الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : يقال : خانه يخونه خونا وخيانة إذا لم يف له ، والسيف إذا نبا عن الضربة فقد خانك ، وخانه الدهر إذا تغير حاله إلى الشر ، وخان الرجل الرجل إذا لم يؤد الأمانة ، وناقض العهد خائن ، لأنه كان ينتظر منه الوفاء فغدر ، ومنه قوله تعالى : ( وإما تخافن من قوم خيانة ) [ الأنفال : 58 ] أي نقضا للعهد ، ويقال للرجل المدين : إنه خائن ، لأنه لم يف بما يليق بدينه ، ومنه قوله تعالى : ( لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم ) [ الأنفال : 27 ] ، وقال : ( وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل ) [ الأنفال : 71 ] ، ففي هذه الآية سمى الله المعصية بالخيانة ، وإذا علمت معنى الخيانة ، فقال صاحب " الكشاف " : الاختيان من الخيانة ، كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : أن الله تعالى ذكر ههنا أنهم كانوا يختانون أنفسهم ، إلا أنه لم يذكر أن تلك الخيانة كانت في ماذا ؟ فلا بد من حمل هذه الخيانة على شيء يكون له تعلق بما تقدم وما تأخر ، والذي تقدم هو ذكر الجماع ، والذي تأخر قوله : ( فالآن باشروهن ) ، فيجب أن يكون المراد بهذه الخيانة الجماع ، ثم ههنا وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : علم الله أنكم كنتم تسرون بالمعصية في الجماع بعد العتمة والأكل بعد النوم وتركبون المحرم من ذلك ، وكل من عصى الله ورسوله فقد خان نفسه وقد خان الله ، لأنه جلب إليها العقاب ، وعلى هذا القول يجب أن يقطع على أنه وقع ذلك من بعضهم لأنه لا يمكن حمله على وقوعه من جميعهم ، لأن قوله : ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) إن حمل على ظاهره وجب في جميعهم أن يكونوا مختانين لأنفسهم ، لكنا قد علمنا أن المراد به التبعيض للعادة والإخبار ، وإذا صح ذلك فيجب أن يقطع على وقوع هذا الجماع المحظور من بعضهم ، فمن هذا الوجه يدل على تحريم سابق وعلى وقوع ذلك من بعضهم ، ولأبي مسلم أن يقول قد بينا أن الخيانة عبارة عن عدم الوفاء بما يجب عليه ، فأنتم حملتموه على عدم الوفاء بطاعة الله ، ونحن حملناه على عدم الوفاء بما هو خير للنفس وهذا أولى ، لأن الله تعالى لم يقل : علم الله أنكم كنتم تختانون الله ، كما قال : ( لا تخونوا الله ) [ الأنفال : 27 ] بل قال : ( كنتم تختانون أنفسكم ) ، فكان حمل اللفظ على ما ذكرناه إن لم يكن أولى فلا أقل من التساوي وبهذا التقدير لا يثبت النسخ .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : أن المراد : ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) لو دامت تلك الحرمة ومعناه : أن الله [ ص: 92 ] يعلم أنه لو دام ذلك التكليف الشاق لوقعوا في الخيانة ، وعلى هذا التفسير ما وقعت الخيانة ويمكن أن يقال : التفسير الأول أولى ؛ لأنه لا حاجة فيه إلى إضمار الشرط وأن يقال : بل الثاني أولى ، لأن على التفسير الأول يصير إقدامهم على المعصية سببا لنسخ التكليف ، وعلى التقدير الثاني : علم الله أنه لو دام ذلك التكليف لحصلت الخيانة فصار ذلك سببا لنسخ التكليف رحمة من الله تعالى على عباده حتى لا يقعوا في الخيانة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( فتاب عليكم ) فمعناه على قول أبي مسلم فرجع عليكم بالإذن في هذا الفعل والتوسعة عليكم ، وعلى قول مثبتي النسخ لا بد فيه من إضمار تقديره : تبتم فتاب عليكم فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وعفا عنكم ) فعلى قول أبي مسلم معناه وسع عليكم أن أباح لكم الأكل والشرب والمعاشرة في كل الليل ، ولفظ العفو قد يستعمل في التوسعة والتخفيف . قال عليه السلام : " عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق " ، وقال : " أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله " ، والمراد منه التخفيف بتأخير الصلاة إلى آخر الوقت ، ويقال : أتاني هذا المال عفوا ، أي سهلا فثبت أن لفظ العفو غير مشعر بسبق التحريم ، وأما على قول مثبتي النسخ ، فقوله : ( عفا عنكم ) لا بد وأن يكون تقديره : عفا عن ذنوبكم ، وهذا مما يقوي أيضا قول أبي مسلم لأن تفسيره لا يحتاج إلى الإضمار ، وتفسير مثبتي النسخ يحتاج إلى الإضمار .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية