الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ظاهره رجوع الكناية إلى المذكورين قبله وهم الذين اعترفوا بذنوبهم ؛ لأن الكناية لا تستغني عن مظهر مذكور قد تقدم ذكره في الخطاب ، فهذا هو ظاهر الكلام ومقتضى اللفظ .

وجائز أن يريد به جميع المؤمنين وتكون الكناية عنهم جميعا لدلالة الحال عليه ، كقوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر يعني القرآن ، وقوله : ما ترك على ظهرها من دابة وهو يعني الأرض ، وقوله : حتى توارت بالحجاب يعني الشمس ، فكنى عن هذه الأمور من غير ذكرها مظهرة في الخطاب لدلالة الحال عليها كذلك قوله : خذ من أموالهم صدقة يحتمل أن يريد به أموال المؤمنين ، وقوله : تطهرهم وتزكيهم بها يدل على ذلك ، فإن كانت الكناية عن المذكورين في الخطاب من المعترفين بذنوبهم ، فإن دلالته ظاهرة على وجوب الأخذ من سائر المسلمين ؛ لاستواء الجميع في أحكام الدين إلا ما خصه الدليل ؛ وذلك لأن كل حكم حكم الله ورسوله به في شخص ، أو على شخص من عباده ، أو غيرها فذلك الحكم لازم في سائر الأشخاص إلا ما قام دليل التخصيص فيه

وقوله تعالى : تطهرهم يعني إزالة نجس الذنوب بما يعطي من الصدقة ؛ وذلك لأنه لما أطلق اسم النجس على الكفر تشبيها له بنجاسة الأعيان ، أطلق في مقابلته وإزالته اسم التطهير كتطهير نجاسة الأعيان بإزالتها ، وكذلك حكم الذنوب في إطلاق اسم النجس عليها ، وأطلق اسم التطهير على إزالتها بفعل ما يوجب تكفيرها ، [ ص: 356 ] فأطلق اسم التطهير عليهم بما يأخذه النبي صلى الله عليه وسلم من صدقاتهم ، ومعناه أنهم يستحقون ذلك بأدائها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لو لم يكن إلا فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الأخذ لما استحقوا التطهير ؛ لأن ذلك ثواب لهم على طاعتهم وإعطائهم الصدقة ، وهم لا يستحقون التطهير ولا يصيرون أزكياء بفعل غيرهم ، فعلمنا أن في مضمونه إعطاء هؤلاء الصدقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك صاروا بها أزكياء متطهرين .

وقد اختلف في مراد الآية هل هي الزكاة المفروضة ، أو هي كفارة من الذنوب التي أصابوها ، فروي عن الحسن أنها ليست بالزكاة المفروضة ، وإنما هي كفارة الذنوب التي أصابوها ، وقال غيره : " هي الزكاة المفروضة " . والصحيح أنها الزكوات المفروضات إذ لم يثبت أن هؤلاء القوم ، أوجب الله عليهم صدقة دون سائر الناس سوى زكوات الأموال ، وإذا لم يثبت بذلك خبر فالظاهر أنهم وسائر الناس سواء في الأحكام ، والعبادات وأنهم غير مخصوصين بها دون غيرهم من الناس ولأنه إذا كان مقتضى الآية وجوب هذه الصدقة على سائر الناس لتساوي الناس في الأحكام إلا من خصه دليل

فالواجب أن تكون هذه الصدقة واجبة على جميع الناس غير مخصوص بها قوم دون قوم ، وإذا ثبت ذلك كانت هي الزكاة المفروضة إذ ليس في أموال سائر الناس حق سوى الصدقات المفروضة ، وقوله : تطهرهم وتزكيهم بها لا دلالة فيه على أنها صدقة مكفرة للذنوب غير الزكاة المفروضة ؛ لأن الزكاة المفروضة أيضا تطهر وتزكي مؤديها ، وسائر الناس من المكلفين محتاجون إلى ما يطهرهم ويزكيهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية