنذكر أكثرها في هذا الباب - إن شاء الله - . وليس في حديث ابن عمر عند أحد من الرواة ذكر الحية ، وهو محفوظ من حديث عائشة وحديث أبي سعيد ، وابن مسعود .

قرأت على سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا - والله - الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خمس من الدواب لا جناح في قتلهن على من قتلهن في الحل والحرم الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور .

قال الحميدي : قيل لسفيان إن معمرا يرويه ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، فقال : حدثنا ، والله ، الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ما ذكر عروة ، عن عائشة .

قال أبو عمر : اتفق جمهور العلماء وجماعة الفقهاء على القول بجملة هذا الحديث ، واختلفوا في تفسير تلك الجملة وتخصيصها بمعان نذكرها - إن شاء الله - .

[ ص: 157 ] فأما ابن عيينة ، فقال : معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكلب العقور كل سبع يعقر ، قال : ولم يخص به الكلب .

قال سفيان : وفسره لنا زيد بن أسلم ، وكذلك قال أبو عبيد .

وروى زهير بن محمد ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد ربه بن سيلان ، عن أبي هريرة ، قال : الكلب العقور الأسد .

وأما مالك ، فذكر رواة الموطأ عنه في الموطأ أنه قال : الكلب العقور الذي أمر المحرم بقتله هو كل ما عقر الناس وعدا عليهم ، وأخافهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب ، فهو الكلب العقور ، قال : فأما ما كان من السباع لا تعدو مثل الضبع والثعلب ، وما أشبههن من السباع ، فلا يقتله المحرم ، وإن قتله فداه ، قال مالك : وأما ما ضر من الطير ، فإنه لا يقتله المحرم إلا ما سمى النبي - عليه السلام - الغراب والحدأة ، وإن قتل شيئا من الطير سواهما ، وهو محرم ، فعليه جزاؤه .

[ ص: 158 ] قال أبو عمر : ليس هذا الباب عند مالك ، وأصحابه من باب ما يؤكل عنده من السباع ، وما لا يؤكل في شيء ، وقد ذكرنا مذهب مالك ، وغيره فيما يكره أكله من السباع ، وما لا يكره منها مستوعبا في باب إسماعيل بن أبي حكيم من كتابنا هذا فلا وجه لإعادة ذلك هاهنا .

وقال ابن القاسم : قال مالك : لا بأس أن يقتل المحرم السباع التي تعدو على الناس وتفترس ابتدأته ، أو ابتدأها جائز له قتلها على كل حال ، فأما صغار أولادها التي لا تفترس ، ولا تعدو على الناس ، فلا ينبغي للمحرم قتلها قيل لابن القاسم : فهل يكره مالك للمحرم قتل الهر الوحشي والثعلب والضبع ؟ قال : نعم قيل له : فإن ابتدأني الضبع ، أو الهر ، أو الثعلب ، وأنا محرم فقتلتها أعلي في قول مالك شيء ؟ قال : لا ، وهو رأيي ألا ترى أن رجلا لو عدا على رجل ، فأراد قتله فدفعه عن نفسه لم يكن عليه شيء .

وقال أشهب : سألت مالكا ، أيقتل المحرم الغراب والحدأة من غير أن يضرا به ؟ فقال : لا ، إلا أن يضرا به إنما أذن في [ ص: 159 ] قتلهما إذا أضرا ، في رأيي ، فأما أن يصيبهما بدءا ، فلا أرى ذلك ، وهما صيد ، وليس للمحرم أن يصيد ، وليسا مثل العقرب والفأرة والغراب والحدأة صيد ، فلا يجوز أن يقتلا في الحرم خوف الذريعة إلى الاصطياد ، فإن أضرا بالمحرم ، فلا بأس أن يقتلهما قال : فقلت له : أيصيد المحرم الثعلب والذئب ؟ قال : لا ، ثم قال : والله ، ما أدري أعلى هذا أصل رأيك أم تتجاهل ؟ قلت : ما أتجاهل ، ولكن ظننت أن تراه من السباع ، قال مالك : وكل شيء لا يعدو من السباع مثل الهر والثعلب والضبع ، وما أشبهها ، فلا يقتله المحرم ، وإن قتله وداه ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأذن في قتل السباع وإنما أذن في قتل الكلب العقور ، قال : وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرم ، فإن قتلها فداها ، وهي مثل فراخ الغربان أيذهب يصيدها ؟ !

وقال إسماعيل بن إسحاق : إنما قال ذلك مالك في أولاد السباع التي لا تعدو على الناس ، لأن الإباحة إنما جاءت في الكلب العقور ، وأولاده ليست تعقر ، فلا تدخل في هذا النعت ، قال : وقد جاء في حديث عائشة ، خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم [ ص: 160 ] فسماهن فساقا ووصفهن بأفعالهن ، لأن الفاسق فاعل والصغار لا فعل لهن ، قال : والكلب العقور يعظم ضرره على الناس ، قال : ومن ذلك الحية والعقرب ، لأنهما يخاف منهما قال : وكذلك الغراب والحدأة ، لأنهما يختطفان اللحم من أيدي الناس ، قال : وقد اختلف في الزنبور فشبهه بعضهم بالحية والعقرب ، قال : ولولا أن الزنبور لا يبتدئ لكان أغلظ على الناس من الحية والعقرب ، ولكنه ليس في طبعه من العداء ما في الحية والعقرب ، قال : إنما يحمي الزنبور إذا أذي ، قال : فإن عرض الزنبور لإنسان فدفعه عن نفسه لم يكن عليه في قتله شيء ، قال : وقد جاء في الفأرة أنها تحرق على الناس بيوتهم ، قال : وقد رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصعد بالفتيلة إلى السقف ، فجاء فيها النص كما جاء في الكلب العقور ، قال : ولم يعن بالكلب العقور هذه الكلاب الإنسية ، قال : وإنما أرخص للمحرم في قتل هذه الدواب الوحشية ، قال : وإنما عنى بالكلب العقور - والله أعلم - ما عدا على الناس وعقرهم .

[ ص: 161 ] قال : وقد روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال في عتبة بن أبي لهب سيسلط الله عليه ، أو اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فعدا عليه الأسد فقتله .

وحدثنا نصر بن علي ، قال : أخبرنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا الحجاج ، عن وبرة ، قال : سمعت ابن عمر يقول أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الذئب والغراب والفأرة قلت : فالحية والعقرب ؟ قال : قد كان يقال ذلك ، قال إسماعيل : فإن كان هذا الحديث محفوظا ، فإن ابن عمر جعل الذئب في هذا الموضع كلبا عقورا ، قال : وهذا غير ممتنع في اللغة والمعنى ، قال : وأما الحية فلو لم يأت فيها نص لدخلت في معنى العقرب ، وفي معنى الكلب العقور فكيف ، وقد جاء فيها النص .

حدثنا ابن نمير ، حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عبد الله ، قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ليلة عرفة فخرجت حية ، فقال : اقتلوا اقتلوا فسبقتنا . قال : وحدثنا علي ، قال : حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي [ ص: 162 ] نعم ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقتل المحرم الأفعى والأسود والعقرب والحدأة والكلب العقور والفويسقة .

قال أبو عمر : الأسود المذكور هنا الحية هو اسم من أسمائها ، وفي هذا الحديث ذكر قتل المحرم الأفعى والحية وليس في حديث ابن عمر وإذا أضفتهما إلى الخمس الفواسق المذكورة في حديث ابن عمر صرن سبعا ، وفي ذلك دليل على أن الخمس لسن مخصوصات ، وأن ما كان في معناها فله حكمها ( فتدبر ) وسيأتي بيان هذا الباب في هذا كله ، ومعناه ، واختلاف العلماء فيه - إن شاء الله - .

وذكر ابن عبد الحكم ، عن مالك كل ما ذكرنا عنه من رواية أشهب ، وابن القاسم وزاد ، ولا يقتل المحرم الوزغ ، ولا قردا ، ولا خنزيرا ، ولا يقتل الحية الصغيرة ولا صغار الدواب ، ولا فراخ الغربان في وكرها ، فإن قتل ثعلبا ، أو صقرا ، أو بازيا فداه .

[ ص: 163 ] روى ابن وهب وأشهب ، عن مالك ، قال : أما ما ضر من الطير ، فلا يقتل منه المحرم إلا الذي سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغراب والحدأة ، قال : ولا أرى أن يقتل المحرم غرابا ، ولا حدأة إلا أن يضراه ، قال : ولا بأس بقتل الفأرة والحية والعقرب ، وإن لم تضره ، قال : ولا أرى أن يقتل المحرم الوزغ ، لأنه ليس من الخمس التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلهن قيل ، فإن قتل المحرم الوزغ ، فقال : لا ينبغي له أن يقتله وأرى أن يتصدق إن قتله ، وهو مثل شحمة الأرض ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خمس من الدواب ، فليس لأحد أن يجعلها ستا ، ولا سبعا .

قال أبو عمر : لا خلاف ، عن مالك وجمهور العلماء في قتل الحية في الحل والحرم ، وكذلك الأفعى وذلك مستعمل بالنص وبمعنى النص عند جميعهم في هذا الباب فافهمه .

قال ابن القاسم : عن مالك إن طرح المحرم الحلمة ، أو القراد ، أو الحمنان أو البرغوث ، عن نفسه لم يكن عليه [ ص: 164 ] شيء ، قال : وقال مالك : في القملة حفنة من طعام ، قال : ولم أسمعه يحد أقل من حفنة طعام في شيء من الأشياء ، قال : وقال مالك : قول ابن عمر أنه كان يكره أن ينزع المحرم حلمة ، أو قرادا من بعيره أعجب إلي من قول عمر أنه كان يقرد بعيره ، وقال ابن أبي أويس : قال مالك : إنما يطرح المحرم عن نفسه القراد والنملة والذرة ، وما ليس من دواب جسده إذا كان ذلك يؤذيه ، قال : وأما دواب جسده ، فلا يلقي منها شيئا ، عن نفسه إلا أن يؤذيه شيء من ذلك فيطرحه من موضع من جسده إلى موضع غيره وينقل القملة من موضع من جسده إلى موضع منه إن شاء .

وسئل مالك عن الرجل يؤذيه القمل في إزاره ، وهو محرم ، أيضعه ويلبس غيره ؟ قال : نعم .

وقال ابن وهب : سئل مالك عن البعوض والبراغيث يقتلها المحرم أعليه كفارة ، فقال : إني أحب ذلك قال : وقال مالك : لا يصلح للمحرم أن يقتل قملة ، ولا يطرحها من رأسه إلى الأرض ، ولا من جلده ، ولا من بدنه ، فإن قتلها ، أو ألقاها أطعم قبضة من طعام ، قال : وقال لي مالك : يلقي المحرم القراد عن نفسه ، قال : وقال لي في محرم لدغته دبرة فقتلها ، وهو لا يشعر [ ص: 165 ] قال : أرى أن يطعم شيئا فقلت : أفرأيت النملة ، قال : كذلك أيضا ، فهذه جملة قول مالك في هذا الباب فتدبرها .

وجملة مذهبه عند أصحابه في هذا الباب أن المحرم لا يقرد بعيره ، ولا يطرح عنه شيئا من دوابه ، فإن طرح عن البعير قرادا أطعم ، ولا بأس عليه أن يرمي عن نفسه القراد ، لأنها ليست من دواب بني آدم ، ولا يطرح ، عن نفسه قملة ، لأنها منه وجائز أن يطرح عن نفسه جميع دواب الأرض مثل الحلمة والحمنان والنملة والذرة والبرغوث ، ولا يقتل شيئا من ذلك فإن قتل منه شيئا أطعم وجائز أن يطرح المحرم ، عن دابته العلقة ، لأنها ليست من دوابها المتعلقة فيها فهذا أصل مذهبه .

وقال أبو حنيفة : لا يقتل المحرم من السباع إلا الكلب والذئب خاصة ويقتلهما ابتدآه ، أو ابتدأهما لا شيء عليه في قتلهما وإن قتل غيرهما من السباع فداه ، قال : وإن ابتدأه غيرهما من السباع فقتله ، فلا شيء عليه ، وإن لم يبتدئه فداه إن قتله ، قال : ولا شيء عليه في قتل الحية والعقرب والحدأة هذه جملة أبي حنيفة ، وأصحابه إلا زفر ، وقال زفر : لا يقتل [ ص: 166 ] إلا الذئب وحده ، ومن قتل غيره ، وهو محرم فعليه الفدية ابتدأه ، أو لم يبتدئه .

وقول الأوزاعي ، والثوري والحسن بن حي نحو قول أبي حنيفة ، قال الثوري : المحرم يقتل الكلب العقور ، قال : وما عدا عليك من السباع فاقتله وليس عليك كفارة ، قال : ويقتل المحرم الحدأة والعقرب ، وقال أبو حنيفة ، وأصحابه في كل ذي مخلب من الطير : إن قتله المحرم من غير أن يبتدئه فعليه جزاؤه ، وإن ابتدأه الطير ، فلا شيء عليه قالوا : وإن قتل المحرم الذئاب والقملة والبقة والحلمة والقراد ، فليس عليه شيء قالوا : ويكره قتل القملة ، فإن قتلها فكل شيء يصدق به ، فهو خير منها .

قال أبو عمر : قد احتج مالك - رحمه الله - لنفسه في هذا الباب في بعض مسائله ، واحتج له إسماعيل أيضا بما ذكرنا وجملة الحجة لمذهبه ومذهب العراقيين أيضا في ذلك عموم قول الله - عز وجل - : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما . [ ص: 167 ] فكل وحشي من الطير ، أو الدواب عندهم صيد ، وقد خص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دواب بأعيانها وأرخص للمحرم في قتلها من أجل ضررها ، فلا وجه أن يزاد عليها إلا أن يجمعوا على شيء ، فيدخل في معناها واستدلوا على أنه لم يرد بقوله : ( والكلب العقور ) جملة السباع ، لأنه أباح أكل الضبع ، وجعلها من الصيد ، وجعل فيها على المحرم إن قتلها كبشا ، وهي سبع ، وأما القملة ، وما كان مثلها مما يخرج من الجسد ، فليس من باب الصيد ، وإنما ذلك من باب التفث وحلاق الشعر .

وأما الشافعي - رحمه الله - ، فقال : كل ما لا يؤكل لحمه فللمحرم أن يقتله ، قال : وللمحرم أن يقتل الحية والعقرب والفأرة والحدأة والغراب والكلب العقور ، وما أشبه الكلب العقور مثل السبع والنمر والفهد والذئب ، قال : وصغار ذلك كله وكباره سواء ، قال : وليس في الرخمة ، والخنافس والقردان والحلم ، وما يؤكل لحمه جزاء ، لأن هذا ليس من الصيد ، قال : الله - عز وجل - : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فدل [ ص: 168 ] أن الصيد الذي حرم عليهم ما كان لهم قبل الإحرام حلالا ، لأنه لا يشبه أن يحرم في الإحرام خاصة إلا ما كان مباحا قتله ، قال : وما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله ، فلا يجوز أكله ، لأن ما عملت ( فيه ) الذكاة بالاصطياد ، أو الذبح لم يؤمر بقتله حكى هذه الجملة المزني والربيع وحكى الحسن بن محمد الزعفراني عنه ، قال : وما لا يؤكل لحمه على وجهين أحدهما عدو فليقتله المحرم ، وغير المحرم ، وهو مأجور عليه - إن شاء الله - .

وذلك مثل الأسد والنمر والحية والعقرب ، وكل ما يعدو على الناس ، وعلى دوابهم وطائرهم مكابرة فيقتل ذلك المحرم ، وغيره ، وإن لم يتعرضه ، وهو مأجور على قتله ، ومنها ما يضر من الطائر مثل العقاب والصقر والبازي ، فهو يعدو على طائر الناس فيضر فله أن يقتله أيضا ، وله أن يتركه ، لأن فيه منفعة ، وقد يؤلف ويتأنس فيصطاد ويسع المحرم ، وغيره تركه ، لأنه لا يؤكل ، ولم يرغب في قتله لمنفعته ، ومنها ما يؤذي ، ولا منفعة فيه بأكل لحمه ذلك فيقتل أيضا مثل [ ص: 169 ] الزنبور ، وما أشبهه ألا ترى أنه إذا قتل الفأرة والغراب والحدأة لمعنى الضرر كان ما هو أعظم ضررا منها ، أولى أن يقتل ، فإن قال قائل : فلم تفدى القملة ، وهي تؤذي ، وهي لا تؤكل ؟ قيل ليس تفدى إلا على ما يفدى الشعر والظفر ولبس ما ليس له لبسه ، لأن في طرح القملة إماطة أذى عن نفسه إذا كانت في رأسه ولحيته ، وكأنه أماط بعض شعره فأما إذا كانت ظاهرة فقتلت ، فإنها لا تودى ، وقال الربيع عنه : لا شيء على المحرم في قتله من الطير كل ما لا يحل أكله ، قال : وله أن يقتل من دواب الأرض ، وهوامها كل ما لا يحل أكله ، قال : والقملة ليست صيدا ، ولا مأكولة ، فلا تفدى بشيء إلا أن يطرحها المحرم عن نفسه فتكون كإماطة الأذى من الشعر والظفر ، وقول أبي ثور في هذا الباب كله مثل قول الشافعي سواء .

فهذه أقاويل أئمة الفتوى في أمصار المسلمين ، وقد جاء ، عن التابعين في هذا الباب أقاويل شاذة تخالفها السنة ، أو يخالف بعضها دليلا ، أو نصا ، فمن ذلك أن إبراهيم النخعي كره [ ص: 170 ] للمحرم قتل الفأرة ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أباح للمحرم قتلها ، وعليه جماعة الفقهاء ، وقال عطاء في الجرذ الوحشي : ليس بصيد فاقتله ، وهذا قول صحيح إلا أنه تناقض ، فقال في الكلب الذي ليس بعقور : إن قتله ضمنه بقيمته ومعلوم أن الجرذ الوحشي ليس بصيد ، وقال الحكم بن عتيبة ) وحماد بن أبي سليمان : لا يقتل المحرم الحية ، ولا العقرب رواه شعبة عنهما ومن حجتهما أن هذين من هوام الأرض ، فمن قال : بقتلهما لزمه مثل ذلك في سائر هوام الأرض ، وهذا أيضا لا وجه له ، ولا معنى ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أباح للمحرم قتلهما .



حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا علي بن بحر ، قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل ، قال : حدثنا محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خمس قتلهن حلال في الحرم الحية والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور .

[ ص: 171 ] وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو قلابة ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل حية بمنى .

وروى مجاهد ، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه نحوه مرفوعا .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن عمر بن علي بن حرب ، قال : حدثنا علي بن حرب ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : سمعت الزهري يقول حدثني سالم ، عن أبيه أن عمر سئل عن الحية يقتلها المحرم ، فقال : هي عدو فاقتلوها حيث وجدتموها .

وروى شعبة ، عن مخارق بن عبد الله ، عن طارق بن شهاب ، قال : اعتمرت فمررت بالرمال فرأيت حيات فجعلت أقتلهن فسألت عمر ، فقال : هن عدو فاقتلوهن ، قال سفيان : وقال لنا زيد بن أسلم : ويحك ، أي كلب أعقر من الحية ؟ .

[ ص: 172 ] وقال عبد الرحمن بن حرملة : رأيت سالم بن عبد الله وهو محرم ضرب حية بسوطه حتى قتلها .

وقال السري بن يحيى : سألت الحسن ، أيقتل المحرم الحية ؟ قال : نعم ، وقالت طائفة : لا يقتل من الغربان إلا الغراب الأبقع خاصة .

واحتجوا بما حدثنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : خمس يقتلهن المحرم : الحية ، والفأرة ، والحدأة ، والغراب الأبقع ، والكلب العقور .

قال أبو عمر : الأبقع من الغربان الذي في ظهره ، أو بطنه بياض ، وكذلك الكلب الأبقع أيضا ، والغراب الأدرع ، والدرعي هو الأسود ، والغراب الأعصم هو الأبيض الرجلين ، وكذلك الوعل الأعصم عصمته بياض في رجله ، وقال مجاهد : ترمي الغراب ، ولا [ ص: 173 ] تقتله ، وقال به قوم ، واحتجوا بما أخبرناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن حنبل .

وأخبرنا أحمد بن الفضل ، قال : حدثنا محمد بن جرير ، قال : حدثني يعقوب بن إبراهيم قالا جميعا ، حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يزيد بن أبي زياد ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي نعم ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عما يقتل المحرم ؟ فقال : الحية ، والعقرب ، والفويسقة ، ويرمي الغراب ، ولا يقتله والكلب العقور ، والحدأة ، والسبع العادي .

قال ابن جرير ، وحدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا مروان بن المغيرة ، عن علي بن عبد الأعلى ، عن أبيه ، عن عامر بن هني ، عن محمد بن الحنفية ، عن علي أنه قال : يقتل المحرم الحية ، والعقرب ، والغراب الأبقع ، ويرمي الغراب ، والفويسقة ، والكلب العقور .

قال أبو عمر : قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر ، وغيره أنه أباح للمحرم قتل الغراب [ ص: 174 ] ، ولم يخص أبقع من غيره ، فلا وجه لما خالفه ، لأنه لا يثبت ، وجمهور العلماء على القول بحديث ابن عمر ، وما كان مثله في معناه من حديث أبي هريرة ، وغيره ، وأما حديث عبد الرحمن بن أبي نعم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : في الغراب يرميه المحرم ، ولا يقتله ، فليس مما يحتج به على مثل حديث نافع ، عن ابن عمر ، وسالم ، عن ابن عمر ، والحديث عن علي فيه أيضا ضعف ، ولا يثبت ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة ، وغيره أنه أباح للمحرم قتل الحية ، وهو قول عمر ، وعلي ، وجمهور العلماء .

وأما تقريد المحرم بعيره فأكثر العلماء على إجازة ذلك وتقريده رمي القراد ونزعه عنه ، وقتله .

روى مالك ، وغيره ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه رأى عمر بن الخطاب يقرد بعيرا له في الطين بالسقيا يعني أنه كان يغرق القراد في الطين وينزعه ، عن بعيره ، وكذلك روي عن ابن عباس ، وجابر بن زيد وعطاء لا بأس أن يقرد المحرم [ ص: 175 ] بعيره ، وهو قول الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأصحابهما ، وبه قال أبو ثور ، وأحمد ، وإسحاق وداود ، وكان عبد الله بن عمر يكره للمحرم أن ينزع القراد عن بعيره ، واتبعه على ذلك مالك ، وأصحابه ، وقال الثوري : إذا كثر القمل على المحرم فقتلها كفر ، وقال أبو ثور : لا شيء على المحرم في قتل القمل قل ، أو كثر ، وكذلك قال داود ، وهو قول طاوس ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وجابر بن زيد .

ذكر عبد الرزاق ، أخبرنا هشيم ، عن أبي بشر ، قال : سئل جابر بن زيد ، عن المحرم تسقط القملة على وجهه ، فقال : انبذها عنك ، أو عن وجهك ما حقها في وجهك ، قال : إذن تموت ، قال : موتها وحياتها بيد الله .

وقد روي عن عطاء أن في القملة حفنة من طعام كقول مالك سواء ، وهو قول قتادة .

وذكر عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران قال : كنت عند ابن عباس فسأله رجل [ ص: 176 ] قال : وجدت قملة ، وأنا محرم فطرحتها ، ثم ابتغيتها ، فلم أجدها ، فقال : تلك الضالة لا تبتغى .

وروى الثوري ، عن جابر ، عن عطاء ، عن عائشة قالت : المحرم يقتل الهوام كلها غير القملة ، فإنها منه .

قال أبو عمر : احتج من كره أكل الغراب ، وغيره من الطير التي تأكل الجيف ، ومن كره أكل هوام الأرض أيضا بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا أنه أمر بقتل الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والحية ، والفأرة ، قال : وكل ما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله ، فلا يجوز أكله .

هذا قول الشافعي ، وأبي ثور ، وداود ، وهذا باب اختلف العلماء فيه قديما ، وحديثا ، فأما اختلافهم في ذوي الأنياب من السباع فقد مضى القول في ذلك مستوعبا في باب إسماعيل بن أبي حكيم من كتابنا هذا .

وأما اختلافهم في أكل ذي المخلب من الطير ، فقال مالك : لا بأس بأكل سباع الطير كلها الرخم ، والنسور ، والعقبان ، وغيرها ما أكل الجيف منها ، وما لم يأكل ، قال : ولا بأس [ ص: 177 ] بأكل لحوم الدجاج الجلالة ، وكل ما تأكل الجيف ، وهو قول الليث بن سعد ، ويحيى بن سعيد ، وربيعة ، وأبي الزناد ، قال مالك : ولا تؤكل سباع الوحش كلها ، ولا الهر الوحشي ، ولا الأهلي ، ولا الثعلب ، والضبع ، ولا شيء من السباع .

وقال الأوزاعي : الطير كله حلال إلا أنهم يكرهون الرخم ، وحجة مالك في هذا الباب أنه ذكر أنه لم ير أحدا من أهل العلم يكره أكل سباع الطير ، وأنكر الحديث عن النبي - عليه السلام - أنه نهى عن أكل ذي المخلب من الطير .

حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد أن أباه أخبره ، قال : حدثنا محمد بن قاسم ، قال : حدثنا يوسف بن يعقوب ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا الحجاج بن أرطاة ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : كل الطير كله ، قال : وحدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : سألت عطاء ، عن الطير ، فقال : كله كله ، والحجاج بن أرطاة ليس بحجة فيما نقل .

وقال مالك : لا بأس بأكل الحية إذا ذكيت ، وهو قول ابن أبي ليلى ، والأوزاعي ، إلا أنهما لم يشترطا فيها الذكاة .

[ ص: 178 ] وقال ابن القاسم ، عن مالك : لا بأس بأكل الضفدع ، قال ابن القاسم : ولا بأس بأكل خشاش الأرض ، وعقاربها ، ودودها في قول مالك ، لأنه قال : موته في الماء لا يفسده .

وقال الليث : لا بأس بأكل القنفذ ، وفراخ النحل ، ودود الجبن ، والتمر ، ونحو ذلك ، ومما يحتج به لقول مالك ، ومن تابعه في ذلك حديث ملقام بن التلب ، عن أبيه ، قال : صحبت النبي - عليه السلام - ، فلم أسمع لحشرات الأرض تحريما ، ويحتج كذلك أيضا بقول ابن عباس ، وأبي الدرداء ما أحل الله فهو حلال ، وما حرم الله فهو حرام ، وما سكت عنه ، فهو عفو .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : لا يؤكل ذو الناب من السباع ، ولا يؤكل ذو المخلب من الطير ، وكرهوا أكل هوام الأرض نحو اليربوع ، والقنفذ ، والفأر ، والحيات ، وجميع هوام الأرض ، وحجتهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل ذي ناب من السباع ، وذي مخلب من الطير .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا أبو عوانة [ ص: 179 ] ، عن أبي بشر ، عن ميمون بن مهران ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي ناب من السباع ، وعن كل ذي مخلب من الطير .

وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا من حديث علي ، وغيره ، وأحسنها إسنادا حديث ابن عباس هذا .

وقال الشافعي : المحرم من كل ذي ناب ما عدا على الناس كالنمر ، والذئب ، والأسد ، وما شاكل ذلك قال : وهي السباع المعروفة ، قال : والمحرم من ذي المخلب أيضا كذلك ما عدا على طيور الناس ، فلا يؤكل شيء من ذلك أيضا كالشاهين ، والبازي ، والعقاب ، وما أشبه ذلك قال : وأما الضبع ، والثعلب ، والهر ، فلا بأس بأكلها ويفديها المحرم إن قتلها ، قال : وكل ما لم يكن أكله إلا العذرة ، والجيف ، والميتات من الدواب ، والطيور ، فإني أكره أكله للنهي عن الجلالة ، قال : ولو قصرت أياما حتى يغلب عليها أكل الطاهر وخرجت عن حكم الجلالة جاز أكلها .

[ ص: 180 ] قال أبو عمر : هذا عنده فيما عدا السباع العادية ، وما عدا سباع الطير التي تعدو على الطيور ، فإن هذه عنده لا تؤكل قصرت أم لم تقصر لورود النهي عنه بالقصد إليها .

قال الشافعي : الجلالة المكروه أكلها إذا لم يكن أكله غير العذرة ، أو كانت العذرة أكثر أكله ، فإن كان أكثر أكله وعلفه غير العذرة لم أكرهه ، قال : وكل ما كانت العرب تستقذره ، وتستخبثه ، فهو من الخبائث التي حرم الله كالذئب ، والأسد ، والغراب ، والحية ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، لأنها دواب تقصد الناس بالأذى ، فهي محرمة ، من الخبائث مأمور بقتلها ، قال : وكانت العرب تأكل الضبع والثعلب ، لأنهما لا يعدوان على الناس بنابهما فهما حلال .

قال أبو عمر : قد تقدم القول في السباع المأكولة ، وغير المأكولة ، وما لأهل العلم في ذلك من الائتلاف ، والاختلاف مبسوطا ممهدا في باب إسماعيل بن أبي حكيم ، فلا معنى لإعادة ذلك هاهنا .

وحجة الشافعي فيما ذهب إليه في هذا الباب نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي مخلب من الطير ، وكل ذي ناب من السباع .

[ ص: 181 ] أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا إبراهيم بن خالد الكلبي أبو ثور ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا إبراهيم بن حمزة ، قالا جميعا ، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن عيسى بن ثميلة الفزاري ، عن أبيه ، قال : كنت جالسا مع عبد الله بن عمر فسئل عن القنفذ ، فتلا ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه ) الآية ، قال : فقال إنسان ، وفي حديث أبي داود ، فقال شيخ عنده سمعت أبا هريرة يقول : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : إنما هو خبيثة من الخبائث ، فقال ابن عمر : إن كان قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو كما قال .

( قال أبو عمر : قد تقدم القول في تأويل قول الله - عز وجل - : ( قل لا أجد في ما أوحي إلي ) الآية بما في ذلك من الوجوه في باب إسماعيل بن أبي حكيم من كتابنا هذا - والحمد لله - .

[ ص: 182 ] وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، قال : حدثنا عبدة ، عن محمد بن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الجلالة وألبانها .

ومن حديث أيوب السختياني ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة من الإبل أن يركب عليها ، أو يشرب من ألبانها .

وروى جابر ، وابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا شبابة ، عن مغيرة بن مسلم ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة أن يؤكل لحمها ، أو يشرب لبنها .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا ابن المسيب ، قال : حدثني أبو [ ص: 183 ] عامر ، قال : حدثني هشام ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبن الجلالة .

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن يزيد ، حدثنا يزيد بن محمد ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبن الجلالة ، وعن لحومها ، وعن أكل المجثمة .

ورواه شعبة ، عن قتادة بإسناده مثله .

ومن حجة الشافعي ، ومن قال بقوله أيضا في هذا الباب أنه ما يجوز أكله فلا يحل قتله ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من قتل عصفورا بغير حقه عذب ، أو نحو هذا ، قيل : فما حقه يا رسول الله ؟ قال : يذبحه ، ولا يقطع رأسه ، حدثناه سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا عمرو بن دينار ، قال : أخبرنا صهيب مولى عبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب [ ص: 184 ] قال : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قتل عصفورة فما فوقها بغير حقها سأله الله عن قتلها ، قالوا : يا رسول الله ، وما حقها ؟ قال : أن تذبحها ، فتأكلها ، ولا تقطع رأسها فترمي به ، قال الحميدي : فقيل لسفيان إن حمادا يقول عن عمرو أخبرني صهيب الحذاء ، قال : ما سمعت عمرا قط قال صهيب الحذاء ما قال إلا مولى عبيد الله بن عامر ، قالوا : ففي هذا أوضح الدلائل أن كل ما يحل أكله ، فلا يجوز قتله ، قالوا : وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والحية ، والفأرة في الحل ، والحرم ، فلا يجوز أكل شيء من هذه ، وما كان مثلها قالوا : وكل ما لا يجوز أكله فلا بأس بقتله في الحرم ، والحل لمن شاء ، وذكروا ما حدثنا به محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا وكيع ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : [ ص: 185 ] الغراب ، والحدأة ، والكلب العقور ، والعقرب ، والفأرة .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا حمزة ( بن محمد ) ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أخبرنا النضر بن شميل ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، قال : سمعت سعيد بن المسيب يحدث ، عن عائشة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الحية ، والكلب العقور ، والغراب الأبقع ، والحدية ، والفأرة .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف ، قال : أخبرنا عبد الله بن محمد بن علي ، قال : حدثنا عمر بن حفص بن أبي تمام ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أنس بن عياض ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أنه قال : من يأكل الغراب ، وقد سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاسقا ؟ والله ما هو من الطيبات .

وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، قال : كره رجال من أهل العلم أكل الحدأة ، والغراب حيث سماهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فواسق الدواب التي تقتل في الحرم .

[ ص: 186 ] قال أبو عمر : من كره أكل الغراب ، والفأرة ، وسائر ما سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاسقا جعل ذلك من باب أمره بقتل الوزغ وتسميته له فويسقا ، والوزغ مجتمع على تحريم أكله .

أخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا عبد الحميد بن جبير بن شيبة ، عن سعيد بن المسيب ، عن أم شريك قالت : أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الأوزاغ .

وحدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثني عبد الحميد بن جبير بن شيبة الحجبي ، أنه سمع ابن المسيب يقول أخبرتني أم شريك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الأوزاغ .

وحدثنا خلف بن القاسم ، قال : أخبرني الحسن بن الخضر الأسيوطي ، قال : حدثنا القاسم بن عبد الله بن [ ص: 187 ] مهدي ، قال : حدثني أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه أن النبي - عليه السلام - أمر بقتل الوزغ ، وسماه فويسقا .

وأخبرنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : للوزغ فويسق ، ولم أسمعه أمر بقتله .

ورواه ابن وهب ، عن مالك ، ويونس ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : للوزغ الفويسق لم يزد .

قال أبو عمر : وليس قول من قال : لم أسمع الأمر بقتل الوزغ بشهادة ، والقول قول من شهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الوزغ ، وقد أجمعوا أن الوزغ ليس بصيد ، وأنه ليس مما أبيح أكله .

[ ص: 188 ] حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، ( قال : حدثنا أبو داود ) ، قال : حدثنا أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه ، قال : أمر رسول الله - عليه السلام - بقتل الوزغ ، وسماه فويسقا ، والآثار في قتل الوزغ كثيرة جدا ، وأما الآثار في قتل الحيات جملة في الحل وغيره فلها مواضع من كتابنا في حديث نافع ، وغيره ، وستأتي - إن شاء الله - .

أخبرنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا محمد بن فضيل .

وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن عمرو بن جبلة ، قال : حدثنا مسلم بن قتيبة جميعا ، عن همام بن يحيى ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك ، قال : أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمر عتيق فجعل يفتشه ويخرج السوس منه وينقيه .




الخدمات العلمية